قضايا

على طريق الإبداع

مجدي ابراهيمإذا كان الإبداع عموماً في مجالات الأدب والفن والثقافة والفكر، يعرّف بأنه خلقُ على غير مثال سابق، فمن المؤكد أن هذا التعريف لا ينطبق على مجال من تلك المجالات مقدار ما ينطبق على التصوف، فالصوفي مبدع على الحقيقة بلا مبالغة في القول، وبلا مجاز. ربما يكون الإبداع في مجال الأدب أو الفن على اختلاف ضروبه أو يكون في ميدان الفكر على تنوع أشكاله خاصةّ نفسية تتجاوز المعهود ممّا يكون مألوفاً من فنون المقول، فما فوق المألوف المعتاد يقال عنه خلق على غير مثال ما سبق به أحد، أو إن شئت قلت هو الجديد الذي لا يعرف التقليد ولا ينزع إلى المحاكاة.

والأصل فيه أن يصدر مباشرة عن نفس صاحبه، صدوراً عن طبيعته المبدعة، عن قواه الباطنة الخفية، ولا يصدر عنها وهو يقلد أو يحاكي أو ينقل ما عساه أن ينقله، أو يحلل عبارات الآخرين دون أن يتوفر فيه شرط التذوق، شرط الإبداع. وإذا شرطنا لعنصر الخيال في الإبداع الفني والأدبي أن يكون حاضراً بقوة، مؤثراً غاية التأثير، فلا شرط هنا في ميدان التصوف إلا شرط الصدق في التجربة المعرفية ومع ذلك فهي أي التجربة المعرفية الصوفية لا تخلو من عنصر الخيال الخلاق، وربما كان أهم وأفعل عنصر فيها. وليس لعنصر الخيال وحده هو الفاعل الأهم في هذه العملية الإبداعية ما لم تكن التجربة الصادقة مؤسسة على الذوق والأصالة، مهيئة للتلقي والاستقبال من عالم الغيب مددها الفياض فهي من أجل ذلك تتعامل مع النصوص الدينية معاملة خاصة لا يعمل فيها الخيال وحده وكفى بمقدار ما يعمل فيها الوعي المجمل الشامل بعناصره الوجودية والمعرفية.

فإمّا العناصر الوجودية، فكل ما يتصل بالوجود الإنساني من جهة الجسد والنفس والروح وكل ما يتضمن دائرة المعرفة من جهة : الحسّ والعقل والقلب والخيال.

الوعي المجمل إذن هو العمل الإبداعي مرهون بشرطه، من حيث قوة الخيال وقوة اللغة ووحدة الوجود والمعرفة، ولا يقوم في المبدع على الحقيقة إلا قياماً مجملاً، وبعد الوعي يكون البيان. لم يكن ابن عطاء الله السكندري بغافل عن هذه الخصوصية حين قال في إحدى حكمه :" الحقائق ترد في حال التجلي مُجملة، وبعد الوعي يكون البيان "فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه ثم إنّا علينا بيانه". فانتقال الوعي من حالة إلى حالة هو نفسه انتقال الوظيفة والخصوصية من وعي مجمل إلى وعي تفصيلي بياني، أو من وعي عالي إلى وعي عادي. في الحالة الأولي تتجلى الحقائق مجملة لا تفصيل فيها ولا قدرة للعقل على الإحاطة بها، لأنها تتجلى كما لو كانت بوارق خاطفة في غيبة واصطلام، وفي الحالة الثانية بعد الوعي أي بعد أن تعرض على حالة الصحو والحضور يجئ البيان من قبل العقل. فالبيان مرحلة لاحقة على التجربة، والتفصيل مرحلة شارحة لها يقوم بها العقل.

خذ مثلاً واحداً من أمثلة كثيرة لا حصر لها تدليلاً على ما أقول : وقف أحدهم عند قوله تعالى : (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (سورة البقرة: آية 269)؛ فقال : إنّما قال تعالى ذلك؛ لكثرة "الوجوه المَبْطونَة في الكلمات".

ولكن قبل أن نستطرد مع هذه الوقفة علينا أن نتوقف عند صاحبها، فالذي وقف هذه الوقفة المُلهمة كان أميِّاً لا يكتب ولا يقرأ، وكان يتكلم، كما وصفه تلميذه، على معاني القرآن العظيم والسّنة المشرّفة كلاماً نفيساً تحيَّر فيه العلماء، وكان محل كشفه اللوح المحفوظ عن المحو والإثبات، فكان إذا قال قولاً لابد أن يقع على الصفحة التي قال …؛ هو الشيخ "علىُّ الخواص" شيخ الشعراني وأستاذه ومعلمه أسرار الطريق ودروب السير فبه.

وإنما أثبتنا هذا عن "الخواص" لئلا يتوهم متوهم أن العرفان بمعاني القرآن متوقف على آلة النظر بالعقل، فهذا جهلٌ بالله، وتحجيرٌ على قدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون؛ فالعلماء الذين يتشدَّقون بالعقل ما لهم آلة لفهم كلام الله تعالى إلا بالفكر والنظر.

أمّا العارفون، فطريقهم إلى فهمه : الكشف والتعريف الإلهي. وممَّا يزيدك قناعة بفتوح الله على عباده هو أن تنظر إلى "علىِّ الخواص" هذا الأمِّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة. انظر إلى الثقة العلويّة بما لديه من عند الله، وانظر إلى "الإبداع" الخالص الذي لا يعرف للتقليد طريقاً، وانظر إلى الخصوصيِّة والتفرُّد .. ماذا تراه يقول؟

إنه ليقول: "لا يُسمى عالماً عندنا إلّا من كان علمه غير مستفادٍ من نقل أو صدر، بأن يكون خضريَّ المقام. وأمّا غير هذا، فإنما هو حاكٍ لعلم غيره فقط، فله أجر من حَمَلَ العلم حتى أدَّاه، لا أجر "العالم"، (والله لا يضيع أجرَ المحسنين)؛ فمن أرادَ أن يعرف مرتبته في العلم يقيناً لا شك، فليُردَّ كل قول حفظه إلى قائله، وينظر بعد ذلك إلى علمه، فما وجده معه، فهو علمه. وأظن أنْ لا يبقى معه إلّا شيء يسير لا يسمى به عالماً ( طبقات الشعراني : جـ 2، ص 137).

وإنه ليُفرّق بين العلم والكشف تفرقة فاصلة جديرة بالنظر والاعتبار، خالصة من الالتفات إلى الأغيار مبدعة بمقدار صدورها من شمس الحقيقة. وعنده إنما يكون الكشف هو علمك بالحقائق على ما هى عليه في نفسها. والعلم هو علمك بالأمور على ظاهرها (الشعراني : درر الغواص على فتاوي سيدي عليّ الخواص، القاهرة  1425هـ - 2014م ؛ ص 64)

في الواقع إن ما عبَّر عنه الخواص إنما هى "علوم الحقائق" لا تستفاد من فكر ولا نظر ولا عقل، ولكنها علوم وهب وتوفيق, علوم أذكار لا علوم أفكار، وهى التي يعوَّل عليها في فهم "الوجوه المبطونة" في كلمات القرآن الكريم. وقد أجابَ لمّا سئل عن قولهم : القرآن بحر لا ساحل له. فقال : معناه إنه يقبل جميع ما فسّره به المفسرون؛ وذلك أن المتكلم به، وهو الله تعالى عالم بجميع تلك المعاني والوجوه التي تدل عليها هذه الألفاظ بالنظر إلى كل شارح، فما من شارح يقصد وجهاً في شرح تلك هذه الآية أو تلك إلّا وذلك الوجه المقصود للمتكلم به وهو الله تعالى، بخلاف ما إذا كان المتكلم من الخلق؛ فإنّ الشرح لكلامه لا يتعدّى مرتبة المتكلم من القصور، وإنْ كان اللفظ يبتغيه .

اقتضاه هذا أن يفرِّق أيضاً بين "الفهم" و"العلم"؛ وذلك لإمكان القول إنّ الفهم في الكلام على قسمين : أحدهما مكتسب من مادة. والآخر: موهوب من غير مادة. فالذي وُهبَ من غير مادة، لا يُقال فيه فهم، وإنما يُقالُ فيه علم.

وأمّا المكتسب من المادة، فهو الذي يقال فيه "فهم"، وهو تعلُّق خاصُّ في العلم. فإذا علم السامع "اللفظة" من اللافظ بها أو رأى الكتابة ففهم منها أمراً؛ فمردَّه إلى حكمين : أحدهما : أن يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة مع تضمُّنها في الاصطلاح معاني كثيرة خلاف مُراد المتكلم بها. فهذا يُسمى فهماً؛ لأنه كان اكتسبه عن مادة. والثاني : لا يعلم مراد المتكلم من تلك الكلمة على التفصيل، ولكن يحتمل عنده فيها عدّة وجوه (مبطونة) يدل عليها الكلام، لا يعلم مراد المتكلم من تلك الوجوه، ولا يدري : هل أرادها كلها أو أراد بعضها، فمثل هذا لا يُقال في حقه إنه أُعطى الفهم في القرآن، وإنما يُقَال فيه أنه أعطى "العلم" بمدلولات تلك الكلمة أو الكلمات.

وقد أجمع العارفون على أن كلام الله واسع، حَمَّال أوْجُه كما وصفه الإمام عليّ رضى الله عنه، يقبل جميع ما فسَّره به المفسرون، لأنه خاطبهم بجميع ما يقبله استعدادهم.

فما من وجه مقبول فهمه عبادُه المؤمنون إلا وهو مقصود له تعالى من تلك الكلمة بالنظر إلى فَهْم مَنْ فَهمَ من كلامه تلك الوجوه المقصودة لله أو لذلك الشخص الذي فهم منها ما فهم حيث لم يخرج في فهمه عمَّا يؤديِّه الكلام من التَّجَوِّز؛ فإنْ كان خَرَجَ عَمَّا يؤدِّيه كلام العرب فلا علم ولا فهم. هذا من خصائص كلام الله. أمَّا كلام المخلوقين فقد يكون بعض الوجوه غير مقصود لصاحب الكلام.

ولمَّا كانت الآيات قد وَرَدَتْ في القرآن على التنوِّع والتّفرُّق : آيات لقوم يعقلون، وآيات لقوم يؤمنون، وآيات لقوم يتفكرون، وآيات لقوم يسمعون، وآيات للعالمين، وآيات للمؤمنين، وآيات للموقنين، وآيات لأولي النّهي، ولأولي الألباب، ولأولي الأبصار؛ صار من أوجب واجبات العبد أن يلتزم أدب الفهم في كلام ربَّه عز وجل, لينال من توجهات الخطاب ما كان تحقق به وانطبق عليه. وأدب الفهم هو أن يعقل على الدوام أن فيه مجموع ما تفرَّق من آيات : نعته الله بالعقل، والإيمان، والتَّفكّر، والتقوى، والسمع، والقلب الذي هو اللبّ، والأبصار؛ حتى إذا ما نظر في كل صفة هو موصوف بها، وكل نعت هو منعوت به، بعد أن يكون قد مشى حيث مشى به الشرع، ووقف حيث وقف به الشرع، وعقل فيما قيل له فيه هاهنا أعقل، وآمن فيما قيل له فيه هاهنا آمن، ونظر وفكَّر فيما قيل له فيه هاهنا انظر وتفكر، وسلَّم فيما قيل له فيه هاهنا سَلِّم، حتى إذا ما كان هذا دَيْدَنَه في طريق العرفان، ظهر بأوصافه ونعوته في العالم، فكان ممَّن جُمِع له القرآن وأعطي الفرقان من طريق الوهب والتوفيق بعد مكابدة مفاوز الطريق.

والعارفون ليس لهم آلة إلى فهم كلام ربهم أو غيره إلّا بالكشف والذوق لا الفهم والفكر. ومرادنا بهذا الكشف؛ هكذا يتكلم الخواص؛ هو كشف العلوم والمعارف الحاصل بالنفث والرَّوْع لا الكشف المعهود في الحسّ بين أرباب الأحوال. فإن العلوم ليست محسوسة حتى يكشف عنها كما يكشف عن الأماكن البعيدة في الكشف الصوري، وقد جعل الحق تعالى لعلماء الشريعة نظير هذا الكشف بواسطة الاجتهاد والأدلة المعلومة بينهم. وأن الله تعالى قد أخبر في كتابه عن أقوام إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون، وأخبر صلوات الله عليه عن أقوام من أمته يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فكيف تكون هذه الأقوام متقربين إليه؟ وكيف يتقرّبون بعدم العلم الذي هو الجهل، هذا عجيب!

عندي أن الفهم عن الله لا يتسنى لأحد إلاّ بمقدار ما تتعلَّق به إرادة الله لتفهيم العبد على مقدار إخلاصه. وبهذا أو بمثله يكون فهم القرآن على نورانية الصلة الروحيّة، وهو ما يسمى بملكة "التعلَّق" عند العارف. فالعارف يحظى بملكة خاصّة ينفرد بها هى ولا شك أقوى وسائل التحصيل الذوقي للمعرفة التي هى في الأصل ذوقية صرفة.

وبملكة التعلُّق هذه، يتجاوز الصوفي (العارف) عالم الظاهر المحدود؛ ليتصل في لحظة كاشفة بما ليس ظاهراً ولا محدوداً، ممَّا لا يتناهى، وممَّا لا تقع معرفته في حدود التصوِّر المحدود. التجربة في هذه الحالة هى التي تقودك؛ تأخذك وتستوفيك وتملك عليك بالكلية جميع أقطارك. التجربة هى التي تفعل؛ فيوحي فعلها فيك لغة الإشارة.

في بطن التجربة الصوفية وحدها يكشف العارف في تجربته عن لغتها الرمزية الخاصَّة؛ لغة الحبّ، ولغة التسامح لا التَّمزق، ولغة الفناء في المحبوب تعطيها الإشارة لا العبارة، أي لغة المعنى تحصيلاً وتذوقاً وشعوراً بمعطيات الحَال، يحيط صاحبه معنىً خالصاً قد لا يتسع له اللفظ المعتاد، وإنْ أتسع له اللفظ المعتاد أفسده، وإنْ ساقته العبارة العادية خَرَجَتْ به عن المقصود. وهو حين يكشفها لا يكشفها في باطن التجربة وكفى بل بعد منازلة الحال وعياً غير عادي ولا معهود.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم