قضايا

مفهوم الوطن عند حسن البنا (1)

محمود محمد عليشهدت العصور الحديثة تيارات إسلامية متعددة تغذيها وتطورها أجهزة خفية مكنتها من السيطرة على مناطق عدة في الوطن العربي، وأثبتت الأحداث أن هذه التيارات تلعب دوراً تخريبياً خطيراً في المنطقة العربية، لأنها تتسلل إلى الجسد العربي من قدسية أفكاره، فتربط المقدس بأفكارها وتجعلها تعم بين الناس وتنتشر لضعف الوعي تارة، ورغبة الناس من الخروج من حالة التخلف والضياع بالعودة إلى التاريخ الغابر تارة أخري.

من أهم وأخطر هذه الحركات حركة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا، الذي ظل الرأي العام التابع في مصر منذ العقد الرابع من القرن العشرين ينظر لدعوتها على أنها إحدى روافد الفكر المصري الإسلامي الحديث الذي كان يمثله آنذاك الشيخ عبد العزيز جاويش، ومحمد رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وعلى الرغم من إدراكنا للسمات التي تميز الخطابات الثلاثة عن بعضها، إلا أن تجديد الخطاب الديني- والدفاع عن الثوابت العقدية وإحياء  فكرة الجامعة الإسلامية وإصلاح المجتمع وتنقية الأخلاق من العادات المرزولة وتوجيه ولاءات الشباب إلى الجمع بين حب الوطن والفناء في طاعة الله والزود عن شرعته، والتأليف بين الأصالة والمعاصرة في أمور السياسة – كان السياج الذي يجمعها في تيار واحد، وقد انضوى الفكر الإخواني تحت غايات كثيرة تبعاً لأهواء قياداته، فتارة يبدو أقرب إلى الاتجاه المحافظ المستنير مدافعاً عن الحكومة المدنية ذات المرجعية الإسلامية -في الفترة الممتدة من أوائل الخمسينيات إلى أواخر الثمانينات من القرن الماضي-، وتارة أخرى ينحاز إلى من أطلقوا على أنفسهم الجهاديين وأصحاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة ثالثة يدنو من الصوفية، وتارة رابعة ينخرط في العمل الاجتماعي وجمعياته التي أطلقت على نفسها السلفية وأنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية (وذلك حسب ما أكد عليه الدكتور عصمت نصار في مقالته ماذا ربحت مصرمن حكم الإخوان؟).

أما الرأي العام القائد فكان مدركا هشاشة الخطاب الإخواني وافتقاره إلى عمد الفكر الإسلامي (العلوم الشرعية، الفقه، التوحيد) وكان يعرف المتخصصون مدى تأثر جماعة الإخوان بالماسونية في هيكلها التنظيمي من جهة، والجمعيات السرية في تنشئة أعضائها وتربيتهم والتواصل معهم وتوجيه ولاءاتهم من جهة أخرى، ذلك فضلاً عن تبنيهم العديد من المبادئ والمذاهب الفلسفية دون علم لهم بخلفياتها وحقائقها فأخذوا من مكيافيللي شعار (الغاية تبرر الوسيلة)، وأخذوا من أبو حامد الغزالي، وابن رشد، وكانط، وويليام جيمس اعتقادهم بأن انتحال الخطاب الديني من أفضل السبل لإقناع العوام بصحة القيم المراد غرسها في المجتمع، وذلك لأن السذج والبسطاء لا يفقهون لغة المنطق ولا النظريات العلمية، وأخذوا من الفرق الشيعية وإخوان الصفا فكرة "المرشد" الواجب طاعته ومبدأ التقية (أظهر غير ما أبطن) والكذب على الأغيار مباح ( التعريض) الأمر الذي كان وراء عزوف جل الأزهريين وأصحاب الرأي من المجددين الإسلاميين عن تلك الجماعة بعد انتمائهم لها .

ولعل السبب يرجع أن فكر جماعة الإخوان المسلمين أخذ يقوم على خلق كينونات وكهوف مستترة بديلة للوطن من خلال تنظيمات سرية تعمل وتخطط في سراديب الأقبية المظلمة. هدف جماعة الإخوان هو نشر التأسلم السياسي والغلو في مفهوم “الأمة” على حساب " الوطن"، كما أن فكر الإخوان المسلمين يقوم على محورين: الاغتيالات السياسية وإنكار الأوطان، وهدف جماعة الإخوان المسلمين هو السيطرة على كراسي الحكم تحت وهم إرجاع الخلافة التي أبطلها كمال أتاتورك عام 1924.

والسؤال الآن : لماذا يُقدم الإخوان المسلمون علي هذه الخطوة ؟ هل مسألة وطن والتراب لديهم لا تشكل أي اهتمام بأي حال من الأحوال كما يقال وكما يتردد علي ألسنة أصدقائهم ومفكريهم ؟

لو تطرقنا إليها بشكل مستفيض فنجد أن هناك نوعين من مفهوم الدولة، هناك الدولة الوطنية، وهناك الدولة الأمة، والدولة الأمة بالإنجليزية Nation State، والدولة الوطنية بالإنجليزية National State، وهناك فرق بين المصطلحين، بالطبع جماعة الإخوان المسلمين ينتمون إلي فكرة الدولة الأمة، والدولة الأمة هي عبارة عن مفهوم تجنيس العقيدة وجعلها الهوية والجنسية والنواة الصلبة للتعريف بالمواطن وهذا الفكر لعله كان في بذوره مع تيودور هيرتزل مؤسس المنظمة العالمية الصهيونية في عام 1897 من خلال مؤتمر بازل بسويسرا .

لو نظرنا لهذه الفكرة نجد أن مرشد الجماعة ومؤسسها حسن البنا كان من رأيه كما ورد في مجلة النذير، حيث رأي أن القومية يجب أن تكون علي بنيان الدين وبنيان العقيدة، ومن هنا مسألة أن الدولة الوطنية أو الهوية الوطنية هي مسألة أراد أن يرد بها علي حزب الاتحاد والترقي بدعم من المخابرات البريطانية لما حدث من إسقاط الخلافة في عام 1923 من خلال مصطفي كمال أتاتورك، وأتاتورك تعتي أبو الأتراك، حيث نجد أن مصطفي كمال أتاتورك قد بتفعيل ما نادي به الاتحاد والترقي بفكرة القومية التركية أو الوطنية التركية، (وذلك حسب ما ذكرة معتز محسن في كتاباته)

ومن هنا أرادت المخابرات البريطانية لتفتيت فورة وحماس ثورة 1919، والتي ساهمت في تكوين الهوية المصرية الحديثة، حيث نجد أنها أرادت التفتيت لأبناء الوطن بعد أن تم التوحيد بين الهلال والصليب وفشلوا في ذلك فأرادوا إحياء فكرة مفهوم الخلافة، ولكن بشكل مختلف عما كانت في الماضي فكانت من خلال تأسيس جماعة الإخوان في الإسماعيلية وتحديدا يوم 22 مارس لعام 1928 .

ولذلك كان الهدف من إنشاء الإخوان المسلمين هو كيف نحرف أنظار الشعب العربي عن مأساته الحقيقة، وكيف نجعل عقله مسدود وموجه باتجاه خاطئ، وكيف نجعله أداة يمارس فيها دور حمار طروادة لتمرير أي مخطط استعماري لسرقة ثرواته وجعله مجرد مستهلك لسلع يريدها او لا يريدها. وحرف انظاره عن سرقة ثروات وطنه من قبل الدول الاستعمارية الكبرى (وذلك حسب ما ذهب إليه الأستاذ عمر سلام في مقالته الرائعة عن مفهوم الوطن في فكر حماس) .

وجماعة الإخوان المسلمين لا تمتلك مفهوم الوطن لأن أدبياتها تنفي هذه الفكرة من أساسها، وبالتالي لا يهمها بناء الإنسان الذي يناضل من أجل وطنه، بقدر ما يهمها تنفيذ مشروع تجهيل الإنسان لخدمة أهداف معادية، وهذا ما أثبتته التجربة عند قامت جماعة الإخوان المسلمين بإرسال مقاتلين إلى سوريا وليبيا ومصر وربما إلى دول أخرى، في حين أن شعبنا في غزة والمشروع الوطني التحرري الفلسطيني بحاجة إلى كل قطرة دم.

إن فكر "الإخوان المسلمين " قائم في أساسه على إنكار الأوطان، وترسيخ روح المعاداة لها، ومن وسائلهم لهدم الأوطان، إيجاد كينونات بديلة للوطن، بإنشاء التنظيمات السرية، وإقامة البيعات الحزبية، وكسر روح الولاء والانتماء للوطن الحقيقي، وصرف الولاء من الوطن إلى التنظيم، وجعل التنظيم هو الوطن البديل، فاختلقوا وطناً غير الوطن، كما اختلقوا أيضاً أُسَراً غير الأسر، فاخترعوا نظام الأسر، والذي يتم فيه توزيع الأتباع على مجموعات صغيرة، يقود كل مجموعة شخص يسمى بالنقيب، وهو ما يعرف أيضاً بنظام الخلايا السرية، وسموا كل تشكيلة من هذه التشكيلات أسرة، ليكون للشخص أسرة غير أسرته، ووطن غير وطنه.

وكان الإمام حسن البنا طرح طريقة انتقال الجماعة من واقع "الاستضعاف" إلى قوة "التمكين" عبر ست مراحل تبدأ بالفرد، ثم الأسرة، ثم المُجتمع، ثم الدولة، ثم الخلافة الإسلاميَّة، وأخيراً "أستاذية" العالم.

ومن الواضح أنَّ "الوطن" لا يُمثل بالنسبة لحسن البنا السقف النهائي الذي يجب أن تتوجه كافة جهوده لخدمة مصالحه بل هناك تقاطعات ومصالح أهم من الوطن يسعى البنا وجماعته لخدمتها من أجل الوصول لهدفها النهائي المتمثل في الخلافة الإسلاميَّة ومن ثم أستاذية العالم ؛  بمعني أن البنا وجماعته قد تعلقت أبصارهم بفكرة " الخلافة" و" أستاذية العالم " فأضحوا مؤمنين بأن الإسلام بذاته وطن، وأنه لا نجاة للمسلمين بغير خليفة لهم جميعاً. ذلك أن الإسلام كعقيدة هو فى نظرهم " محتوى سياسي" والمجتمع الإسلامى هو بذاته الكومنولث أى ( مجموعة الشعوب المسلمة)، والأمة الإسلامية تكوين سياسى متكامل .

وهنا نجد أن حسن البنا وجماعته يعتنقون "رؤية كونية" ونظرة عالمية للتغيير، ولا تحظى "الدولة الوطنية" الحديثة باعتراف غير مشروط من قبلهم ما لم تكن وسيلة لخدمة هدف أعلى، وهو إعادة إحياء مفهوم "الأمة الإسلامية"، وبالتالي "الوطنيَّة" عندهم ليست سوى "نعرة جاهلية"، وأنَّ الولاء الوطني يُخالف الولاء الديني، وهذا ليس صحيحاً لأنَّ الوطنيَّة حبٌ وانتماء وولاء حقيقي لا يجب أن يوضع في موضع التعارض والتناقض مع العقيدة الدينية.

إن الوطن عند البنا وجماعته، لهما مفهومه الخاص، فهو لديهم ليس مرتبطا بحدود وجغرافيا وإنما مرتبطة بالعقيدة . لذا هم لا يعترفون بالحدود ويعتبرونها مؤقتة وشكلية وكل وطن في نظرهم مجرد إمارة إسلامية ضمن دولة الخلافة الإسلامية المزمع إقامتها، إنها ستؤدي حتما إلي عزلة وانكفاء كل وطن علي نفسه، وسيكون ولاء كل مواطن للوطن فقط فينكفئ علي ذاته ولا يهتم بشأن باقي إخوانه المسلمين في الأقطار الأخري، كما أن المواطنة التي تعني تساوي الحقوق والواجبات لمجرد الانتماء للوطن بغض النظر عن الدين يجعل من الممكن أن يولي أمر المسلمين لغير مسلم، أما الوطنية التي هي ولا شك أعمق من المواطنة، فالإنسان يكتسب صفة المواطن بمجرد انتمائه لوطن، بينما الوطنية التي هي حب الوطن والاستعداد للبذل من أجله يخشون أن تؤدي إلي أن يكون الولاء للوطن وليس للدين، فيٌقدس الوطن و يصير الحب فيه والبغض لأجله.

والدليل علي ذلك أن من يقرأ أدبيات الإخوان المسلمين يستنتج أن عقيدتهم لا تتقبل مفهوم الوطنية وبالتالي لن تتقبل مفهوم المشاركة مع أحد في الوطن؛  فمن كتاب الرسائل لحسن البنا - رسالته عن " حدود وطنيتنا " قوله :"  أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها سلم يقول ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم".

ويستطرد حسن البنا فيقول:" ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوى نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعاً، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأساً، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض ."

إذن يفهم من النص أن الوطن في فكر حسن البنا هو مجرد حدود جغرافية واهية صنعها البشر والسلطة الزمنية الحالية، أما "الأمة" فهي أمة الإسلام المنتشرة بطول وعرض الكرة الأرضية. و«جماعة الإسلام» هى الفرقة الناجية، وتلك الفرقة هى جماعة الإخوان، لذلك لا معنى للحرص على أى قوى بشرية أخرى غير الجماعة.

وحتي لا نظلم حسن البنا أو نجور عليه فيما قاله، فنود أن نتساءل : ما الذي جعله يقول بمثل هذا الكلام ؟

اعتقد أن حسن البنا ربما كان يري أنه منذ بداية الدين الاسلامي وانتشاره لم تحدد حدود جغرافية معينة ولم يوضع مفهوم معين للدولة، وبالتالي لم يكن للوطن مفهوم سوى ما ورد في معجم لسان العرب أنه: " الوَطَنُ المَنْزِلُ تقيم به وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله.... وأَوْطَنَهُ اتخذه وَطَناً يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتخذها محلاً ومُسْكَناً يقيم فيها " لسان العرب؛ ونفس الشئ ورد عن الوطن في معجم مختار الصحاح : الوَطَنُ مَحَل الإنسان وأَوْطَانُ الغنم مرابضها وأَوْطَنَ الأرض ووَطَّنَها واسْتَوْطَنَها واتَّطَنَها أي اتخذها وطنا " مختار الصحاح.

وهنا نقول صحيح أنه في المعاجم العربية لم يأخذ الوطن المفهوم المتقدم للدولة. وبالتالي بقيت مفاهيم من يريد العودة الى الوراء قاصرة ضمن هذا المفهوم، ومن ضمنهم حسن البنا ولكن البنا أضاف لهذا المكان بعداً إسلامياً. فالوطن لا يحدد (بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية) وبالتالي أي حاكم من الإخوان المسلمين سيأتي لأي بلد لن يعترف بحدودها. وبالتالي سيكون رئيساً لبلد بلا حدود، وهذا يتنافى مع أبسط مفاهيم الدولة الحديثة. وأقل ما توصف به الدولة بأنها ذات سيادة. إذن أين السيادة لوطن بلا حدود؛ (مع أن هذه الحدود رسمتها دول استعمرت هذه المنطقة، ولكن هذا لا ينفي على أي رئيس أن يقر بحدود دولته وسيادتها ضمن هذه الحدود).

وإذا كان البنا وأتباعه يعتبرون حدود الوطنية بالعقيدة “، إذن ما الداعي لإيجاد تنظيم سياسي يناحر لاستلام السلطة. إذ يمكن لأي امرؤ أن يمارس عقيدته ويمارس وطنيته بالعقيدة دون السعي إلى السلطة في بلد معين؛ بل يمكن ممارسة العقيدة حتى في بلد غير إسلامي، وهناك من كان يمارس العقيدة حتى في الدول الشيوعية السابقة. والآن يمارسها أصحاب العقيدة في أوربا وأمريكا وأي مكان في العالم.

إن أزمة الإخوان المسلمين هى في جوهرها أزمة بنيوية تتولد عن التصورات والمفاهيم والعقائد (الأيديولوجيا) وما تنتجهُ من تنظيم وممارسات لن تكون نتيجتها النهائية سوى الفشل بغض النظر عن نوع النظام الذي تعمل فيه- ديموقراطية أو شمولية.

لذلك لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة الدينية، لأن العقيدة، أية عقيدة كانت، لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة، طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد، وهنا بالتحديد مكمن مشكلات التمييز ضد الأقباط في مصر سواء في تقلدهم للوظائف العليا والسيادية أو في بناء دور العبادة وترميمها أو عدم المساواة أمام القانون، وفي العرف العام. في حين أن الدولة المدنية تسمح لجميع المواطنين بممارسة عقائدهم بحرية ودون تمييز وبالشروط نفسها، علي أساس حق الجميع في المواطنة بالتساوي. وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم