قضايا

مريم لطفي: ولاتبطلوا صدقاتكم.. ألمنّ في القرآن الكريم

"ياأيُّها الذين آمنوا لاتُبطلوا صدقاتِكم بالمنِّ والأذى" البقرة 264

المنّ في اللغة أصله الانعام والفضل وهو بذل العطاء والاحسان، والمنانّ إسم من أسماء الله الحسنى ويعني المتفضل بعطاءه وإحسانه وأنعامه ورزقه، فالله يمنّ على عباده بباذخ العطايا وأجمل النعم، وآلاء الله جنة عرضها السموات والارض (وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها) النحل 18 فهو المنان على عباده ولامنّة لأحدٍ منهم عليه جلّ وعلا.

والمنان صفة مبالغة من المنّ وهي صفة الخالق الذي (منّ) علينا بالحياة ووالتفكير والنطق وصورنا بأجمل الصور، وأنعم علينا بجزيل العطايا وأسبغ نعمه ظاهرة وباطنة وتوّجنا بنعمة العقل وخصّنا بجميل الصفات وبعث فينا الرسل والانبياء لهدايتنا طريق الحق (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) ال عمران، 164

وإذا نظرنا إلى أسماء الله الحسنى والتي هي بذات الوقت صفاته جلّ وعلا سنجد إن بعضا من هذه الصفات تتحلى بها شخصية المؤمن كالكرم والرحمة والجود والمغفرة والسلام وغيرها من الصفات التي تعطي المؤمن طيفا من الصفات الحميدة والفضائل النبيلة، لكن صفة المنان أختصت بالذات الالهية فهو وحده الذي يمنّ على عباده بالنعم وعندها تكون موضع فخر واعتزازوعرفان من العبد بأن الله (منّ) عليه بجميل نعمائه فيكون ممتنا لله والحمد والشكر هو عنوان ردّالجميل.

وقد مدح الله جلّ وعلا (المنفقين) أموالهم في سبيل الله في السراء والضراء الباذلين الخير الذين يهبون بلا (منًّ) لمن أحسنوا اليه يبتغون ثوابهم من الله جل وعلا (الذين يُنفقونَ أموالهم في سبيلِ الله ثم لايتبعونَ ماأنفقوا منّاً ولاأذىً لهم أجرهم عند رَبِّهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 262

وللمنّ الإلهي وجوه كثيرة أخذت سبلا متنوعة للعطاء نذكر منها:

-المنّ بالإيمان: كما في قوله تعالى (فعند الله مغانم كثيرةٌ كذلكَ كٌنتم من قبلُ فمنَّ الله عليكم فتبيوا إنَّ الله كان بما تعملون خبيرًا) النساء 94

-المنّ بالهدى: كما في قوله تعالى (يمنّون عليك أن أسلموا قل لاتمنّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) الحجرات 17

-المنّ بإرسال الرسل لهداية الناس: كما في قوله تعالى (لقد منَّ الله على المؤمنينَ إذ بعثَ فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياتهِ ويزكيهم ويعلمهم الكتاب َ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين) ال عمران 164

- المنّ بالنبوة والهداية: كما في قوله تعالى (ولقد مننا على موسى وهارونَ ونجيناهما من الكرب العظيم) الصافات 114-120

- المنّ على المستضعفين في الارض وتمكينهم: كما في قوله تعالى (ونريدُ أن نَمنَّ على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الارض) القصص 5-6

- المنّ بالأجر غير المقطوع وغير الممنوع: كما في قوله تعالى (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون) فصلت8

- المنّ بالنجاة من العذاب: كما في قوله تعالى (قالوا إنّا كنا قبل في أهلنا مُشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم) الطور25-27

 وأما المنّ المحمود من الخلق فهو ماكانت نيته خالصة لله جلّ وعلا كمساعدة الفقراء والمحتاجين وإغاثة الملهوف والاحسان الى الاهل والاقارب والجيران وتقديم المساعدة لمن يحتاجها فشأنه شأن المطر عطاءه لاينضب كما في قوله تعالى (الذين ينفقونَ أموالهم في سبيل الله ثم لايتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولاخوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) البقرة263-262

وعلى الجانب الآخر فقد ورد المنّ المذموم الذي يجعل من العطايا سبيلا لإذلال الآخر وتحقيره وموضعته بموضع المهانة وهذا المنّ القبيح إنما يحط من قدر صاحبه ولايزيده إلاخسارا، فالمال مال الله والجاه من الله ووحده القادر أن يقدّر أويوسع وله مقاليد الامور، وهذا النوع المذموم من المنّ يكون أما بالقلب وهوأن يرى الشخص نفسه محسنا فيمتلأ قلبه منّا

وكِبرا، وأما أن يكون المنّ باللسان وهو أخبار الاخر بأنه تفضل عليه ولايفتأ أن يذكره بذلك كلما أ’تيحت الفرصة له وكأنما ينتظر مكافأة منه (قول معروف خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى والله غني حليم) البقرة263

والمنّ المذموم يأخذ عدة اتجاهات منها:

- التجرؤ بالمنّ على الله جل وعلا: كقوله تعالى (يمنّونَ عليكَ أَن أسلموا قُل لاتمنّوا عَليَّ إسلامكم بل الله يَمنُّ عليكم أن هداكمْ للأيمانِ إن كنتمْ صادقينَ) 17 الحجرات، وللاسف فهذا اللون من المنّ موجود فعلا وفي كل تفاصيل الحياة وحتى بإداء الواجبات الشرعية، فالمنافق بدل الامتنان للخالق على نعمائه فهو يمنّ عليه والله غني عن العالمين

- المنّ بالعطية: وهو جوهر الموضوع فالمنّ يُبطل الثواب والاجر (ياأيها الذينَ آمنوا لاتُبطلوا صدقاتكم بالمنَّ والاذى) البقرة264

والانسان المنان شخص مغرور امتلأت نفسه كبرا، فهو يرى الناس بعين طبعه، فتراه يمنّ على الغريب والقريب وتكاد أن تكون هذه الصفة ملازمة له، يزينها له قرينه ليجعل منه مطية ماتفتأ تذكّر الاخر بكل شئ مهما كان صغيرا، وبدلا من أن يكون ممتنًا لنعم الله ولقدرته على العطاء فإنه يكون كثير المنّ.

وقد مثّل الله جل وعلا الشخص الذي يمنّ ويؤذي بالصدقة كالذي ينفق ماله رئاءَ الناس وليس لوجه الله –ومااكثرهم بين ظهرانينا- ليقال عنه جوادا وينال الثناء، فمثّله الله بصفوانٍ عليه تراب فيظنهُ الظان أرضاخصبة فاذا أصابه المطر ذهب التراب وبقي صلدا، فهذا التشبيه الرائع يعكس صورة الشخص الذي يمنّ على الاخرين ويكشف سوء نيته وهكذا تبطل الصدقة ولاينوبه غير سخط الله عليه، فهو من الذين لاينظر الله اليهم يوم القيامة.

 فالله هو العاطي الوهّاب وهو وحده الذي يمن على عباده بجميل آلائه، فالمنّ يختص بعطاء الله وهباته للعبد، لكن العبد إذا منَّ على الاخر بعطاء أو معروف واتبعه بتذكير وتعيير فهو عطاء قبيح ومذموم

والمنّ من النقائض المذمومة في النفس البشرية، فمامعنى العطاء والندم عليه أو اتخاذه سبيلا للتذكير ! فهذا الفعل مستقبح عند الله وعند الناس، وفي القرآن الكريم وردت آيات تحذيرية من قبح المنّ قال تعالى (ولا تمنن تستكثر) المدثر6 فالمنّ والبخل وجهان لعملة واحدة، لان البخيل ينظر الى السراب بعين الحقيقة وتعظم في نفسه العطية وإن كانت صغيرة ويتعجب بأي شئ مهما ضئُل، والمنّ ممحق للبركة جالب لغضب الله وصاحبه مطرود من رحمة الله، إذ لايمكن أن يعطي الانسان ويتباهى ويتفاخر بشئ لايملكه فالملك لله الواحد القهار وهي صفة من صفات المنافق ومظهر من مظاهر سوء الخلق، لا ن المنان لاينال من منّه غير نقصان ماله من غير أجر أوثواب.

 فالصدقة التي يهبها الانسان والمفترض أن تكون خالصة لله وغير مشروطة فإن اجتمعت المنة مع الصدقة أبطلت الاجر وإن وقعت في المعروف كدرت الصنيعة.

والمنّ البشري هو عنصر مكروه مذموم يحيل الصدقة أذىً للواهب والموهوب!!

فالواهب يشعر بالكبر والخيلاء والفخر لانه أوهب عطايا الله لمحتاج فهو كوهب الامير بما لايملك وتكبّره هذا إنما هو صغر ويزيده بعدا عن الله لرغبته برؤية أخيه كسيرا ذليلا فهو شخص مرائي وإن توهم بإنه عمل الخير، فهو مخطئ وفي ضلال كبير، فمن شروط الهبة المتصدق بها ألا تعلم اليد اليمنى بعطايا اليسرى، وهنا يُدخل المنان نفسه في سخط الله عليه ويلتحق بثلة ابتعدت عن رحمة الله .

وعليه وبعد هذا الابحار المتواضع في المنّ وتأويلاته نصل إلى حقيقة مفادها إن كل شئ في الحياة له وجهان وجه أبيض وهو طريق الخير ووجه أسود وهو طريق الشروكل وجه يعتمد على نوع التصرف فليكن معروفنا خالصًا لوجه لله سبحانه وتعالى.

ومن بديع خلق الله إنه جعل المنّ والسلوى من أجمل الطيبات وهو مايطلق عليه (منّ السماء) أو كما يسمى في شمال العراق (منّ السما) أو (ندى السما) أو (العسل السماوي) وتحديدا في مدينة السليمانية، وهو مادة صمغية دبقة يميل لونها الى الخضار شبيهة بالدبس تُنتج من أشجار المكسرات كالجوز والبلوط ولسان العصفور تتجمع فوق الجذوع والاوراق، ويقوم المزارعون بجمعها في الصباح الباكر قبل تعرضها للشمس حتى لاتفقد لزوجتها وتكوّر بشكل كرات وتدحرج وتقدم للاكل، وهي هبة ربانية بامتياز فلابذور ولاشتلات وليس للبشر دخل فيها سوى جمعها، سبحان الل ه (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى، كلوا من طيبات مارزقناكم) البقرة 57

وقد تعددت الروايات حول حلوى المنّ لكن الثابت إنه الرزق الطيب الذي أنزله الله ببركاته ورزقه الوفير وهو رمز القدرة الالهية للطيبات، واما السلوى فهو نوع من الطيور.

وأخيرا إذا تأملنا بهذه الكلمات قليلا وكثيرا (المُنفِق) و(المُنافق) فهي تبدأ بنفس المقطع (المنّ) لكن الفرق بينهما حرف واحد وهو الالف وهذا الألف فيه ماشاء الله من التأويل الذي يلخص موضوع المن ..

***

مريم لطفي الالوسي

 

في المثقف اليوم