قضايا

عدي البلداوي: يوم الغدير.. قراءة معاصرة في انثروبولوجيا السلطة

في الحديث عن السلطة في العالم العربي والإسلامي تواجهنا إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تلك الإشكالية التي بدأت مع انتقال المجتمع الإسلامي من مرحلة الوحي الى مرحلة الوعي بإنتقال النبي الخاتم الى الحياة الآخرة، تاركاً أمته على مقربة من يوم الغدير الذي إتفق المسلمون عليه كحدث تاريخي بكل ما تضمنه من تفاصيل، واختلفوا فيما بعد على تأويلات تلك المضامين، واخذت هذه الإشكالية تفرض نفسها بإلحاح على الفكر العربي والإسلامي المعاصر في ضوء معطيات الثورة الصناعية الغربية في مراحلها المتقدمة، وما نتج عنها من تقنيات متطورة ارتبطت بشكل مباشر بعصب الحياة اليومية للناس، الأمر الذي أثار في أذهان الأجيال المعاصرة استفهامات كثيرة حول فاعلية علاقة الدين بثنائية السلطة والمجتمع خصوصاً وإننا صرنا مرتبطين بنظام عالمي تتحكم فيه مشاريع الإقتصاد الصناعي بمجالات الحياة السياسية والإقتصادية، واتسعت اكثر في الآونة الأخيرة لتشمل مجالات ثقافية وإجتماعية، ونفذت من خلال واقع الناس وظروفهم الى معتقداتهم وطقوسهم الدينية فظهرت طروحات وافكار تطال بعض الثوابت الصحيحة المتفق عليها في التاريخ بدعوى التجديد وحرية التفكير وحرية التعبير وإعادة قراءة التاريخ ونقد احداثه، يحدث كل ذلك كنتائج لفشل السلطة في مجتمعاتنا في تقديم انموذج يرقى الى مستوى تلك الحضارة الإسلامية التي أسس لها نبي الرحمة في إطار أخلاقي انساني تتحرك فيه روح العقيدة في منظومة المجتمع النابض بحب الحياة التي اخبرهم نبيهم انها " حلوة خضرة والله مستعملكم فيها فانظروا كيف تعملون"، لكنهم وبعد اكثر من الف عام على ذلك الربيع الإنساني وجدوا انهم يعيشون إحباطاً واضطراباً متواصلين في علاقتهم بسلطة تقر بالدين منهجاً دستورياً، في الوقت الذي تمكن فيه العلم بعيداً عن الدين في الغرب من إنتاج سلطة مضت بالناس الى التحضر والتقدم ..

يمثل يوم الغدير بما تضمنه من حدث البيعة مرتكز انطلاق المجتمع نحو مرحلة الوعي حين أبلغ النبي الخاتم الناس بقرب إنتهاء مرحلة الوحي في حجة الوداع " اني قد يوشك أن أدعى فأجيب وإني مسؤول وإنكم مسؤولون .."  وبدأ إعداد المسلمين لهذه المرحلة الجدية بالإستفهام: "ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ..؟" في وقت كان المسلمون فيه على مقربة من أجواء الروح وهي تطوف حول الكعبة في طقوس الحج بحضور نبي الرحمة، وما ادّته هذه الأجواء من دور مهم في الوصول بالمنظومة الآدمية للفرد المسلم الى حالة من التوازن والطمأنينة فجاء جوابهم " بلى" إيذاناً بإستعدادهم للإنتقال الى مرحلة ما بعد إنقطاع الوحي إنتقالاً ضرورياً يمليه عليهم وعيهم بمصيرهم ..

يعنى علم الانثروبولوجيا (علم الانسان) بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمعات البشرية ويشتمل على علم الإنسان الثقافي المعني بدراسة ثقافة المجتمعات وتنوعها وإختلافها على وفق التجارب التي يمر بها كل مجتمع في مكانه وظروفه المحيطة ويراه أمراً طبيعياً لا يدعو الى التفريق بناء على وحدة الفكر الإنساني .. وعلم الإنسان الإجتماعي المعني بدراسة القضايا الإجتماعية التي تعترض مسار الحياة اليومية للفرد وللأسرة وللمجتمع والوقوف عندها من أجل الوصول الى حلول تضمن سلامة النسيج الإجتماعي وتحفظ بناءه وتحمي بنيته التحتية من أي أضرار تلحقها به الظروف المرحلية التي يتعرض لها الناس .. وعلم إنسان اللغة المعني بدراسة تأثير اللغة في الفرد والمجتمع .. وعلم الإنسان الحياتي المعني بدراسة منظومة جسم الإنسان وتأثير وضعها الصحي في شخصية الفرد في مجالاتها النفسية والسلوكية والأخلاقية والعقلية.

يدرس علم الإنثروبولوجيا واقع المجتمعات البعيدة، ويدرس علم التاريخ ماضي المجتمعات المعاصرة، لذا نحاول من خلال هذه المحاور أن نقف على ذلك الحدث التاريخي الذي مرّ عليه أكثر من الف عام، وقفة معاصرة يقتضيها واقعنا كأمة مسلمة تحمل شعار " محمد يجمعنا " ونحاول من خلالها أن نعاير صحّة مسار واقعنا اليوم باستحضار أجواء يوم الثامن عشر من ذي الحجة حيث بيعة الغدير، للبحث في التشابهات والإختلافات في الأفكار والميول والإعتقادات من أجل الوقوف على المشترك الإنساني في جميع المراحل التاريخية، يقول الفيلسوف الألماني فالتر كولد "ان الحضارات متعددة مع ان الإنسان واحد"، إن إختلاف الثقافات ضرورة تفرضها ظروف الإدراك وتباين مستويات الوعي والجو العام والبيئة التي تتدخل كثيراً في صياغة تعبير الناس عن مواقفهم وعواطفهم، وبعيداً عن الآراء المتباينة التي مضت بكلمة "أولى" و"مولاه" في فضاءات التحليل النفسي والقلبي والعقلي للمسلمين، قريباً من مفهوم السلطة اليوم على وفق البعد الإجتماعي والإداري والثقافي للخط الرسالي السماوي الذي اختطه بنجاح كبير سيد الخلق وخاتم النبيين وأسس عليه حضارة إنسانية إسلامية تواجه اليوم تحديات كبيرة جديدة من حيث الأدوات المستخدمة التي جاءت مع الثورات الصناعية والعلمية والتكنلوجية والمعلوماتية وبرامج الذكاء الإصطناعي ورأس المال والشركات العابرة للقوميات والنظام العالمي الجديد الذي يراد له أن يسود العالم ويحكمه عبر برامج الكترونية عالية الدقة فائقة السرعة وشبكة إتصالات تربط الناس فيما بينهم بكبسة زر وتفتح أمامهم نوافذ لم يكن ممكناً فتحها من قبل، وهي في الوقت ذاته تهددهم بمشاكل كثيرة ترتبط بمصيرهم ووجودهم في هذه الحياة، فعلى الرغم من وفرة المعلومات هناك فقر ثقافي، وعلى الرغم من سرعة الحصول على المعلومة هناك بطؤ شديد في إدراك الواقع ووعي المصير ..

من اهم المشتركات التي توافر عليها يوم الغدير هو حضور المجتمع الإسلامي حضوراً واعياً لما حدث في ذلك اليوم، وكان النبي الخاتم والإمام علي محوري ذلك الحدث، فبإستخدام لغة الإنسانية نحاول أن نقرأ أحداث يوم الغدير بعيداً عن الذهنية الغالبة على المناخ التفكيري لمساحات كبيرة من مجتمعات تعيش المذهبية والعصبية وتستخدمها في صناعة مواقفها والتعبير عن عواطفها بمعزل عن الموضوعية في كثير من الأحيان، نحاول أن نصنع وعياً ينهض بمجتمعاتنا اليوم الى ما ينبغي أن تكون عليه، لا البقاء على ما هي عليه، والإستفهام من أهم ادوات صناعة الوعي، استخدمه النبي الخاتم في ذلك اليوم والناس يعيشون ثلاثية النفس والقلب والعقل في أجواء الحج الروحية التي ينتج عنها إستقرار يهيء إتصالات هادئة هادفة بين النفس والقلب والعقل ليكون جواب أحدهم حراً بالمعنى الذي يتجاوز فيه حريته الشخصية الى الحرية المسؤولة وطاعته العمياء الى طاعة واعية فكانت كلمة " بلى "

وبصرف النظر عن ملابسات ما حدث من مواقف كثير من المسلمين بعد وفاة النبي الخاتم، فإننا بحاجة الى أن نرجع الى يوم الغدير لننطلق بواقعنا اليوم الى ما نتجاوز به ملابسات الأمس ..

ذكر النبي الخاتم في سياق حديث الغدير ما جاء في سورة الأحزاب الآية 6 " النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم .."، وبعيداً عن أسباب النزول وعن تنوع الآراء بخصوص معنى " أولى " فإن سورة الأحزاب مدنية نزلت حيث أسست دولة الإنسان الجديد على يد النبي الخاتم، يضاف الى ذلك ذكر المسؤولية في قوله صلى الله عليه واله وسلم " اني مسؤول وانكم مسؤولون " في سياق الإستفهام " الستم " الذي يوفر مساحة كافية للحرية كي تتحرك بوعي الإجابة، وهذا ما نحتاجه اليوم حيث يأخذ مفهوم الحرية مديات اكبر في أذهان الناس تصل عند بعضهم الى تعريض وجودهم واستقرارهم الى الخطر، ومع تطور أدوات التقنية الصناعية وشبكات الإتصال ومواقع التواصل الإجتماعي وجد الشباب العربي أنه أمام إستفهامات خطيرة تلح عليه في موضوعة تأثير الدين في الحياة المدنية للمجتمع في ضوء هذا التسارع الملفت للثورات العلمية والتقنية والذكاء الإصطناعي، ووجد ان حريته منقوصة في هكذا جو وهو ما دفع بكثير من الشباب العربي المسلم الى التغريب الثقافي مع إحتفاظ كثير منهم بإنتمائه لبيئته الإجتماعية بمنظوماتها الدينية والإخلاقية والقيم والعادات، لكن المشكلة تبدو اكبر من مجرد تشخيص، انها بحاجة ماسة الى علاج قبل أن يتحول المجتمع الى تجمعات بشرية أو كتل بشرية فاقدة لمعنى البناء الإجتماعي الذي عمل عليه الإسلام المحمدي منذ خطواته الأولى والذي يتوافق مع الصفة الإجتماعية  لطبيعة الشخصية العربية، ولعل مجتمعنا العربي يمرّ اليوم بالمحنة ذاتها التي مرّ بها المجتمع الغربي بعد الثورة الفرنسية والثورة الصناعية مع الفارق بين طبيعتي المجتمعين وإختلاف الدوافع، فقد وجد الإنسان الغربي ان بمقدور العلم معالجة جميع المشكلات التي تواجه الجنس البشري ووجه إنتقاداته للكنيسة حينما بدت له غير قادرة على مواكبة التطور العلمي وتقديم حلول ورؤى تناسب أدوات المجتمع الجديدة خصوصاً ما يتعلق منها بالشباب وتحديداً النساء في مجالات الحرية والمساواة وتحديد النسل لمواجهة النمو المطرد في السكان ومراعاة الوضع المعيشي في ظل التطور الصناعي الذي يستوجب نفقات اكثر مما كانت عليه الحياة قبل ذلك، ومع ان محنة الغرب لم تمر بسهولة فقد أخذت نصف قرن تقريباً حتى إنتقل المجتمع من العاطفة والخيال الى المادة والواقع، يبدو ان مجتمعنا العربي اليوم يواجه ما يشبه أجواء محنة المجتمع الغربي، لا من حيث إنه مجتمع علمي منتج صناعي، ولكن من حيث هو مجتمع إستهلاكي موجود على خط مباشر مع الغرب بحكم مشاريع الإقتصاد الصناعي العابرة للحدود الجغرافية والمتخذة من المصالح لغة تعامل مشتركة ومن المال وسيلة إدامة تلك المصالح، وأسهمت أنظمة الحكم في العالم العربي في دفع الناس بهذا الإتجاه جرّاء إخفاقاتها المتراكمة في إيجاد حلول لمشاكل الناس، لذلك اتسعت الفجوة بين المجتمع والسلطة، ثم بدأ المجتمع يوجه إنتقاداته لواقعه والبحث عن حلول فكان من نتائج تلك الإنتقادات أن ظهرت دعوات لفصل الدين عن الدولة، ودعوات تهميش الدين في حياة المجتمع وإقصاره على الفرد كحرية شخصية يعيشها بينه وبين معبوده ولا يحملها معه خارج البيت حيث توجد قوانين وضعية تحكم العلاقات بين الناس وبين المجتمع والدولة  أسوة بما يحدث في الشارع الأوربي الذي قد لا تفرق فيه أحياناً بين بناية المطعم وبناية المول والكنيسة إلا من خلال عنوان اللافتة، وحيث ان المجتمع الشرقي لا يزال على الرغم من محنه المستمرة يعيش حضور البعد الروحي في تفاصيل حياة الناس، بل لعل اكثر الناس يحرصون على تفعيل تلك الروح وكثيراً ما يبدون إنتقاداتهم لحكوماتهم من خلال هذا الدافع، لأنهم لا يزالون يتصورون في السلطة قدرتها على إدارة جميع شؤون البلاد بما فيها الثقافية والإجتماعية، وهو بإعتقادي خطأ وقع فيه الناس منذ زمن بعيد عندما صوّرت لهم السلطة ان الحاكم هو خليفة الله على الارض وان عليهم طاعته والإمتثال لأوامره التي هي بالنتيجة سبب سعادتهم، وكان على المجتمع أن يدرك إن ذلك لم يعد كما كان على عهد النبي الخاتم بعد أن إختط بعضهم للمجتمع خطاً جديداً لمسار العلاقة بين السلطة والناس، ولعل في قول الإمام علي " لقد علمتم إني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين .."  إشارة واضحة الى الخلل الحاصل في ثنائية العلاقة بين السلطة والمجتمع بعد النبي ..

 إذا اخذنا مفردة الحرية إنموذجاً، كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948م وقارنا معناها  التطبيقي العملي اليوم بما ورد في قاموس سلطة الإمام علي عنها، سنجد ان في إختيار شخص الإمام يوم الغدير من قبل النبي القائد ومنحه درجة "الولاية" على الفرد والمجتمع بصرف النظر عن الأبعاد التأملية والتأويلية التي اعطيت لهذه المفردة من قبل العلماء والباحثين والنقاد، فإننا سنجد ان وراء " من كنت مولاه فهذا علي مولاه " بعداً ثقافياً لأنسنة الوجود البشري، عابراً للظرف الزمكاني في ذلك الوقت بكل أبعاده الدينية والسياسية والجغرافية والقومية ..

تنص المادة الأولى في الميثاق على " يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء"، بهذا المضمون تتحرّك كثير من الفعاليات والأنشطة الفردية والجماعية حول العالم بصفة خاصة وبصفة مسؤولة .. يشتمل البحث الإنثروبولوجي على مرحلة الوصف ومرحلة التحليل، يتم في الأولى وصف وتدوين الأحداث كما هي، تعقبها مرحلة التأمل في ذلك الوصف من أجل تكوين رؤية واضحة للقضية أو المشكلة موضوع الدراسة، لتقديم الحلول الأنسب التي لا تتقاطع مع طبيعة المجتمع، كان من ضمن الأحداث المهمة التي اثارت عندي فكرة إعادة قراءة مفهوم الحرية الوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو التصريح الرسمي للسلطات الفرنسية الذي جاء رداً على تزايد حالات الإحتجاج والغضب في الشارع الإسلامي حول العالم على إثر الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرتها إحدى الصحف في 2020م، فقد رأت الحكومة الفرنسية ان ما حدث يندرج ضمن حريات التعبير والنشر التي كفلتها المادة التاسعة عشر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية إعتناق الآراء دون أي تدخل، وإستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية"، ثم تلتها تصريحات لمسؤولين في دول كبرى اعتبروا فيها ان لكل شخص الحق في حرية تحديد ميوله الجنسية، وان المثليين أشخاص شجعان لأنهم واجهوا مجتمعاتهم بالإعلان عن رغباتهم الجنسية دون خوف، ودعا بعضهم الى توفير أجواء حرة لأولئك المثليين حول العالم وحمايتهم طالما انهم يمارسون تلك الحريات دون ان يلحقوا ضرراً بغيرهم، هكذا أخذ مفهوم الحرية يتسع دون ضوابط ليكون اقرب الى الرغبة المادية للإنسان منها الى الرغبة الوجودية التكوينية .. بمقارنة هذا المفهوم مع ما جاء في نهج علي السلطة عن الحرية تبرز أهمية إستحضار ذكرى بيعة الغدير من حيث هي رسالة تاريخية عمرها أكثر من الف عام، تدعونا مستجدات الواقع الإنساني العالمي اليوم الى إعادة قراءتها للوقوف على عمق البعد الثقافي لإعلان ولاية الإمام علي الذي يقول في مفهوم الحرية "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً " ..

بين أن يعرف الشخص إنه حر بحكم وجوده البيولوجي، اي ان حريته مرتبطة بولادته، كما في المادة الاولى " يولد جميع الناس أحراراً .."، وبين أن يعرف انه حر من خلال وعيه بالحرية كما في قول الإمام "وقد جعلك الله حراً" و"جعل" عمل وهيأ وخلق، وجعله: صيّره، كما في لسان العرب لابن منظور، وقوله تعالى "وجعلني نبياً" و " جعلناه قرآنا عربياً " " وجعلنا من الماء كل شيء حي " " وجعلوا لله شركاء " ..

عن الدكتور فاضل صالح السامرائي: (الجعل) هو إخبار عن ملابسة مفعولة بشيء آخر بأن يكون له أو منه أو فيه أو حالة من الحالات، في الغالب الجعل يتعلق بشيء آخر وليس فقط جعل أي خلق هكذا لكن هناك شيء آخر في المفعول يتعلق به، جعل تقتضي اكثر من شيء واكثر من ان تذكر المفعول وحده وهذا ما نص عليه اهل اللغة..

ان تعريف الحرية في إطار فطري من شأنه ان يحددها عملياً في النشاط المادي لحياة الشخص، لكن تعريفها في إطار فكري من شأنه ان يفضي الى تحركها عملياً في النشاط التكويني لوجود الشخص، ففي " جعلك الله حراً " دعوة الى إدراك الذات وتنمية وعي النهضة في الفرد والمجتمع والسلطة، وفي " يولد جميع الناس أحراراً " دعوة الى تلبية إحتياجات المنظومة الجسمية للشخص في الجانب المادي للتفكير، لذا جاء تبرير الإساءات التي صدرت عن أشخاص ومؤسسات بحق شخصية النبي الخاتم على الرغم من الأذى الكبير الذي الحقته بمساحات كبيرة من الناس الذين صنفهم الإمام علي (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهو التصنيف القائم على أساس وحدة الإنسان وتعدد الإتجاهات وتنوع الأفكار، فلو أضيفت عبارة " دون مساس أو دون إساءة الى ثقافات الآخرين) في آخر المادة التاسعة عشر لحقوق الإنسان لربما تجنب العالم الآثار الجانبية للأذى المعنوي الذي لحق بملايين المسلمين بسبب تلك الإساءات ..

يذهب علم النفس الى ان كل شخص أياً كان وضعه وموقعه ولونه وميوله ومعارفه إلا وله رسالة في حياته، لكن أكثر الناس يخطئون إدراك رسائلهم لجهلهم بأنفسهم وعدم إحاطتهم بما يكفي بذواتهم، ويتحقق هذا الإدراك وتلك الإحاطة عندما تمر الشخصية بحالة توازن في جوانبها النفسية والعقلية والأخلاقية، واذا كانت النبوة بحضور الوحي دافعاً لتعريف الناس بأنفسهم وإحاطتهم بذواتهم، فإنه بعد إنقطاع الوحي يظهر الوعي الذي كانت الرسالة المحمدية في جانبها الإجتماعي تعدّه في شخصية علي عليه السلام حتى اذا ما جاء التوقيت الملائم لإظهار ذلك نادى النبي القائد بالناس "من كنت مولاه فهذا علي مولاه"، تلك الولاية التي ترى في حرية التعبير والنشر وإعتناق الآراء والأفكار، حرية مرهونة بعدم تجاوزها على المشترك الإنساني لجميع الناس على إختلاف السنتهم والوانهم وتوجهاتهم ..

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم