قضايا

التصوّف والموسيقى (2-2)

احمد الكنانيابو سعيد ابو الخير كان ممهدا لدخول الموسيقى الى مجالس السماع الصوفية، الاّ ان امر الموسيقى بات محتوماً عندما حسم  امره الإمام ابو حامد الغزالي في بحثه الفقهي المفصل في كتابه " احياء علوم الدين "، وهناك اشهر رأيه في اشد المسائل الشرعية خلافا بين الفقهاء :

"من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج”

"ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد عن غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإنّها جميعاً تتأثر بالنغمات الموزونة"

وبعد نقله لآراء أئمة الفقه المتشددة إزاء الموسيقى والرقص أجاز الغزالي الموسيقى لبعض دون بعض، وهنا مقتطفات من طريقة استدلاله ومناقشته للأمام الشافعي واقترابه من الحكم بالجواز، وهي جرأة في الاستدلال غير مسبوقة من فقيه عرُف عنه تشدده بأمر الشريعة :

وأمّا الشافعي فليس تحريم الغناء مذهبه أصلاً، ودليل ذلك قال يونس بن عبد الأعلى سألت الشافعي رحمه الله عن إباحة أهل المدينة السماع، فقال الشافعي: لا أعلم أحداً من علماء الحجاز كره السماع إلاّ ما كان منه في الأوصاف.

وأمّا الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بالحان الأشعار فمباح. وحيث قال: أنّه لهوٌ مكروه يشبه الباطل. فقوله لهو صحيح، ولكن اللهو من حيث أنّه لهو ليس بحرام، فلعب الحبشه ورقصهم لهو، وقد النبي ينظر اليه ولا يكرهه بل اللهو واللغو لا يؤاخذ الله تعالى به ".

قال تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم" فاذا كان ذكر الله على الشيء، على طريق القسم، من غير عقد عليه ولا تعميم والمخالفة فيه، مع أنّه لا فائدة فيه فكيف يؤاخذ به بالشعر والرقص؟

وأما قوله يشبه الباطل، فهذا لا يدل على اعتقاد تحريمه، بل لو قال هو باطل صريحاً، لما دلّ على التحريم، وانّما يدلّ على خلوّه من الفائدة، فالباطل ما لا فائدة فيه، على أنّه أراد بالكراهة التنزيه.

والنتيجة التي توصل اليها الغزالي في خاتمة بحثه المطول عن الموسيقى  وبها فتح أبواب الخانقاه لمجالس السماع هي قوله:

اعلم أنّ السماع هو أول الأمر، ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد، ويثمر الوجد تحريك الأطراف، إمّا بحركة غير موزونة فتسمى الاضطراب، وإمّا موزونة تسمى التّصفيق والرقص.

ونقل أبو طالب الحكّي إباحة السماع من جماعة، فقال: سمع من الصحابة عبدالله بن جعفر وعبدالله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وغيرهم.

وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي باحسان وقال: لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في فضل أيام السّنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التّشريق .

ولم يزل أهل المدينة مواظبين كاهل مكّة على السماع الى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي وله جوارٍ يسمعن الناس التلحين قد أعدهنّ للصوفيّة .

ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة، ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص فحكمه حكم ما في القلب.

قال أبو سفيان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرك ما هو فيه، فالتّرنم بالكلمات المسموعة معتاد ومباح.

إذن اصبح الطريق امام المتصوًّفة معبداً لاقامة مجالس الموسيقى والسماع والرقص ممتزجة مع العبادة بعد فتوى الجواز من قبل الإمام ابو حامد الغزالي وهوالفقيه الأكبر بل أصبحت جزء العبادة، ولا حرج على مولانا جلال الدين حين يعّرف الموسيقى بأنها :" أزيز أبواب الجنة " كما ينقل عنه الافلاكي ..

ويصف مولانا الموسيقى أيضا بأنها غذاء العاشقين وقوت خيال الضمير:

 

 پس غدای عاشقان آمد سماع

که درو باشد خیال اجتماع

قوتی گیرد خیالات ضمیر

بلک صورت گردد از بانگ و صفیر

آتش عشق از نواها گشت تیز

آن چنان که آتش آن جوزریز

والموسيقى عند مولانا جلال الدين لغة إلهية، وطريقة للتخاطب تفوق لغة التفاهم المحدودة بالألفاظ والتي ينبغي ان تكون معلومة لطرفي التخاطب ولا تتجاوز اللسان، تلك الحدود والقيود ترفضها الموسيقى وتتخطى حدود الجسد وتخاطب الأرواح،هي طعام الحب كما يصفها شكسبير:

If music be the food of love play on

اذا كانت الموسيقى طعام الحب فأكمل العزف …

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم