قضايا

علي حسين: شوقي جلال.. الطريق إلى مجتمع العلم

قبل ما يقارب الثلاثين عاما إلا بضعة شهور وقع بيدي كتاب "بنية الثورات العلمية" المؤلف لم اسمع باسمه من قبل "توماس كون" والمترجم قرأت له في نهاية السبعينيات ترجمته الرائعة لرواية كازنتزاكيس" المسيح يصلب من جديد "، وكانت هذه الرواية قد قدمها على خشبة المسرح الصديق الراحل عوني كرومي . كنت اتابع مقالات شوقي جلال في مجلة الفكر المعاصر، واتذكر انني دخلت عالم البراغماتية وفلاسفتها من خلال سلسلة مقالات كان ينتقد فيها هذه الفلسفة التي وصفها بانها فكرة طبقية وفلسفة نفعية وتسعى لانكار الواقع الموضوعي، بعد ذلك سيعرفني شوقي جلال على عالم النفس الروسي الشهير إيفان بافلوف الحاصل على نوبل عام 1904، من خلال ترجمته لكتاب " بافلوف وفرويد " لهاري ويلز وقد صدر بجزئين .واذا تفحصنا الترجمات التي اصدرتها سلسة عالم المعرفة لشوقي جلال سنجد العلم هو المؤشر الاول فيها حيث تنوعت بين " تشكيل العقل الحديث " و" فكرة الزمن عبر التاريخ " و" لماذا العلم ؟" و"الالة قوة وسلطة " وسلسلة " تاريخ العلم "، فيما كانت ترجماته الاخرى يطغي عليها جانب الليبرالية والتنوير حيث ترجم: " افريقيا في عصر التحول الاجتماعي " و" العالم بعد مائتي عام " و" لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ " و" التنين الاكبر " و" مستقبل السياسة الراديكالية " و" التنمية حرية " لامارتيا سن، و" كامي وسارتر " و" التنوير الاتي من الشرق " و" صعود الهند والصين " و" فكرة حقوق الانسان " . فيما اصدر له المركز القومي للترجمة العديد من الكتب ابرزها " الانسان اللغة الرمز " و" جغرافية الفكر " وحياة فيثاغورس وتعاليمه " و" موجات جديدة في فلسفات التكنولوجيا " و" فكرة الثقافة " و" الثقافات وقيم التقدم " و"السفر بين الكواكب " و" الثقافة منظور دارويني " و" تطور الثقافة " .في كل ترجماته وكتاباته ظل شوقي جلال يطرح سؤال: تُرى ما هو دور العلم في حياتنا؟، وهل يمثل العلم سلطة، أو طرفا في سلطةٍ مرجعية يمكن ان تكون سندنا في حياتنا وأحكامنا الفكرية؟ بل بلغت بعض اسئلته " حد النزق " كما يقول، فاخذ يطرح اسئلة من عينة: " وماذا عسانا أن نبدع في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية إبداعا على مستوى العصر "، والسؤال الاهم: هل يستقيم لنا في بيئتنا الثقافية أن نتحدث عن العلم دون أن يكون في ذلك تجاوز للتطور التاريخي وتطاولا على إنجاز هو ابن بيئةٍ أخرى؟ .في كتابه حوار مع السلف يكتب شوقي جلال: " والعلم أداة تحقيق الذات عن وعي ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وإدارة الدفاع عن النفس وكفالة الأمن والانتصار في صراع الوجود .. هي أداتنا للتعبير عن الهويَّة وتأكيد أصالتها بعيدا عن تهويمات أيديولوجية، لأن الهوية في جوهرها فعل الذات الواعية .. فعل إنجاز (النحن) المجتمعية في الاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر، وبذا تدعم الانتماء وترسخ عوامل تلاحم بنية المجتمع"، ويكرر شوقي جلال السؤال الذي يطرحه في مقدمات بعض كتبه المترجمة: لماذا تخلَّفنا وتقدم غيرنا؟، والإجابة تكمن في غربة العلم في حياتنا وغربة المستقبل أو غيابه عن إرادتنا. والاهم غياب قيمة مغامرة المعرفة واكتشاف المجهول وحرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وأن التنوع إثراءٌ للفكر وازدهار حضاري .

يرى شوقي جلال، المولود في القاهرة في الثلاثين من تشرين الاول عام 1931، ان العلم هو بيئة وتاريخ وثقافة مجتمع تُحدد طبيعة رؤية الفرد والمجتمع إلى الحياة وأسلوب ممارستها .

ولد وعاش طفولته في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة، وكان تسلسله العاشر من بين 17 شقيقا وشقيقة، الاب صاحب ورشة صناعية، شغوف بقراءة الكتب واقتناء الاسطوانات الموسيقية، وجد الصبي في مكتبة والده الصغيرة ضالته، كتب مصورة وقصص وكتب تاريخ، كان الاب اول من نبه ابنه لضرورة قراءة العلم، ويتذكر انه سمع باسم داروين للمرة الاولى في احد مجالس والده التي كان يعقدها في صالون بيته ، تتعرض العائلة لمحنة مالية بضطر خلالها الاب ان يدخل ابنه احدى المدارس الثانوية الخيرية، أي مدارس الفقراء، في المدرسة يستمع للمرة الاولى الى موسيقى فاغنر الذي تعلق به فيما بعد، ومن بسطيات الكتب حصل على مؤلفات محمد عبده، وقرأ طاغور وروسو، ورغم ايمانه بالعلم والتطور جذبته فرق الجوالة التي شكلها الإخوان المسلمون، وانضم اليها في بداية الاربعينيات، لكنه تركها بعد فترة، لكنه فوجئ باعتقاله عام 1948 ضمن الحملة التي شنتها الدولة ىنذاك على تنظيم الاخوان . ولا حقته تهمه الانضمام الى الاخوان فتم اعتقاله ثانية عام 1954 بعد الازمة بين عبد الناصر وتنظيم الاخوان

التحق بالجامعه طالبا في قسم الفلسفة وعلم النفس كلية الاداب وكان ابرز اساتذته يوسف كرم وعالم النفس مصطفى زيور ، عام 1935 نشر اول كتبه بعنوان " مذكرات تشارلز داروين " صدر ضمن سلسلة " كتابي" التي يصدرها حلمي مراد، في السجن عام 1954 تعرف على الشيوعي البارز صلاح حسين ووجد فيه نموذجا للمثقف المصري الصلب. عام 1956 يعمل معيدا للفلسفة وعلم النفس في معهد المعلمين، بعدها يبدأ رحلته للدراسات العليا تحت اشراف زكي نجيب محمود ويوسف مراد. بسبب مواقفه السياسية يحرم لسنوات من التعيين فيلجأ الى الترجمة حيث تنشر اولى ترجماته عام 1957 وكانت كتاب " السفر بين الكواكب " والثاني كتاب بعنوان " بافلوف حياته وأعماله"، وكان جلال مهتما بافكار بافلوف واعتبر ان عالم النفس الروسي ظلم بالعربية بسبب اهتمام المترجمين العرب بكتب سيعموند فرويد، ولهذا قرر ان تكون اطروحته عن بافلوف . تعرض شوقي جلال الى الاعتقال السياسي اكثر من مرة وقضى في السجون سنوات دون محاكمة، وبلغت سنوات سجنه اكثر من 12 عاما متقطعة بدأت منذ عام 1948 وانتهت فترة ملاحقته عام 1965 يكتب انه اصر ان ينتصر " على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة والشتائم المهينة الجارحة، ولما أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر، مصر العقل الجديد " .

نشر العديد من المؤلفات ابرزها " نهاية الماركسية " وكتاب " المجتمع المدني وثقافة الإصلاح " و" الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل " و" الشك الخلاق: في حوار مع السلف " وكتاب " العولمة: الهوية والمسار" و" العقل الامريكي يفكر " و" أركيولوجيا العقل العربي " و" ثقافتنا والابداع " و" التراث والتاريخ " وفي معظم هذه الكتابات سعى شوقي جلال الى الى التحول من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير، من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة: " وهذا هو ما سينقلنا طبيعيًّا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي، الحركة مع التناقض، الفعالية بين النحن والآخر، الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام، داؤنا التاريخي؟ إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضَين، إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدلٍ مشترك مطرد لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضَين (نحن والآخر)، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر" .

يطرح شوقي جلال ازمة التفكير العربي، ويناقش مسألة هل مرجعيتنا في التفكير: عقل علمي، أم عقيدة موروثة؟ بعدها يتطرق الى هوية تراثنا الثقافي في التفكير،هل هي هوية تتنافس مع الاخر، أم قناعة بميزة نسبية تتمثَّل في موجودات طبيعية؟ تواكلية في السلوك، أم إبداع وتحدّ؟ صراع على السلطة، أم صراع على برامج ومناهج عمل؟ التركيز على رأس المال المادي أم رأس المال البشري المعرفي؟ هل نحن غبي مجتمعاتنا: رعايا أم مواطنون، هل نهجنا في الحياة والإصلاح إعادة توزيع الثروة أم خلق الثروة؟ هل نلتزم نظام حكم قائم على نزعة أبوية أم الابتكار والمشاركة الديمقراطية بين مواطنين أحرار متساوين؟ هل رأس الدولة غايته الاستقرار والمحافظة أم التطوير والتغيير والتحدي.هذه الاسئلة وغيرها شغلت شوقي جلال الذي ظل مصرا على ان قضيتنا تطوير وتحوُّل حضاري وليست إصلاحا أو تنمية، فليس في واقع البنية الاجتماعية والثقافية بحالتها الراهنة ما يستحق أن ننميه، وأزمتنا هي: " أزمة فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطارٍ من ثقافة الفعل الإنتاجي، لا ثقافة الكلمة والسكون، وثقافة الانتماء لا الاغتراب التاريخي، وليس الهدف البقاء لمجرد البقاء عيالا على الآخَر المتقدِّم المُنتِج حتى وإن زينا هذا اللغو بقولنا، كما قال فقيه شعبي: (لقد سخَّر الله لنا الغرب)، وإنما الهدف هو الوجود، والفارق بين الاثنين أن البقاء اطراد عشوائي شأن بقية الحيوانات والقناعة بالميسور، ولكن الوجود مشروع إنجازي إرادي يحقِّقه المجتمع بجهد الفكر والعمل، ويحقِّق من خلاله ذاتيته أو هُويته في تكامل متطوِّر" .

في عام 1997 اصدر شوقي جلال كتابه " على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم "، وهو الكتاب الذي فتح لي الباب لدخول عالم توماس كون المثير والعجيب .

اعود لكتاب توماس كون " بنية الثورات العلمية " الذي صدر عام 1992 ضمن سلسلة عالم المعرفة، صدرت له فيما بعد اكثر من طبعة، فيما صدرت ترجمة اخرى للكتاب عام 2007 صدرت عن المنظمة العربية للترجمة قام بها حيدر حاج اسماعيل .

يخبرنا شوقي جلال ان اختياره لترجمة كتاب " بنية الثورات العلمية " كان نابعا من نظرته الى توماس كون الذي يتميز " بمَيزة خاصةٍ قليلًا ما تتوافر عند من يضطلعون بمهمة التفلسف في إطار فلسفة العلم؛ ذلك أن العلاقة بين فلسفة وتاريخ العلم من ناحية وبين العلم من ناحيةٍ أخرى علاقةٌ يتعذَّر النظر إليها نظرةً إجماليةً شاملة لأسبابٍ عديدة، منها أن موضوع الدراسة في تحولٍ سريعٍ وعام، فضلًا عن أنه يقتضي باحثًا عامًّا موسوعيًّا يحيط بكلٍّ من العلم المُعاش والتراث الفلسفي معًا، وكذا تاريخ العلم حتى يتسنَّى له معالجته والنظر إليه تلك النظرة الكلية الشاملة لاكتشافِ ما يراه قانونًا أساسيًّا لحركة تطوُّر المعرفة العلمية " .

كان توماس كون طالب دراسات عليا في الفيزياء عندما طُلب منه أن يقدم محاضرات في دورة تدريبية حول تاريخ العلم لجمهور لا ينتمي إلى فصيلة العلماء، ويخبرنا في مقالة له أن هذه الدورة التدريبية غيرت وجهة نظره حول العلم، فاضطر إلى أن يترك أطروحته في الفيزياء ليقرّر كتابة أطروحة عن تاريخ العلم ثم إلى دراسة فلسفة العلم. في الخامسة والثلاثين من عمره يصدر كتاباً عن كوبرنيكوس بعنوان (الثورة الكوبرنيكية). بعد خمس سنوات من صدور كتاب توماس كون (الثورة الكوبرنيكية) الذي لم يحقق مبيعات،. أصدر كتابه الثاني توما (بُنية الثورات العلمية)، عام 1962 وهو كتاب متوسط الحجم كان الغرض منه كتابة بحث بعنوان (موسوعة العلوم الموحدة)، لكنه اكتشف وهو يراجع العديد من المؤلفات أن الكتب التقليدية التي يقرؤها الطلبة في الجامعات، والتي تناقش تطور العلوم ما هي إلّا عبارة عن "كتب سياحية" كما يقول، فهي تصف نظريات نشأت من تجارب علمية ناجحة أدّت إلى زيادة المعرفة. ويتساءل كون: هل يتقدم العلم بهذه الطريقة؟ والسؤال الآخر: هل أن تاريخ العلم هو سلسلة من التطور التراكمي الذي تنتج فيه النظريات العلمية انطلاقاً من النقطة التي توقفت عندها النظريات السابقة لها؟

يرى كون أن الأمور لا تسير كما يرى أصحاب "الكتب السياحية"، لأن البحث العلمي يقول كلاماً آخر، وهو إن هذه النظرة المثالية صالحة فقط في الكتب المدرسية، لأن تاريخ العلم يحتوي العديد من الانقطاعات أو ما يسميه توماس كون "الثورات العلمية" التي تنتج عن فهم مغاير للسابق وتثمر عن توجه جديد في العلم ونظرة مختلفة. هذه الثورات تعني تحولاً في النموذج المتعارف عليه من القوانين والتقنيات والأدوات المرتبطة بنظرية علمية والمسترشدة بها، والتي بها يمارس الباحثون عملهم ويديرون نشاطاتهم، والتي حالما تتأسس تتخذ اسم "العلم العادي"، ولذا فإن تاريخ العلم حسب نظرية كون يتطور بشكل مغاير، وعلى هذا النحو: تصدر نظرية علمية ما ثم تحظى بقبول المختصين، حتى تتحول إلى مجموعة متكاملة من النظريات والتطبيقات والأدوات التي تتمكن من إعطاء الجواب الحاسم في مجالها، ويصبح الغالبية من العلماء يفكرون من خلالها وينشغلون فيها. في هذه الحالة تصبح هذه النظرية نموذجاً لا بد من الاحتذاء به داخل العلم. تستمر الأمور على هذه الحال حتى يبدأ هذا النموذج بعد سنوات أو عقود أو حتى قرون بالعجز عن الإجابة على أسئلة معينة، في البداية يقول كون يتم الالتفاف على هذه الأسئلة من أجل الإبقاء على النموذج، ولكن مع تزايد الأسئلة تحين الثورة العلمية التي تبدأ بتصورات ونظريات خارج إطار النموذج السابق، بل ومعارضة له وتحمل تصوراً مختلفاً عن السابق للكون والنظريات العلمية، وبهذا يتكون نموذج علمي جديد، فنظرية نيوتن عن الجاذبية أصبحت نموذجا حتى جاء اينشتاين فطرح أسئلة من خلال هذه النظرية، ومن خلال هذه الأسئلة انبثقت النظرية النسبية والتي أحدثت ثورة علمية.

كان صدور كتاب (بُنية الثورات العلمية) صادماً للقراء، حين يفترض أن العلم لا يأخذ الإنسانية على مسار مستقيم نحو حقيقة موضوعية لكنه ينتج من خلال تراكمات ومراقبات تجريبية. يكتب توماس كون: "إن كان العلم محاولة لجعل نظرياتنا تتوافق مع الطبيعة، فإن طبيعة الإنسان حينها هي ما علينا أن نناضل من أجلها أولاً". ويضرب لنا توماس كون أمثلة كيف أن ما يسميه "العلم العادي" استمر في التواجد معظم الوقت، حيث يشتغل العلماء داخل إطار أو نموذج فكري - باراديغم - يشترك فيه كل علماء عصر معين، ويضرب مثلاً أن الناس قبل أن تدرك أن الأرض تدور حول الشمس، كان النموذج هو أن الشمس تدور حول الأرض. كان علماء الفلك ينجزون بحوثهم داخل هذا الإطار وكانوا يقدمون تفاسير لأي دليل يتعارض مع هذا النموذج. كان الاعتقاد بأن كوبرنيكوس الذي كان يشتغل داخل هذا الإطار والذي اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس، قد ارتكب خطأ في حساباته، إلّا أن الأشياء تصبح أكثر أهمية عندما يحدث ما يسميه كون "تحول في النموذج العادي"، يحدث هذا التحول عندما تتغير كل طرق الفهم جذرياً، عندها يكتشف العلماء أشياء لا تتماشى مع النموذج القائم. إن تخلي الناس عن الطرق القديمة للتفكير يتطلب وقتاً طويلاً، لكنهم عندما يتحولون إلى النموذج الجديد، تبدأ مرحلة جديدة من "العلم العادي" يشتغل فيها العلماء في إطار النموذج الجديد، وهكذا يستمر العلم في التطور. هذا ما حدث عندما تم قلب الرؤية القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، وحالما بدأ الناس في التفكير في النظام الشمسي بهذه الطريقة، كان هناك علم عادي أكثر بإمكانهم تطويره لفهم مدارات الكواكب حول الشمس.

إذن من وجهة نظر توماس كون فإن الثورات العلمية ليست حقائق جديدة، بل هي تغييرات بالجملة في الطريقة التي نرى فيها هذه الحقائق، وهذا بدوره يقودنا إلى إعادة بناء نظريات تشكل "عملية ثورية نادراً ما يكملها شخص واحد ولا تتمّ بين عشية وضحاها".

ولد توماس صمويل كون في الثامن عشر من تموز عام 1922 حصل على درجة الدكتوراه عام 1949. بعد حصوله على الدكتوراه قرر كون أن يصبح فيلسوفاً للعلم من خلال كتابته لتاريخ العلوم. تذكر محاضرات سارتون التي كان يسخر منها فأعاد قراءة كتبه عن تاريخ العلم، لكنه لم يجد أن اهتمامه الأول هو تاريخ العلم وإنما فلسفة العلوم، لأنّه شعر أن الفلسفة هي الطريق إلى الحقيقة وأن الحقيقة هي ما يسعى إليه. لتحقيق هذا الهدف، استفاد كون من قراءة كتب الفلسفة والعلوم على نطاق واسع، إضافة إلى اهتمامه بالتحليل النفسي الذي كان يأخذ دروسا فيه، حيث سمح له التحليل النفسي أن يرى جيداً وجهات نظر الآخرين، وادرك من خلاله خطأ أفكاره عن معلمه سارتون. يفشل في الحصول على كرسي الأستاذية في هارفارد، فينتقل للعمل في جامعة كاليفورنيا، وبعد صدور كتابه (بُنية الثورات العلمية) عرضت عليه هارفارد منصب بروفيسور، لكنه فضل جامعة برينستون، فالجامعة والبلدة تذكّره بالعبقري أينشتاين. صدر أول كتبه عام 1957 بعنوان (الثورة الكوبرنيكية)، بعدها أصدر عام 1961 كتاب (وظيفة البحث العلمي)، وصدر في عام 1962 كتاب (بنية الثورات العلمية) ثم كتاب (مصادر تاريخ فيزياء الكم) عام 1967، وكتاب (دراسات مختارة) عام 1977. توفي توماس كون في السابع عشر من يونيو - حزيران عام 1996، متأثراً بمرض السرطان الذي لم يمهله طويلاً.

في مقدمة كتاب (بُنية الثورات العلمية) يضع توماس كون مدخلاً بعنوان (دور التاريخ) يؤكّد فيه أن نظريات التطور العلمي التي لخصها في كتابه (بُنية الثورات العلمية) تأتي في مقابل نظريات "رئيسنا سير كارل بوبر الأكثر شهرة"، ويخبرنا كون أنّه ظل معجباً لسنوات طويلة تجعله لا يستطيع أن يتحول بسهولة إلى ناقد لـ "الأستاذ" بوبر، وأنهما قد أكّدا أن تقدم العلم ثوريّ، وكلاهما استبعد أن العلم يتقدم بالنمو. عندما صدر كتاب توماس كون (بُنية الثورات العلمية) بيع منه أكثر من مليون نسخة وتُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وظل لثلاثة عقود الكتاب العلمي الأكثر شعبية .

في عامه الاخير اصيب شوقي جلال بمرض الفشل الكلوي، يكتب في واحدة من مقالاته الاخيرة: " تجاوزتُ التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظره مودِّع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحوٍ غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعُد مجتمعًا بل تجمعًا سكنيًّا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك وهو أنها باتت تجمعًا سكنيا لغرائزَ منفلتة. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحَّد تاريخيًّا، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية، مصر المستقبل. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب. ولكن تحت الرماد جذوة نارٍ قد تتأجَّج ويشتد لهيبها، ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل. هكذا علَّمَنا التاريخ، ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.

رحل شوقي جلال في السابع عشر من ايلول 2023 بعد ان قدم للمكتبة العربية ما يقارب الثمانين كتابا، تاليفا وترجمة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم