قضايا

نشوء الفلسفة ومهمتها

علي المرهجلم تولد الفلسفة مع ولادة الإنسان، ولكن السؤال الفلسفي مُضمر في الوعي الإنساني منذ وجوده ففي الفكر الأسطوري تساؤل عن أسباب الوجود، ولكن الاجابات عن هذا التساؤل بحكم المنظومة المعرفية المُهيمنة في بدايات الخليقة كانت تنتظم وفق الرؤية الأسطورية التي يشتغل فيها العقل مُنسجماً معها على المستوى العام، لكنه بفردانيته عقل فاعل مُبدع.

مع اليونانين بدأت الفلسفة بالنشوء، وكما هو معروف في تاريخ الفلسفة فأن طاليس بقوله "أن الماء هو أصل الوجود" في محاولة منه للاجابة عن سؤال الأصل (الأنطولوجي) عبر مُدركاته الحسية لتحولات هذا الأصل لحالات المادة الثلاث ومُفارقته للقول الأسطوري ببعده اللاعقلاني، والعقلانية أقصد بها هنا، أن طاليس لم يكن تابعاً لمُتبنيات العقل الأسطوري في تفسيره لنشوء العالم خارج التفسير العلَيَ (السببي) للوجود والقبول بفكرة تعدد الآلهة وتجاهل الأصل الواحد للوجود.

صحيح أن في أساطير الشرق قد وردَ أن أصل الوجود الماء كما هو الحال في أسطورة الخلق السومرية وأن الإلهة (نمو) هي سبب الوجود ومعناها "المياه الأزلية"، ولكنها جاءت في سياق اللاعقلانية الأسطورية ومنظومتها المهيمنة لا في سياق محاولة التخلص من هيمنتها.

إن ما يُميز طاليس رغم وجود بعض تأثير لبقايا الفكر الأسطوري ونظمه المعرفية، أنه حاول خرق المألوف السائد من القول الأسطوري ونظامه الخارج عن معقولية المحاولة العلمية في ربط السبب بالمسبب لا ربط السبب بعوامل خارجة عن تسبيبه عقلانياً.

لم يكن الفيلسوف منذ نشوء الفلسفة مع طاليس وتطورها مع افلاطون وتلميذه أرسطو بعيداً عن المُجتمع، فطاليس فيلسوف الطبيعة كان مهموماً بالبحث عن حل لمشكلة الوجود، وهي مشكلة تبدو أنها ذات طبيعة (ميتافيزيقية) إلَا أنها بنظرة مُنصفة هي حل لمشكل علاقة الإنسان بالطبيعة والوجود وعلاقة الإنسان مع الآلهة في وقتها وزمانها، فقد أوجدَت تفسيراً مُستمداً من المُلاحظة لا من الأسطورة لعلة الوجود يعتمد الرؤية العقلانية.

ولو أخذنا فلسفة افلاطون المثالية التي يؤاخذه عليها كثير من الواقعيين كونها تصنع عوالماً في المُخيلة، لكنها كما أظن لم تكن بعيدة كُل البُعد عن الواقع، وسأستعير جملة أكررها دائماً لأستاذي الكبير (مدني صالح): "المثال هو المُتمنى. ما أن يتحقق المُتمنى حتى يصبح واقعاً، فلا فرق بين ما هو مثالي وواقعي إلَا من جهة التحقق".

ولو أخذنا الفلسفة السفسطائية لوجدناها فلسفة إنسانية بامتياز، وعلى وفق آراء فلاسفتها نشأت أغلب الفلسفات الواقعية المُعاصرة.

الفيلسوف مهمته الأساسية هي القبول بالآخر وتعقل وجوده بوصف هذا الوجود أمر ملازم لوعي الذات بوجودها، فلا تستطيع الذات التأسيس لمنظومة معرفية خارج وجود الآخر، بل ولا حتى منظومة عقائدية مُغايرة، لأن الآخر يُشكل الضدّ، وهذا الضدَ يُعيد تشكيل الوعي بالمغاير إما قبولاً أو رفضاً.

في الرفض أو القبول لا بُدَ من وجود آخر نتنافس معه ونتصارع أحياناً أو نتعايش، وهو سيبقى أصل لادراك معنى وجودنا الذاتي، ولنا أن نُعيد بناء تصورنا لوجوده المناضر هذا في بيئة نتصالح فيها أو نختلف، ولكن كل منَا له الحق في الوجود بها سواء أ كُنا مُختلفين أم متفقين في الرأي لا في مُمارسة العُنف وقسر الآخرين على تبني رأي واحد ولكن في قبول بعضنا لبعض، بوصف مُغايرتنا اضافة لمعنى الوجود الذي نحن فيه فردياً كان ام جماعياً، فالأنا لا وجود لها من دون آخر موافق لها أو مخالف، لأن في وجود الآخر توصيف لوجودها واعلان عن حضورها!.

كل منَا يدَعي تبنيه للفكر الصحيح، ولكن هذا المفهوم "التفكير الصحيح" مفهوم مُفخخ، فكل أمة بما لديهم فرحون، وكل جماعة تدعي أن ما تتبناه من فكر هو الصحيح، ومشكلة مُجتمعاتنا بنمط انتماءاتها العقائدية والأيديولوجية ونزوعها "الدوغمائي" أو "الأرثذوكسي" بعبارة محمد أركون، فلا تجد في مُجتمعاتنا فرقة إلَا ويدعي أصحابها أنهم "سفينة النجاة" ومن ركبها قد نجا، وحديث الفرقة الناجية معروف، وكل فرقة تدَعي أنه هي المقصودة به.

لكن ما يُميز أهل الفلسفة أنهم يطرحون رؤاهم للتبني وفق الحُجة والدليل، ولكن هذه الحُجج والأدلة ليست مُسددة بارادة ربانية، فلا حساب لمن لا يأخذ بها لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة، لذا أقول أن في الفلسفة فسحة من الدعوة للتفكر بحرية خارج هيمة أو سطوة المُقدس المُفارق، و لكل من وجد في متبناه الفلسفي شك الحق في تركه ولا حساب عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن أهل الفلسفة لا سلطة لهم على من عارضهم وشكك في قولهم ولا وعد ولا وعيد له، إنما الوعد والوعيد هي لغة أهل العقيدة أيديولوجية كانت أم دينية، ففي الدينية سينال عقابه في الآخرة، إن لم يكن من رجال ادّعوا هم (حزب الله) او جماعته ولهم حق اقامة الحد على مُخالفيهم في هذه الدنيا قبل ان ينالوا جزاؤهم في الآخرة على قاعدة "كل نفس بما كسبت رهين".

وفي الأيديولوجية العقاب أشد للمُخالفين في مجتمعاتنا، لان السلاطين مُسددين وله الحق في أن يقتصوا من مُخالفيهم في هذه الدنيا قبل أن يناله عقاب الرب!.

إذن فالتفكير الصحيح بلغة أهل الفلسفة هو مرونة التعقل وتشككه، وبتخليه عن ادَعاء العصمة الفكرية لبني البشر، فمهمة الفلاسفة البحث عن الحقيقة لا ادَعاء امتلاكها.

يا ليت تكون للفلاسفة القُدرة على جذب الجماهير لمنطقة تفكيرهم في تبني الرؤية العقلانية النقدية لا صهر المُختلفين، لأن في الصهر تغييب للتنوع، وتلك ليست من مهمات الفيلسوف.

الصهر والقهر من مهمات حاكم مُستبد لا دراية له بالفلسفة ولا شأن.

أما بناء المجتمع والدولة على أساس العدل واحترام الإنسان بما هو إنسان فهي من مهمات الفيلسوف الذي لا همّ له سوى الارتقاء بالمجتمع وبالإنسان الفرد من مصاف التبعية والوصاية إلى مصاف التعقل والدراية..

الأمة التي ليس فيها فلاسفة كالأرض القاحلة لا نبت فيها ولا زرع، ولا يصلح حال أمة تبغي النهوض من دون وجود لفلاسفة ومفكرين يُرممون يباب الأنفس ويُعمرون الهدم الذي في العقول قبل أن يُرمموا الهدم في العُمران.

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم