قضايا

عبد الامير كاظم زاهد: اشكاليات الاندماج الوطني مقاربات للحل

لأجل ان يحقق اي مجتمع تقدماً على صعيد حقوق الانسان، ويطرد فيه التقدم التقني لابد أن يكون مجتمعاً متماسكاً وهذا ما يحصل في المجتمعات الواحديه الثقافة، اما المجتمع الذي تتعدد مكوناته وتتنوع فانه سيواجه صعوبات في هذين المجالين (الاندماج، والتقدم) مالم يبذل جهداً استثنائياً لتحقيق هذا الشرط من شروط بناء الانسان الذي يحترم تنوعات مجتمعه وثقافاته التي تنصهر ضمن ثقافة وطنية واحدة، ومن المعلوم أن العلماء يفرقون بين المجتمع والجماعات فالجماعة مجموعة بشرية يربطها الدم أو العقيدة الواحدة، والمجتمع مجموعات بشرية متنوعة اتفقت اراداتها الحرة على صناعة ثقافة وطنية تضم كل ثقافات التعدد وقيم التنوع واعتمدت التواصل والانصهار على قيم جامعة مشتركة من أبرزها قيم قبول الآخر والحوار معه والعيش المشترك والتعاون الجاد .

وسؤال البحث: هل تحقق في العراق على مدى قرن من الزمان فكر تبنته الحركات السياسية والجمعيات والمنظمات المجتمعية يحقق هدف الاندماج ويطرح مشروعاً للنهضة والتقدم وللإجابة على هذا التساؤل يقتضي الحال مراجعة تاريخية تبدأ من النشأة أي نشأة الدولة العراقية عام 1921 لقد عاشت (ولايات العراق ضمن الامبراطورية العثمانية) وضعاً فكرياً ناتجاً عن امه منعت على نفسها الاجتهاد في مجالي القانون والعقائد فانشغلت بالانكفاء على ذاتها وطيفها الديني، العرقي والمذهبي، تبجل ذاتها، وتلتمس مثالب الآخر، وعملياً انشغلت في اصدار الحواشي والشروح على متون كتبت قبل عدة قرون، ولم ينتج عن هذه القرون متن جديد، وكان العقل قد توقف، وهذا العامل الظرفي انتج امرين الأول غياب التفكير المنظم في مشروع دمج المكونات في منظومة وطنية وغياب التفكير المنظم في اكتشاف المشروع الذي يجعل الانسان محققاً للنهضة والتقدم وقد أنشغل الوسط والجنوب في مواجهة السياسات التهميش للولاة العثمانيين على بغداد، واستصحاب النزاعات المذهبية وهذا يعطل (نظرية الاندماج)، كما يعطل (اكتساب القوة) بالعلم والمعرفة التطبيقية، ويميز الفترة من مطلع القرن العشرين الى الربع الأخير منه، الصدامات المتعددة مع السلطة العثمانية (النجف 1916) ومع الاحتلال الانكليزي (النجف 1918) وثورة العشرين، وانتشار روح المدافعة التي تعطل التفكير بالاندماج الى حد ما ثم أن الحراك المجتمعي في العراق من مطلع القرن العشرين الى سنوات قريبة كان يقوده رجال الدين، وهؤلاء مع بالغ احترامنا، وبسبب تاريخ التدوين المذهبي وسماته وخصائصه لا يفكرون في (الاندماج) أضافة الى إنهم ربما يكونون بعيدين عن (العلوم المدنية) وفلسفات ادارة التنوع * ولقد تشكل الاجتماع السياسي في العراق من قوى دينية وقوى مدنية (علمانية /ليبرالية)، وأن القوى الدينية تشكلت في البدء على شكل جماعات وجمعيات ومؤسسات خيرية بينما القوى المدنية تشكلت على نمط الاحزاب وكلا النمطين انشغلا بموضوعات ليست على صلة بالإشكاليتين محل البحث، بل أن أصحاب الاتجاه الاسلامي عتموا على مبادرة الشيخ النائيني في قيام الدولة الدستورية البرلمانية (تنبيه الامة وتنزيه الملة) ووقفت (حوزة النجف) بالضد امام أي ممارسة سياسية يقوم بها (رجل دين) مثل الشيخ الزنجاني أو الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء بل حافظت النجف على (موقف محدد) من السلطة تحت نظرية الولاية الحسبية (أي النطاق الضيق من صلاحيات تدخل المرجع الديني بالشأن العام لا سيما السياسي منه) . فالقوى الاسلامية المؤسسية مثل المرجعية العليا، أو الجمعيات الاسلامية مثل جمعية النهضة وجمعية الاستقلال، لم تطرح فكر يحقق دمج المكونات ضمن رؤية وطنية بعد انسلاخ العراق عن الدولة العثمانية واستقلاله عن بريطانيا كما انها لم تكتشف مشروعاً النهضة .على أن نشوء الاحزاب الاسلامية (التحرير، الشباب المسلم) لم تكن مرتبطة بالمرجعية فكانت محل ريبة وعدم تعاون مع المؤسسة المرجعية بينما كانت الدعوة جزءاً من أرادة المرجعية النجف وكانت حركة العمل من (مرجعية شيعية /كربلاء) الشيرازي وهنا: أشير الى الاهتمام الرئيس لهذه الاحزاب بالشأن الحزبي الخاص أكثر منه بالشأن الوطني أو استشراق المشكلات على صعيد المستقبل.أما بالنسبة للأحزاب (المدنية) فالحال فيها أنها أكثر اغفالاً للاندماج ومشروع التقدم فالحزب الوطني الديمقراطي كما يقول مفيد الزبيدي أنه كان منشغل بالاتساق مع التيارات القومية، بما في ذلك من تداعيات مذهبية

والحزب الشيوعي أممي النزعة الا انه وقع في الموالاة العميقة للاتحاد السوفيتي ولم يكن على قدر عال من الاهتمام بالشأن الوطني، بل ان الاحزاب التي شكلت جبهة الاتحاد الوطني (1965) كانت تهدف للوصول الى السلطة، وعلى مستوى وعي القادة السياسيين الكرد فأنهم انشغلوا تماماً بالمطالبة بتوحيد الكرد، والمطالبة بتقرير المصير (دولة كردية) والاحزاب الكردية وأن كان بعضها يساري الفكر الا انه اولاً واخراً دعوه قومية، على الضد تماماً من الانصهار الوطني، الى جانب أنها لم تفكر بمشروع للنهضة وعلى العموم فأن المنافسة والصراع احياناً بين قوى اليسار العراقي والقوى القومية لا سيما بعد 1958 كان صراعاً على متبنيات لا تمت بصلة الى برنامج وطني للاندماج والتقدم بل على حزبية (أيديولوجية/وقومية) .

المعوقات النظرية للاندماج الوطني عند الاسلاميين:

من يطلع على ادبيات الكتل الاسلامية بنوعيها الشيعي والسني يجد أن من اساسيات الايمان الديني تفضيل المسلم على غير المسلم في مقام الاثبات القضائي والميراث والجزاءات الجنائية وغيرها، ولا سبيل لدى الاسلاميين الى تعديل هذه الأسس، ولعله تأويلها لصالح الاندماج أمر في غاية الصعوبة وازاء المرأة فأن الفقه الاسلامي يفاضل بينها وبين الرجل مفاضلة بينه ايضاً في الاثبات القضائي والجنايات والاحوال الشخصية والميراث  .

فاذا اضفنا الى ذلك التمييز المذهبي (التاريخي) عند فقهاء المذاهب ودعوى المتعصبين منهم بأن لا يزوج أحد من مذهب ما، آخر من مذهب ثانٍ ولا تقبل شهادته ولا يوثق به، ويعامل بوسائل الاقصاء والتهميش القبح فأن تلك كلها معوقات انتقلت الى ذهنية اتباع الحركات الاسلامية، واستقرت في اللاوعي والوجدان الديني، بل الانكى والاشد الصاق (مفتريات) من كل الجهات على خصومهم المذهبيين، فما كنا نعرفه مثلاً عن الايزيديين شيء لا نظير له من القبح، وهكذا عن اليهود، وكل ذلك كان حاضراً في وعي الممارسة الاجتماعية .

أن تنامي الشعور المذهبي، وتمكنه حتى من القادة والمنظرين قد صار تراثاً تتلقاه الاجيال عن بعضها، وتمارسه الناس كانه أحدى حقائق الوجود .ومن الجدير ذكره أن عدداً من المؤسسات الدينية والاحزاب من الطرفين ينادي بالتقريب بين المذاهب علناً كشعارات، لكن السلوك يختلف عن ذلك فهو في اللاوعي وكأثر من آثار تراث الكراهية مستقر في الوجدان الديني، وادل دليل على ذلك، أن هذا التقارب والتقريب لم يحصل بل أن مجرد طرح التقارب اعتراف بالتفاصل، وطالما انتبهنا الى أشكالية بقاء المكونات العراقية في وضعها (قبل الاندماج) وضع الجماعة المنفصلة في وعيها وشعورها، وكيفية احتساب مصالحها ورسم اهدافها، وعرفنا قصور الفكر والثقافة اللتين لم تكتشف اهمية هذا الجانب سواء على مستوى الفكر المؤسسي أو في برامج الاحزاب، ثم اكتشفنا أن بقاء المكونات العراقية (منفصلة عن نظيراتها) مدعاه للتراجع في المستويات المدنية ومستوى التقدم، والتعاون بين أبناء الوطن الواحد فماذا يجب على المؤسسات الثقافية، ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بالشأن الوطني وثقافة المواطنة أدراكاً منا أن العقل النظري يحتاج الى مادة معرفية تشكل معايير قيمية ترسم مواقفه ازاء الاشياء والافكار والاشخاص، وتجلي من التراث عناصره الاحيائية والحية وتمنع عناصره الميتة أو المميتة من أن تكون هي الفاعلة وهذه المهمة ربما تحتاج الخطوات الآتية:

1- اعتماد مثلث البرهنة في الدراسات التراثية والدينية وهي (النزعة النقدية، والعرض والتحليل البرهاني ونزعة المقارنة) وبذلك تنفتح الآفاق تماماً على طلاب المعرفة، والمتطلعين لثقافة امتلاك الحقائق وتغلق الطريق على (مسلك تبجيل الذات واسقاط الآخر زوراً وافتراء).

2-  محاولة تقريب وتشويق الاطلاع على ثقافة المكونات الاخرى كمعرفة العرب تاريخ الكرد أو التركمان وتطلعاتهم وحاجاتهم واحوالهم وسبل تطوير مجتمعاتهم وكذلك اطلاعهم على حال العراق.

3- محاولة أن يمتلك العراقي عده لغات فالعربي أذا عرف اللغة الكردية والتركمانية صار التفاهم بالنسبة اليه أيسر وكذلك الكرد والتركمان .

4- الاطلاع على آداب المكونات العراقية ودراستها ونقدها، ومتابعة تطورها الفني والموضوعي.

5- الدعوة لتشجيع التزاوج بين ابناء المكونات الاخرى ودعم هذا البرنامج لما له من آثار ممتازة في تخفيف (التفاصل والانعزال) .

6- اعطاء سلف ودعم مالي على شكل الاقراض ودعم مالي على شكل الاقراض للشركات التي يتولاها (ابناء المكونات) والتي تجسد حالة الانسجام، وأن تشتغل في كافة انحاء العراق .

7- أن يتخلى النواب والوزراء عن التصريح بانهم يخدمون جمهورهم الانتخابي، ويقيّم كل واحد بما يبذله لمكونه وللمكونات الاخرى ولا بأس أن يتبرع النواب لمشروعات في غير جغرافيتهم الانتخابية.

8- حث السينما والمسرح، وكتاب القصة والروات أن يتناولوا موضوع الاندماج والتقدم كأهداف وطنية مهمة وعاجلة .

9- عقد عدة ندوات اجرائية وورش عمل وحلقات نقاشية واكتشاف السبل والوسائل لهذه الاشكالية

10- دعوة اتحاد الادباء، ونقابة الصحفيين، للمساهمة في انتاج نصوص أدبية وصحافية ممتازة تسهم في خلق ثقافة الاندماج الوطني .

11- وضع مادة الزامية في الجامعات لمعرفة تاريخ (الوطن) وتطلعاته والتعاطف معهمودوره المجتع الوطني

12- تشريع قوانين تجرم الدعوة الى (فكر قومي أو عرقي أو مذهبي متعصب أو ديني أو لغوي)، وتعاقب عليه وتمنع وسائل الاعلام من عرض ما يشجع التفاصل الوطني .

 ***

أ. متمرس. د. عبد الامير كاظم زاهد

في المثقف اليوم