قضايا

سليم مطر وعلي ثويني والتأصيل الثقافي للوطنية العراقية

ميثم الجنابيان اشكالية الفكرة الوطنية هي اشكالية الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي. فهو الثالوث الذي يحدد نوعيتها وصيغتها العملية. ومن ثم، فإن أي خلل في أضلاع هذا المثلث التأسيسي للفكرة الوطنية سوف يودي أما إلى انهيارها مع مرور الزمن أو تشوه مسارها. مع ما يترتب عليه من امكانية ازدياد وتنوع أثرها التخريبي بالنسبة لحياة الأفراد والجماعات والمجتمع والدولة. من هنا تبرز أهمية التأصيل الفكري والنظري للفكرة الوطنية، وفِي الحالة المعنية للفكرة الوطنية العراقية.

إن ظهور القضية الوطنية العراقية والتفكير بإعادة تأسيسها سواء عبر النقد السياسي والاجتماعي والثقافي والنفسي والتاريخي وغيرها يشير إلى تعقيد الظاهرة من جهة، وتفاعل عوامل ومسببات متنوعة أدت إلى انهيار نسبي وعميق لبنية الفكرة العراقية بمعناها السياسي والاجتماعي والثقافي، من جهة أخرى. من هنا كمية ونوعية الخراب الجلية للعيان حاليا.

لقد أخذ يتوسع في الفترة الأخيرة مدى الفكرة الوطنية العراقية والفكرة العراقية وصداها بأثر تأمل حالتهما المزرية. ومن دون التوسع في هذا المجال، فإننا نقف أمام أشكال وأنواع عديدة من الصراع والاختلاف تدور في أغلبها، وبالأخص من جانب "النخبة السياسية" حول مصالح ضيقة وأنانية مثيرة للتقزز والاشمئزاز، بحيث جعلت وتجعل من هذه النخبة وأزلامها أشبه ما تكون بأكياس خراء! وهو وصف يستمد عبارته من الحادثة التي رد بها أحد رجال الثقافة الإسلامية المتسامية في معرض إجابته على سؤال أمير فيما إذا كان يعرفه أم لا فأجابه: نعم أعرفك! أولك نطفة حقيرة وآخرك جثة نتنة وما بينهما كيس يحمل الخراء!

إننا نقف أمام نفس الحالة التي يواجهها أهل الفكر السياسي والثقافي النقدي في التصدي لأكياس الخراء المبتهجة بما فيها والعائشة على حالة الخراب. ومن بين أهم معالم هذا الخراب، إن لم تكن أكثرها جوهرية، هي الفكرة الوطنية العراقية والفكرة العراقية.

إن الفكرة الوطنية العراقية هي الفكرة السياسية للدولة والمجتمع، بينما الفكرة العراقية هي فكرة الوجود التاريخي الثقافي للعراق وأصالته. بمعنى إن الفكرة العراقية هي بؤرة وجوهر الفكرة الوطنية العراقية، وما لم يجر إعادة غرسها في الوعي الاجتماعي العراقي فمن المستحيل إرساء الأسس المتينة للفكرة الوطنية. 

فالمساعي المهمومة بتأصيل الفكرة الوطنية وأصالتها في الأغلب تبرز زمن الانحطاط أو الانهيار أو الانكسار أو الانحسار للدولة والمجتمع، أي زمن الازمات البنيوية الحادة. والردود عليها مختلفة ومتباينة. وتتمادى هذه الردود من أقصى حالات التطرّف والغُلو حتى أكثر النماذج عقلانية وانسانية.

وفيما يخص العالم العربي فإنها ظهرت في الغالب بصيغة التضاد أو الاختلاف أو التوازي بين الفكرة العربية القومية (العامة) والفكرة الوطنية (الخاصة). وهذه خاصية الفكرة الوطنية في العالم العربي. وسبب هذا التضاد والاختلاف والموازاة يعود أساسا إلى محددات تاريخية وسياسية وثقافية. ففي وحدة هذه المحددات تكمن منظومة هذا التنافر النسبي وأحيانا الحاد، وذلك لأن تاريخ العالم، والعربي جزء أو مظهر منه، يكشف عن أن انهيار المركز السياسي الثقافي العام يودي إلى ظهور مختلف أشكال الانغلاق النسبي أو الجزئي أو الحاد. فانهيار المركز السياسي الثقافي لدمشق الأموية أدى إلى تجزئة وصراع على النفوذ الجغرافي. والشيء نفسه يمكن رؤيته على مثال تدمير المركز السياسي العباسي في بغداد. وفِي حال افتراض قدرة العالم العربي، بعد انهيار السلطنة العثمانية أو نجاح مشروع محمد علي باشا، على إرساء أسس الدولة العصرية الموحَّدة لأدى ذلك إلى تذليل أو نفي فكرة ونفسية التضاد والاختلاف والتوازي بهذا الصدد. لقد كان بإمكانه أن يودي إلى ظهور التنوع الثقافي المتوحد بفعل تباين المناطق الثقافية في العالم العربي. وهذه بدورها حالة تاريخية وليست جوهرية أصلية. لكن المسار التاريخي الفعلي قد أدى لحد الآن إلى نتائج مختلفة عن الفرضية المشار اليها أعلاه، مع أن ذلك لا ينفي القوة الكامنة فيها بوصفها فرضية مستقبلية.

 وبالعودة إلى القضية مثار البحث نرى بأن التاريخ العربي الحديث والمعاصر لم يفرز هذا النوع من الاختلاف والتضاد إلا في ما يسمى بالعودة إلى مصر الفرعونية أو إلى لبنان الفينيقية. ويتميّز كل منهما باختلافات كبيرة لكنهما يشتركان بنفسية وذهنية الاستلاب الثقافي أمام الغرب الأوربي. وهز أمر جلي في محاولتهما الرجوع إلى مراحل منفية في تاريخهما العربي الإسلامي الذي أسس لمرجعيات جديدة في كل مسام الوجود التاريخي لمصر ولبنان. كما انه لا مرجعيات ثقافية في الفكرة الفرعونية والفينيقية ما يمكِّنها من أن تكون بديلا نوعيا وشاملا للصيرورة العربية الإسلامية في مصر ولبنان. من هنا اندثارها بسلام وأمان دون أن يؤديا إلى احتراب داخلي. مع أن بقاياها القوية مازالت تنخر الكيان اللبناني. بعبارة أخرى، لقد كانت تلك محاولات أقرب ما تكون إلى نزوات فردية أو طائفية. وكلاهما لا يصنعا تاريخا.

أما التيار الوحيد الذي حاول أن يجد صيغة عملية معقولة لإبراز اهمية الجغرافيا السياسية للمشرق العربي وليس العالم العربي ككل أو لبلد واحد لحاله فهو ما قام أنطون سعادة وأيديولوجيته القومية. وهي فكرة عميقة ودقيقة وعملية في ظروف الصيرورة التاريخية للعالم العربي المعاصر ودوله. فقد سعى أنطون سعادة إلى تأسيس الفكرة القومية الوطنية لدولة وادي الرافدين (العراق وسوريا الطبيعية) تحت عنوان "القومية السورية" و"الدولة السورية". واعتبرها كيان له كينونته التاريخية الثقافية الخاصة مقارنة بغيره من أجزاء العام العربي( الجزيرة والشمال الأفريقي).

بينما لم تظهر في العراق دعوة الرجوع إلى تاريخه الرافيديني من اجل تأسيس فلسفة أو أيديولوجية سياسية وطنية او عراقية. إذ لا دعوات إلى سومرية وبابلية وآشورية وغيرها في الوعي السياسي. لكنها تبرز بأقدار قليلة لحد الأن في مجال الروية التاريخية والثقافية. وهذه فضيلة تحتاج إلى توسع وتعميق وترسيخ في العقل التاريخي الثقافي للعراق، وذلك لأهميتها العراقية والعربية والعالمية.

إننا نقف أمام نماذج متميزة في الدفاع عن الفكرة العراقية وخصوصيتها بوصفها هوية أصلية. ولعل اكثر من بمثلها في العراق كل من سليم مطر وعلي ثويني.

واكتفي هنا، من دون الخوض في دراسة وتحليل كل ما كتبه سليم مطر بهذا الصدد، بذكر الاعمال التي انجزها، والتي من خلالها حاول تأسيس ما يدعوه "بهوية الأمة العراقية". وقد بدأ سليم مطر بالعمل على نحت هذا المفهوم والتوسع فيه والتأسيس في سلسلة من الأعمال الفكرية مثل كتاب (الذات الجريحة) و(العراق.سبعة آلاف عام من الحياة)، و(جدل الهويات)، و(مشروع الإحياء الوطني العراقي) و(مجلة ميزوبوتاميا) أي بلاد النهرين والتي اخذ باصدراها عام 2004. وقد كانت اقرب ما تكون اإى موسوعات متنوعة تهتم بالشأن العراقي والهوية العراقية. وهو أمر جلي في أسماء ومضامين "الموسوعات" التي احتوت عليها مثل (المدائن العراقية) و(خمسة آلاف عام من التدين العراقي)، و(خمسة آلاف عام من الانوثة العراقية)، و( موسوعة اللغات العراقية) و(موسوعة البيئة العراقية) و(كركوك قلب العراق). وجميعها كانت تتمحور حول مختلف قضايا الهوية العراقية. والغاية منها البرهنة على ان عراق بلا هوية وطنية مشتركة توحد العراقيين، يستحيل بناء دولة موحدة ومستقرة. واعتبر ان كل ما جرى في تاريخ العراق من خلل يعود اساسا الى غياب الانتماء الثقافي الوطني المشترك. كما كان يؤكد في كل ما كتبه بهذا الصدد على أن الهوية الوطنية يجب أن تكون ذات بعد إنساني وديمقراطي.

واستنادا الى معرفتي بالأعمال الأساسية يمكنني حدّ أو تعريف هذا النمط بنموذج التأصيل التاريخي التراثي للفكرة العراقية. وهو أمر جلي في محاولاته العديدة في إبراز قيمة وأهمية التراث العراقي القديم والإسلامي والمعاصر بالنسبة لفهم ماهية العراق الخاصة او أصالته، وحقيقته التاريخية الجغرافية بوصفه موطن الحضارات السومرية والبابلية والآشورية وكثير غيرها. ومن ثم السعي الحثيث والعميق لنفي كل ما جرى ويجري "سرقته" او تشويهه او ابتذاله من تاريخه الذاتي. وأن تاريخ العراق الذاتي هو تاريخ الإبداع الهائل والذي ينبغي وضعه في أساس الفهم الوطني باعتبارها أولوية جوهرية على ما عداها من قومي عربي وإسلامي عقائدي ومذاهب جزئية أيا كان نوعها. بعبارة أخرى، إن العراق مكتف بذاته، والمهمة تقوم في العمل من اجل أن يكون مكتفيا بذاته. وهنا تكمن حدود الفكرة العراقية والوطنية العراقية. ولعل نقده العميق واللاذع والموثق بحقائق التاريخ والثقافة لما يدعوه بفرسنة (من الفارسية) للتراث العراقي وبالأخص ما له علاقة بالمرحلة الإسلامية، ونقد آراء ومواقف الحركة الكردية بوصفها كمية من الجهل والغباء وانعدام الوعي الذاتي العراقي الوطني أحد النماذج الواضحة بهذا الصدد. والغاية من وراء كل ذلك هو وضع الهموم العميقة بإشكالية الهوية والأصالة العراقية في صلب الفكرة السياسية.

ينما يقدم الدكتور علي ثويني نموذجا لما يمكن دعوته بالتأصيل السياسي التراثي للفكرة العراقية. فهو يمثل الفكرة الموازية لما يسعى لتأسيسه سليم مطر ولكن بمعايير الرؤية السياسية الثقافية. من هنا اهتمامه العميق بالفكرة الوطنية والعراقية بمعايير النقدي السياسي. وبما انه محترف اساسا في فن العمارة وتاريخها، لهذا نعثر على تأسيسها فيما اسميته مرة بتحويله فهم العمارة إلى فكر أقرب ما يكون إلى هندسة الروح والجسد وتنظيمها وجعلها مرآة تنعكس فيها معالم الإبداع الذاتي وقيم جمال الحياة والآفاق. وهي الفكرة التي نعثر عليها في جميع ما يكتبه الدكتور علي ثويني، ليس فقط في ميدان المعمار بل وفي ميدان الكتابة الاجتماعية والسياسية. لكن الباعث الجوهري والأعمق يبقى بالنسبة له الكشف والبرهنة على أن تاريخ العراق بمختلف جوانبه يفعل بمعايير الوجد والوجدان، والعقل والإيمان، والروح الجسد. وهو سر ديمومته إمام أعاصير الزمن والغزاة والطغاة. ولم يقف عند هذا الحد بل يسعى في كل كتاباته الى تأكية اهمية وقيمة فكرة الانتماء الثقافي والروحي للأمة (العراقية).

في كتاباته نعثر على الخيط الرابط لكل ما يريد قوله، الا وهو ان العراق هو الي يحمي كل من فيه. ومن ثم ينبغي تحويله في وعي الأجيال إلى مبدأ ونهاية الرؤية السياسية والاجتماعية والإبداعية. من هنا نقد الشديد والعقلاني للحركات والتيارات العرقية (الكردية) والقومية العربية والشيوعية (الاممية)، أي كل ما يفرط بقيمة العراق بحد ذاته. بينما حقيقة العراق والرؤية الوطنية تفترض عل العراق مبدأ وغاية وجود من فيه. ومن ث تحريره من كلا رابط يجعل منه تبعا بأي مقياس ومعيار كان. وضمن هذا السياق يمكن فهم بواعث معارضته الشديد لتأثير وتدخل العامل الإيراني الفارسي والأمريكي، أي ضد كل من يجعل من العراق ذيلا أو تابعا.

وبغض النظر عن الاختلافات بين سليم مطر وعلي ثويني في الكشف والتاييد لما يودان قوله، إلا أن هذه الخلافات في اغلبها تتطابق مع فكرة التباين. إنهما يتباينان في جوانب فرعية لكنها يلتقيان في القضايا الجوهرية. إنهما يلتقيان في الموقف من الفكرة العراقية ومهمة تأسيس الهوية العراقية والأمة العراقية. وكلاهما ينبذان كل ما يعيق ذلك في مجال الفكر والثقافة والسياسة والتاريخ. من هنا موقفهما الصلب وثباتهما الفكري والسياسي تجاه نقد الحركة القومية الكردية ونوعها الانفصالي. وكذلك نبذ الطائفية. وأخيرا الدفاع عن الكينونة العراقية الأصلية بوصفها كينونة شعوب ما بين النهرين انطلاقا من أن كل ما كان في تاريخ العراق فهو عراقي.

أما السؤال المتعلق بالسرّ القائم وراء هذه الرؤية فهو مرتبط باعتقادي في كونهما من جيل المرحلة العاصفة في تاريخ العراق الحديث، تاريخ الصعود الوطني وانكساره بسبب صعود التيار البعثي القومي العنصري والطائفي والمعادي للفكرة الاجتماعية والهوية الوطنية العراقية والعراق بوصفه أمة مستقلة بذاتها. كما أنهما كلاهما من الجنوب العراقي، بوصفه الحامل التاريخي للهوية العراقية منذ سومر وبابل، أي منذ المرحلة التأسيسية للعراق بوصفه كيانا تاريخيا ثقافيا مستقلا. فكلاهما يتمثل حقيقة الجغرافيا العراقية، وجغرافيته الثقافية. وكذلك الحال بالنسبة للمرحلة العربية الإسلامية. فقد كانت البصرة والكوفة قاعدة التأسيس النظري لكل ما هو جوهري في المرحلة العربية الإسلامية ليس في العراق فحسب، بل وفي العالم العربي والإسلامي ككل. الأمر الذي حدد ما يمكن دعوته بسرّ التفاؤل المستقبلي تجاه العراق رغم كل معالم انحطاطه الحالي. فالذي نشأ وترعرع بوصفه جيل المعاناة الحية والمأساة الكبرى للتاريخ العراقي الحديث لا يمكن زعزعة يقينه بالعراق، الذي جعل السياب يقول بأنه حتى الظلام في العراق جميل.

أما الأمل الباقي بوصفه شعاع المستقبل بهذا الصدد فيقوم في أن يستكمل كل منها لحاله أو يلتقيا في مشروع كتابي موحد يسعى لتأسيس رؤيتهما في منظومة فكرية متكاملة وعملية ومستقبلية. وعموما ليس هناك من شيئ أنبل بالنسبة للمثقف العراقي من أن تدور همومه الفكرية والروحية الآن حول إشكاليات العراق من أجل انهاضه من جديد ودفعه صوب البحث عن "الخلود"، ليستعيد رؤية معاصرة عن معنى الخلود الذي بحثت فيه ملحمة جلجامش .

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم