قضايا

تسخيف كلمة مُفكر

علي المرهجتُطلق كلمة (مُفكر) كمرادف (بتحفظ) لكلمة (فيلسوف)، وهي تعني بتلخيص القول أن هذا الشخص لديه رؤى نقدية جديدة تُمكن صاحبها من اقناع مُريديه - بعبارة صوفية، وقُرائه بعبارة (حداثية) من تغيير وجهات نظرهم في النظر لتفكير سائد على أنه لم يعد صالحاً للاستخدام وفق مُتغيرات الحال والأحول، بل وحتى الأهوال، فهو كاتب يُعيد انتاج الفكر والأقوال بما يجعل القديم لا قيمة له في البناء ويحتاج لرؤى هذا الفكر للتعديل والتجريح، بمعنى آخر هو أن هذا الكاتب (المُفكر) قد تمكن من تغيير المقول المُتداول في الرؤى المعرفية التقليدية واختراقها لبناء نظام معرفي جديد ورؤية تجديدية ـ على الأقل ـ عمل الكاتب (المُفكر) فيها على تقويضها والاتيان ببديل معرفي جديد يحل محلها.

ما نراه اليوم من شيوع في استخدام كلمة (مفكر) أنها تُطلق على كل من يجتر القول ويُعيد كتابة المقول بصيغة جديدة لربما تكون أقل قيمة من المقول القديم، ومثل هذا لا نحسبه سوى (تسخيف) لمعنى اللفظ و تقليل من القيمة التدالولية له، فكل إنسان بطبيعة وجوده يُفكر، ولكن ليس كل من يكتب هو مُفكر وإن كتب عشرات الكُتب.

الكاتب (المُفكر) هو المُختلف لا لمُجرد الاختلاف، بل لكونه يُجيد التأثير والتغيير في القارئ (المُتلقي) بما يجعله يُعيد حساباته في مألوف قوله ليُشكك فيه ليُشارك الكاتب (المُفكر) "التفنيد" لموروث الفكر لا "التأييد" له..

الكاتب (المُفكر) هو الذي يستفز القارئ كي يتفحص معارفه وأيديولجيته لينتقد ذاته أولاً لفرط ما في مُتبنياته من ركون لكلاسيكيات القول وسكونه بما يجعل القارئ مُشاركاً للمُفكر في (المُغايرة) ونقد الموروث، ومن ثم نقد سكونية العقل (الأنوي) للخلاص من أسطرة الحقيقة المألوفة أو (المتوارثة).

أن أكتب أو يكتب غيري بما لم يألفه القُراء فلا يعني هذا أنني مُفكر، بقدر ما يعني أن بعض مما كتبت أو كتب غيري هو جديد على من لم يألف القراءة، ولكنه ليس شرطاً أن يكون جديداً على من له دراية وتواصل مع عوالمها، ولا يعني أن كل جديد في عوالم الكتابة والفكر هو صالح لتغيير الرؤية واستبدال مناطق التفكر.

وربما يكون ما كتبت وما كتب غيري هو من عوالم ارتاباك في الكتابة وسوء الفهم فظنَ من لا خبرة له أن في غرابة القول نتاج معرفي لا يفقهه هو.

وأنا أقول أن من تسخيف القول أن ما يقوله كاتب ما يقصد بمقوله تجديد الوعي ونقد القول القديم السائد وفي هذا المقول بعض من أو كثير من غموض لا يفقهه من هُم من صنفه، فهو قول يحتاج لاعادة بناء ونظر، وربما يخدع قائله من هُم لا يفقهون (تحذلقه) من بعض بُسطاء الناس بحكم عدم درايتهم بمُعجميته الفكرية أو الفلسفية، ولكنه لا فكر له إن كان في قوله استهجان ورفض من الذين هُم من جماعته وينتمون لمنطقة التفكير ذاته التي يدَعي أنه ينتمي إليها!.

إن مثل هكذا كاتب يدَعي أنه مُفكر أو يدَعي بعض من صحبه الذين أصابتهم لوثته بحكم العشرة (على قاعدة من رافق القوم أربعين يوماً صار مثلهم) أنه مُفكر أن يُراجعوا حساباتهم في مدى أهليتهم العقلية.

لا يُمكن أن نصفَ كل كاتب يستهوي بعض القُرَاء بأنه مُفكر، فمن صفات المُفكر الابداع، والابداع هو الاتيان بجديد لم يسبق الكاتب (المُفكر) أحد في قوله بما يجعل من هذا القول خط سير جديد لبناء حياة أو تجديد لرؤانا وهدم لرؤى سابقة.

وبصياغة منطقية: إن كل مفكر مُثقف، ولكن ليس كُل مثقف مُفكر، لأن من ميزات المُفكر هو خلود أقواله واتخاذها أسلوب تفكير وحكمة في الحياة، وتحمل في طيَاتها اكتناز معرفي ينهل منها الساعون للاصلاح والتغيير وغيرهم، بينما لا تجد في أقوال المُثقف ما يبقى منها أثير في تغيير السائد وفضحه والكشف عن عيوبه، ولو كان في قول بعضهم ما يبقى لكانوا من صنف المُفكرين لا من صنف المُثقفين فقط.

المُفكر هي سمة الذي ينتقد ويخترق بجرأة كل ما يراه وفق وفق مُتبنياته في الحياة المُجتمعية التي هو جزء منها والتي لا صلاحية له بحسب ما يرى في عوالم الإنسانية والحُرية خارج هيمنة أي مُعتقد سائد يرى فيه خللٌ، لأنه ينظر للإنسان بحسب جهته ونشوئه وليس للإنسان وجود خارج صفته الكونية التي يتصورها هذا (المُفكر) المُنتمي.

ما يُميز كلمة (المُفكر) عن كلمة (الفيلسوف) هو أن الأولى تُطلق على كُل من له ذكاء ورؤية نقدية تمكن من خلالها في مجاله أن يُغير من نمط التفكير السائد فيه، بينما (الفيلسوف) يكون اشتغاله في مجالات المعرفة والوجود والميتافيزيقا على أنها أسئلة (كونية) ذات طابع تجريدي لا يغفل الواقع، ولكنه يُعيد صياغته بما يجعله خارج منطقة الوصف (التبعيضي) لكينونته الجزئية، ليجعلة سؤال كينوني بلغة (هيدغر) يحتوي كل أسئلة الوجود والحياة الإنسانية بعيداً عن منهجية التجزئة و (التبعيض)، لأن من مهمات الفيلسف هي تلبية حاجات العقل بكونيته لا بانتمائه العقائدي، وتلك هي مهمة الفيلسوف.

إن مهمة المفكر تكمن في محاولته الجادة في المُشاركة في تجديد وعي المُجتمع الذي هو فيه، بينما مهمة الفيلسوف تكون في تغيير وتجديد نمط المُجتمع الذي هو فيه بحسب صياغة (مقولية) تُمكن المُتلقي (القارئ) لكتاباته من مجتمعات أخرى بتوظيفها وتأويلها بما يجعل من رؤية هذه الفيلسوف تبدو وكأنها نابعة من معاناته هو، ولربما تحدث الفيلسف بلسان ولغة ما لكناها رؤية تصلح أن تكون مُعبرة عن حاجات ورؤى من هم لا ينطقون بلسانه.

المُثقف والمُفكر لربما يشتركان في التبني الأيديولوجي لفكرة أو أدلوجة ما، فكلاهما مُتاح لهما أن ينتميا لحزب أو جماعة، ولربما يكون (المثقف) أو (المُفكر) هو الناطق الرسمي باسم هذا الحزب أوالجماعة، ولكن الفيلسوف لا قيمة لرؤيته إن طرحها وفق مُتبنى عقائدي أو أيديولوجي ما.

المُفكر رغم أنه يأتي بجديد، لكن جديده هذا يُمكن أن يُبوب في خانة (الأيديولوجيا) والانتماء، فلنا أن نقول أن هذا المُفكر إسلامي، أو ماركسي، أو يساري، أو يميني، أو قومي، أو قومي إسالمي، أو ليبرالي إسلامي...إلخ.

ولكن رؤى الفيلسوف لا تُبوب وفق أيديولوجيا ما.

لأعود للمفكر الذي سخفنَا معناه التداولي، فكثير من القوميين مثل: زكي الأرسوزي والبيطار وعفلق مفكرون، وكثير من الإسلاميين مثل: حسن البنا وسيد قطب والمودودي ومحمد باقر الصدر مفكرون، أنتجوا رؤى جديدة وفهم مُغاير لما كان سائد من الفكر، ولكن المُتبنى العقائدي يحف بهم وهو (مسطرتهم) للحُكم على صحيح الفكر من فاسده بحكم مُتبناهم العقائدي = (المسطرة)، ولكنهم ليسوا بفلاسفة، ولكنهم مُصلحون، وأتفق معهم أواتفق، ولكن صفة (المُفكر) لم تعدَ تُطلق على أمثالهم، بل صارت مُفردة تلوكها الألسن وتُطلق على كُل من يجتر قولهم ويُعيد صياغته، بل وصارت تُطلق على من لا فكر له سوى أنه يُجيد كتابة الأفكار لبعض منهم في اتباع وتقليد!.

الفلاسفة لا يحتكمون لنص ولا مُسلمات نهائية لهم، أما المُفكرون فهم لهم مُسلماتهم ومنها وبها يكونون مُفكرون، ولا اعتراض لديَ كبير على مُتبنيات هؤلاء، فهم حشروا أنفسهم في خانة منها لا يخرجون منها وإن رغب المُحبون (القُرَاء) باخراجهم بتفسير أو تأويل!.

أما اعتراضي الأشد فهو على من يوصفون بأنهم مُفكرون وهُم لا ناقة ولا جمل له لا في الفكر ولا في الفلسفة، وإن حضروا لا يُعدون!.

وذلك من سُخف الوصف لهم بأنهم مُفكرون وهم لا يساوون في سوق النخاسة شروى بعير

 

ا. د. علي المرهج - أستاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم