قضايا

بين العلم والعرفان

مجدي ابراهيمالفواصل الشعورية في دائرة القيم العليا دقيقة جدّاً، وتحديد الخطوط الفاصلة بين المعاني الكبرى؛ كالأخلاق والمعرفة والاستقامة والإرادة والحرية والمجاهدة والفناء والمحبة في حديث الولاية، أمرٌ يكادُ يكون على مستوى الشعور من الصعوبة بمكان. فإذا تحدثتَ عن المعرفة يلزمك الحديث عن الحرية، وإذا تحدثت عن الحرية تحدثت عن الاستقامة، وإذا تحدثت عن الاستقامة فلا يخلو حديثك عن الإرادة والمجاهدة، وفي الكلام عن الإرادة يقودك الكلام عن المجاهدة وعن الحرية سواء.

الخطوط الفاصلة في مجال القيم الكبرى لا يتاح تحديدها كما يتاح التحديد الفاصل في المسائل الرياضية.

وربما كان سبب هذا هو أن الكلام فيها خاضع لتجربة روحية وصادر عن بؤرة الشعور، وأن الشعور فيها فوق المفهوم، فلا يتأتى من ثمّ النظر إليها من جهة القياس المنطقي والاستدلال العقلي، ولكن يتأتى من جهة الاستبطان الشعوري الذوقي. وربما كان هذا أيضاً هو سبب ترديد الكتابة عنها بأذواق متباينة ومشاعر متفاوتة.

وإذا كانت هى في ذاتها قيماً مطلقة، فالحكم في الغالب فيها نسبي ليس بالمطلق؛ لأنها من جهة الذوق والشعور لا تخضع لهذا الحكم المطلق. ونسبية الحكم ترتد إلى اختلاف المقوُل بين فرد وآخر حسب الحالة الباطنة، وحسب التذوق الذي يصدرها من باطن إلى ظاهر، ومن مستور خفي إلى مجلوِّ ليس فيه خفاء.

وإنما تخضع للصدق، وحكم الصدق هذا لهو أكثر موضوعية من غيره من الأحكام. لكن مع هذا كله؛ يوجد هناك تعليلٌ لهذه الفوارق الشعورية ينتهي إلى تعميم تتصف به الحالة الواحدة أو مجموعة الحالات المتشابهة، والوقوف على هذا التعميم هو حكم منهجي علمي عام، يكاد يتفق عليه الجميع أو لا يتفقون. وليس هو بالذي يخضع لحقيقة التجربة الصوفية في ذاتها.

فأمّا حالة الاتفاق، فليس شرطاً فيها أن تجيء عامة يُسَلّم بصحتها الجميع، ولكنها حالة تؤخذ من خلال المشابهة بينها وبين حالات كثيرة مثلها، فيكون التعميم من خلال التشابه في الحكم. أمّا حالة الاختلاف، فقد تكون من طريق آخر لا يعبر عن المتشابه بين الحالات، ولكن صاحبها يرى ما لا يراه الآخرون، وهو الأغلب وهو الأعم؛ لأنها كما ذكرنا خاضعة للشعور الفردي ومنازلة الحالة الروحية، فالاختلاف فيها بديهة مقررة سلفاً.

وشيءُ آخر لا بد من أن يؤخذ في الاعتبار وهو : العلاقات والروابط بين الحالات جميعاً بحيث تجيء لتكوِّن مفهوماً مغايراً عن المفاهيم السائدة في الأنظار الفلسفية؛ فإذا قلت الحرية مثلاً بمعناها الصوفي استطعت أن تستخرج مفهوماً مخالفاً تماماً عن مفهومها الفلسفي أو عن مفهومها السياسي المباشر. وكذلك الشأن في المعرفة، وفي العلم، وفي التنوير، كلها مفاهيم تُرد إلى الخلفية الأيديولوجية بين حقل وحقل أو بين دلالة ودلالة.

هنالك مثلاً التفرقة الفارقة بين العلم والعرفان في حدود هذا الحقل الدلالي الذي تعمل فيه مثل هذه الفوارق، وعلاقة كل مفهوم بالآخر من جهة، وعلاقة العلم أو العرفان بالحرية، ومتى تقوم الحرية؟ وفي أي مجال منهما تتحقق : في العلم أم في العرفاني؟ وما هو دور "الإرادة" في هذا كله، وما علاقتها بهذا كله، وهل للأخلاق دورٌ في هذا التأسيس؟

إذا نحن تبينا مثل هذه الفوارق، يمكننا أن نصل إلى مفهوم مغاير للحرية يَقْرُب من الدلالة الذوقية في حقل التصوف. وبمقتضى التفرقة بين الإرادة في مجال المعرفة والإرادة في مجال العلم، نستطيع القول بأن الإرادة في ذاتها شيء، وإدراك الإرادة شيء آخر؛ فجميعُ ما يمكن أن يدركه الإنسان قد يدركه بفعل العلم لا بفعل الإرادة العارفة. ضرورية إذن هذه التفرقة؛ إذْ أن فعل العلم بعيدٌ عن "التحقيق"؛ لأن علمك بالشيء غير تحققك به.

العلمُ بالشيء شيء يختلف عن المعرفة به إذا كانت المعرفة تستلزم إدراكاً موصوفاً بالتَّحَقُّق.

قد تعلم الفضيلة مثلاً وتعلم عنها الكثير، لكن علمك هذا شيء غير إدراكك لها، وكلمة "إدراك" تعني هنا "التحقق بالمعروف"، فالتحقق طريق (= إدراك) يوصل إلى المعرفة، في حين لا يمكن أن يصل الإنسان عن طريق العلم وحده إلى المعرفة ذات التحقق الفعلي، فمتى يكون الإنسان عالماً، ومتى يكون عارفاً؟

في الأوَّل؛ عندما يكون الإنسان عالماً ينبغي أن يكون موصوفاً بالعقل والإدراك النظري، بينما إذا هو أتصف بالإدراك السلوكي الفعلي، أي طَبَقَ النَّظَرَ مع العمل، والتحصيل النظري مع الفعل التجريبي، عند ذلك يكون عَارفَاً لا لشيء إلا لأنه قد تحقَّق. ومعنى كونه قد تحقَّق أنه عاش التجربة وتذوق حلاوة الحال، وَتَبَيَّنَ من طريق تجربته مفردات الحياة الفعلية الموصوفة له من سبيل العلم وكفى، لكنه لما عَاشَ عَرَف، ولمّا أختبر ذَاق، ولما جَرَّب تحقق، فوصفه تجريب، واختباره تحقيق، وتذوقه مقاساة الحياة الروحيّة شعوراً منه بوجوده الفعلي وحقيقته الأصلية، فهو من هذه الجهة لا من سواها، يمكن أن يكون عالماً، لكن علمه هذا ليس إدراكاً من الخارج، وإنما هو معايشة من الباطن. وفي نفس الوقت يكون عارفاً؛ فالمعرفة والعلم يلتقيان عند العارف في ولوج "التحقيق" الفعلي، وفي دخول عالم الممارسة الواقعيّة، وفي مقاساة التجربة ومنازلة الحالة الروحيّة.

كان قدماء الصوفيّة قد فَرَّقوا التفرقة نفسها بين العلم والمعرفة، وكانوا من الدقة بحيث لم يكن لديهم خلط على مستوى الفهم بين المعرفة والعلم.

نعم؛ ظهر التمايز لديهم في فوارق الشعور النَّفسي أولاً قبل الفارق اللفظي، وبناءً على هذا التمايز في الشعور استدلوا من طريق الإدراك والتحقق على الفارق المفهومي والدلالي؛ فها هو "الهجويري" يقول : إنّ شيوخ الصوفيّة كانوا أطلقوا اسم المعرفة على كل علم متصل بعمل تَعبُّدي وحال رَبَّاني؛ إذْ كان حال العبد يدلُّ على علمه، وفي هذه الحالة لا يسمى صاحب الحال عالماً ولكن يسمى "عارفاً". أما اسم العلم، فيطلق على كل فَنِّ خَلَىَ من معنى روحاني وعمل تعبُّدي، وعندهم أن صاحب هذه المعرفة لا يسمى عارفاً ولكن يسمى "عالماً"؛ فمن عرف معنى الشيء وحقيقته يسمونه "عارفاً"، ومَنْ ألمَّ بعبارات منطقية وحفظها بدون إدراك حقيقة روحانية، فهو عالم وكفى، عالم بالشيء غير عارف به.

العالم قائم بنفسه .. والعارف قائم بربِّه :

لاحظ كلمة "إدراك" حقيقة روحانيّة هذه في كلام "الهجويري"، تجد الإدراك هو الفيصل في التفرقة بين حال العالم وحال العارف.

ومن هنا قال الغزالي في منهاج العابدين : العلمُ كرؤية النار مثلاً، والمعرفة كالاصطلاء بها. والمعرفة في عبارة الصوفية هى "العلم" الذي لا يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات الله وصفاته؛ أي العلم اليقيني الذي لا يُداخله الشك مطلقاً.

تَغْلُبْ على المعرفة الإرادة ولا تغلب الإرادة على العلم؛ فإذا كانت المعرفة تستند إلى "التحقيق" والمعايشة والحياة، كانت تقتضي أن يكون صاحبها مريداً سالكاً، ذَوَّاقاً للطريق الذي يمضي فيه على بينة وعلى بصيرة، وكان من اللازم اللازب له في كل حال أن تكون إرادته سابقةً على أفعاله، فهو هنا يفعل الفعل لأنه يريده، ويترك هذا الفعل أو ذَاَكَ؛ لأنه لا يقع تحت إرادته، وجميع الأفعال المتروكة بالنسبة له إذْ ذَاَكَ لا تقع تحت الإرادة الموجَّهة لاختبار السلوك العملي ولا تناط بها تجربة التحقق الفعلي.

فالمعرفة من هذه الجهة غير العلم، إذا نحن شَرَطْنَا للمعرفة أن تكون الإرادة أحدى مكوناتها الأساسية، ثم شَرَطْنَا تباعاً للإرادة أن تجيء متصفة بأوصاف التحقق الفعلي المرهون بالسلوك المقرون بالفاعلية التي يَتَحَرَّر فيها المرء من عشوائية الاتجاه بصدد اختيار الأفعال أو تركها، أو بالأحرى يَتَحَرَّر بمقتضى تلك الفاعلية من عشوائية الاختيار.

أما العلم؛ فما هكذا تكون أوْصَافُهُ ولا أشراطه : شأن العلم إدراك عقلي وكفى، يغلبُ فيه النظر العقلي ولا تغلب فيه الإرادة، كأن تعلم عن الدين كثيراً لكنك في ذاتك لن تصبح مُتَدَيّنَاً ما لم تتحقق بالمعرفة في الدين، ومعنى التحقق بالمعرفة في الدين أن يتوافر لك جانب الإرادة القائمة على السلوك العملي، هنالك تخضع العلم للتطبيق، فيجيء التطبيق هو الآخر إدراكاً باطنياً لكل حركة معرفية، وهنالك يمكن لك إدراك ما لا يتسنى لك إدراكه بفعل العقل وحده، ولكن بفعل الإرادة والتحقيق: بفعل العرفان.

 

بقلم د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم