قضايا

الكواكبي وتشخيصه لداء التخلف

علي المرهجأعتقد أن (الكواكبي) كان أكثر المُفكرين النهضويين ادراكاً لاشكالية التخلف الذي نُعاني منه بالقياس لمفكرين سبقوه، فلم يكن مشغولاً بعُقدة اسمها "الآخر" والعمل على رمي الكُرة في سلته بوصفه السبب فيما نحن فيه من تخلف، لخداع البُسطاء بان سلتنا نظيفة لا هدف في مرمانا!.

لقد كان (الكواكبي) عارفاً ومُشخصاً لأسباب تخلفنا التي كشف فيها عن خللنا في عدم اتقاننا للعبة الوعي الذي يقتضي شحذ الأذهان وتنمية العقول بما يجعلها أكثر وعياً بتغيرات الأحوال وادراك الأهوال، لا أن نكتفي برمي الكرة في ملعب "الآخر" لتفادي نقد "الأنا" في استقالة الوعي.

لم يكن (الكواكبي) مشغولاً بالتشكيك بنوايا "الآخر" بقدر ما كان مشغولاً بالكيفية التي يستطيع من خلالها تشخيص الداء ومعرفة الدواء، فعلى الرغم من أن الكثير من المُفكرين النهضويين قد كتبوا عن الاستبداد ومضَاره وكلهم كانوا متأثرين بأفكار الغرب ولم يشذّ (الكواكبي) عن هذه القاعدة، لا سيما ما طرحه فلاسفة عصر الأنوار، إلّا أن ميّزة (الكواكبي أنه كان يكتب بحس الانتماء الصادق وبتشخيص معرفي لأسباب تخلف الشرق الذي وجده كامناً في شيوع النزعة الاستبدادية في مجتمعاتنا: في الأسرة والقبيلة عبر الوصاية الأبوية ، وفي السياسة عبر "التفويض الإلهي" والوصاية الدينية، فالاستبداد بحسب ما يعتقد (الكواكبي) متأصل تاريخياً في حكوماتنا وهو "صفة للحكومة المُطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب".

يُعرف الاستبداد: بأنه "اقتصار المرء على رأي نفسه في ما ينبغي الاستشارة فيه والمرادف للاستعباد والاعتساف والتسلط والتحكم" . وهو سبب ما وصل إليه المجتمع الشرقي من حال، لذلك يُريد (الكواكبي) "تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين عسى أن يعرف الشرقيون أنهم المتسببون لما هم فيه"، وهنا تبرئة لـ "الآخر" الذي نضعه نحن دائما اتهام لتبرئة الذات، بأننا نجعله ليس موضع اتهام فقط، بل شماعة التخلف والانهزام.

المُستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويُحاكمهم بهواه لا بشريعتهم ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس ليمنعهم عن النطق بالحق والتداعي لمطالبتهم.

والمُستبد عدو الحق، عدو الحرية، وقاتلهما.

والمستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزا، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم..

والمُستبد إنسان مُستعد بالفطرة للخير والشر، فعلى الرعية أن تكون مُستعدة لأن تعرف ما هو الخير وما هو الشر، مُستعدة لأن تقول لا أُريد الشر..

والمُستبد إنسان، والإنسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب، فالمُستبد يود أن تكون رعيته كالغنم...، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خدمت، وإن ضربت شرست، بل عليها أن تعرف مقامها هل خُلقت خادمة للمُستبد أم هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها (!!).

حينما كان يكتب (الكواكبي) لم يكن يعيش عقدة التشكيك بـ "الآخر" بقدر ما كان يعيش هموم مجتمع يعاني من التخلف، ليكشف لنا بوعي معرفي عال عن أسباب هذا التخلف الذي لخصه بمقولة واحدة تكتنز كل أسباب التخلف هذا ألا وهي الاستبداد.

لقد ذهبنا إلى القول بتبني (الكواكبي) للمنهج النقدي الذي تمركز حول نقد الذات "الأنا"، وقد بدى لنا ذلك جلياً من خلال نقده للفهم السائد للدين الذي يرى فيه أنه أحد أهم أسباب تخلفنا وشيوع الحُكم الاستبدادي في مُجتمعنا، بل واتخاذ المُستبد من الدين وسيلة لتبرير استبداده لأن "كل مُستبد يتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله، فالملوك الذين شجعوا الدين وبعدوا الفرق الدينية الصوفية مثلاً، فعلوا ذلك بقصد الاستعانة بالدين أو بأهل الدين على ظلم المساكين".

أما أهم تبعات الاستبداد فأولها الجهل أو التجهيل فقد شبه الكواكبي المُستبد "بالوصي الخائن القوي على أيتام أغنياء يتصرف في أموالهم وأنفسهم كما يهوى ما داموا قاصرين. فكما أنه ليس من صالح الوصي ان يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المُستبد أن تثور الرعية" لدرجة "حرمان الأمة من حُرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل" كما جاء في كتابه أم القرى.

ويرى (الكواكبي) "إن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة، وطراداً مُستمراً، يسعى العلماء في نشر العلم، ويجتهد المُستبد في اطفاء نوره. والطرفان يتجاذبان "العوام" ولكن من هم؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافو استسلموا. وهم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا."

والاستبداد يُفسد المجد، ويُقيم مكانه التمجد، كما يُحاول أن يفسر العلم والدين، ويُعرَف المجد بقوله: "المجد هو احراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان.. والمجد لا يُنال إلَا بنوع من البذل في سبيل الجماعة، وبتعبير الشرقيين في سبيل الله، أو سبيل الدين.

أما التمجد فهو خاص بالادارات المُستبدة، وهو القُربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعُمَال، أو بالقوة كالمُلقبين بنحو دوق أو بارون.. وبتعريف آخر التمجد هو أن ينال المرء جذوته من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف الإنسانية.."

والمتمجدون هم أعداء العدل وأنصار الجور، يستخدمهم المستبد ليخدع بهم الأمة وهم أراذل وأسافل. وعندما ينتهي دورهم يُنكَل المستبد بهم أو يهجرهم."

الدولة المُستبدة مُستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كنَاس الشوارع، ولا يكون كل جنس إلا في أسفل أصل طبقته أخلاقا، ويكثر عدد هذه الفئة حسب قسوة الاستبداد وصفته، فكلما زاد العسف زاد المُتملقون، وكان أسفلهم طباعاً أعلاهم وظيفة وقُرباً.."

يُقارن (الكواكبي) بين الاستبداد الغربي والاستبداد الشرقي، فيقول "والغربيون منهم المُستبدين، من يعينون الأمة على الكسب، والشرقيون لا يُفكرون في ذلك، وهذه من جملة الفروق بين الاستبدادين الغربي والشرقي، التي منها أن الاستبداد الغربي كان أحكم وأرسخ وأشد ولكن مع اللين، والشرقي كان متقلقلاً سريع الزوال ولكنه مُزعج. ومنها أن الغربي إذا زال تبدل بحكومة عادلة تُقيم ما ساعدت الظروف أن تُقيم. أما الشرقي فيزول ويخلفه استبداد شر منه لأن من شأن الشرقيين أن لا يهتموا في مستقبل قريب، كان أكبر همهم مُنصرف إلى ما بعد الموت.

فضلا عن ذلك فالاستبداد عند (الكواكبي) يُضَعف الأخلاق ويُفسد التربية والاستبداد يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط، من التقدم إلى التأخر.

كذلك ينتهي بنا (الكواكبي) إلى القول بضورة وجود نزعة إنسانية تدعو إلى التآخي بين الغرب والشرق، ووجوب نجدة الغرب للشرق، بحيث لا نجده يتحسس من تقدم "الآخر" أو أن جُلَ همه التشكيك بنوايا هذا "الآخر" بل عليه أن يُهنئه على هذا التقدم ويتمنى منه مساعدة الشرق.

ما ينتقد به الكواكبي انه حينما يأتي على الكيفية التي تتخلص بها الشعوب من الاستبداد، يضع ثلاث قواعد:

1- الأمة التي لا تشعر كلها أو اكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.

2- الاستبداد لا يُقاوم بالشدة، انما يقاوم باللين والتدريج.

3- يجب قبل مُقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد.

والنقد الذي يُوجه هو للقاعدة الثانية، وهي كيف للشعب أن يتخلص من الاستبداد باللين مع الأخذ بالحُسبان أننا لم نجد شعباً قد تمكن من التخلص من مُستبديه بهذه الطريقة ومن دون مقاومة، فضلاً عن أن (الكواكبي) يعتقد أن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الادراك والاحساس.

والسؤال هو كيف يمكن أن ترتقي الأمة في الادراك إذا كان الاستبداد فيها، والاستبداد بحسبما يرى (الكواكبي) نفسه رديف الجهل والساعي إلى التجهيل ويُضعف الأخلاق ويُفسد التربية بحسب ما يرى (الكواكبي) ونحن نتفق معه في رؤيته هذه!.

 

ا. د. علي المرهج

في المثقف اليوم