قضايا

غواض في كتاب سيبويه (5)

محمود محمد عليننتقل للحديث عن الجزء الخامس من مقالنا غواص في كتاب سيبويه، حيث نختم حديثنا عن التحليل البنيوي للمصطلحات التي استخدمها سيبويه، وفي هذا يمكن القول بأن سيبويه نقل إلي الأجيال مصطلحات "الخليل بن أحمد "واستعمالات أسانيده، وأضفي عليه من ذكائه وفطنته وقدرته علي التحليل والاستنتاج، فحاول أن يجعل أبواب كتابه واضحة، سهلة المنال ووضع المصطلحات النحوية وضعا أشرف علي الاستقرار، وفسر بعض المصطلحات ببعض، أو قل عبر عن بعضها بأكثر من تعبير، وحاول صناعة المصطلح النحوي ليستقر في صورته النهائية، وما لم يسعفه جهده بالظفر به لجأ إلي وصفه وتصويره بالأمثلة الكثيرة الموضحة، فكان شأنه في ذلك شأن المعلم القدير الذي يفتن في طرق تدريسه، فتارة يسلك سبيل الاستقراء، وتارة يتبع طريقة الاستنتاج، وهكذا، بل إن سيبويه يري في بعض الأحيان أن المصطلح الذي وضعه يقصر عن تحقيق الغرض، فيردفه بالتصوير والوصف .

ومن الملاحظ أن سيبويه يقتصر في أكثر حدود مصطلحات الكتاب علي التعريف بالمثال، قاصدا به إيضاح المعرف، فيقول في تعريف الاسم : " فالاسم رجل وفرس وحائط " ، وعلل النحاة بعده عدم تعريفه الاسم بالحد بأنه " ترك تحديده ظنا منه أنه غير مشكل " . وفي تعريف الضمير :" وأما الإضمار فنحو هو وإياه وأنت وأنا ونحن  "، وفي تعريف الإشارة يقول :" وأما الأسماء المبهمة فنحو هذا وهذه وهذان وهاتان  " والنصب في المضارع من الأفعال لن يفعل والرفع سيفعل والجزم لم يفعل " ، وافتقاد التعريف بالحد كان أمرا تفرضه طبيعة المرحلة التي يجتازها العلم زمن سيبويه، فقد كان النحو في بدايته، وكان هم النحاة حينئذ جمع المادة العلمية لحفظها وتفهمها، ولم تكن الدراسة آنذاك قد بلغت المستوي الذي يؤهلها لتثبيت المعاني الاصطلاحية بشكل حدود دقيقة .

وفي أمور كثيرة نلاحظ أن كتاب سيبويه يخلو من التعريف المنطقي إلى حد ما ، فهو مثلا لم يعرف الفاعل، ولم يعرف الحال، ولم يعرف البدل، ولا غير ذلك من أبواب النحو، ويكتفي في الأغلب بذكر اسم الباب، ثم يبدأ مباشرة بعرض القواعد المستخلصة من الاستعمال، فيقول مثلا :" هذا باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلي مفعوله، وذلك قولك :" ضرب عبد الله زيدا، عبد الله ارتفع هاهنا كما ارتفع في (ذهب)"، وهذا باب ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبني علي مبتدأ، أو ينتصب فيه الخبر؛ لأنه حال لمعروف مبني علي مبتدأ "، أو أن يقول :" اعلم أن النداء كل اسم مضاف فيه فهو نصب علي إظهار الفعل المتروك إظهاره، والمفرد رفع وهو في موضع اسم منصوب ". ومن النادر جدا أن نجد عنده تعريفا كالتعريف الذي قدمه عن الفعل بأنه " أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضي، ولما يكون، ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع ."، وإنما جل تعريفاته تقوم علي التمثيل كقوله :" الاسم: رجل وفرس وحائط " . أو تمييز المعرف بشئ من خواصه كقوله :" والتضعيف أن يكون آخر الفعل حرفين من موضع واحد، وذلك نحو رددت، واجتررت، وانقددت، واستعددت .." ، وهكذا فإن كتابه كله علي شموله لا يخرج عن هذه الأمثلة من التعريف، وهو دليل علي أنه لم يطبق المنهج الأرسطي فيه وقد يكون دليلا على أنه لم يعرف هذا الأصل في المنطق الأرسطي معرفة كان من الجائز أن يبدو لها أثر في الكتاب قبولا أو  رفضا " .

ولذلك من النادر جداً أن نجد عند سيبويه تعريفا دقيقا، كالتعريف الذي قدمه عن الفعل بأنه " أمثلة أخذت من لفظ أحدث الأسماء، وبُنيت لما مضي، ولما يكون، وما لم يقع، وما هو كائن لم ينقطع " ؛ أي أن الأفعال أبنية أو صيغ مأخوذة من المصادر، فهي تدل بمادتها علي المصدر، أو الحدث، وبصيغتها علي زمان وقوعه من ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، ويفرق بين هذه الأقسام بالتمثيل، وجل تعريفاته في الكتاب تقوم علي التمثيل، أو تمييز المعرف بشئ من خواصه، كقوله :" والتضعيف أن يكون آخر الفعل حرفين من موضع واحد، وذلك نحو : رددت، وددت، واجتررت، واستعددت "، وهذا التعريف يعد من قبيل الحد بالرسم، وفي هذا النوع من التعريف تحصر خواص التعريف أو علاماته أو تذكر علامته البارزة التي تميزه عن غيره، وهنا ذكر خواص المعرف وفرق بين أقسامه بالمثال لا بالتعريف .

وفي بعض الأحيان يذكر سيبويه حدودا إذا اشتبه بغيره، فيميزه، أو يجمع صفاتهما معا في تعريف واحد ليخلص لقاعدة النحو تجمعهما في مثل تعريفه لنون التوكيد الخفيفة والتنوين، إذ يقول : " النون الخفيفة والتنوين من موضع واحد، وهما حرفان زائدان، والنون الخفيفة ساكنة كما أن التنوين ساكن، وهي علامة توكيد كما أن التنوين علامة المتمكن فلما كانت كذلك أجريت مجراها في الوقف، وذلك قولك اضربا إذا أمرت الواحد وأردت الخفيفة " .

ويستخدم سيبويه أحيانا الحد بالنقيض أو الضد في قوله في حد الحرف :" وحرف جاء لمعني ليس باسم ولا بفعل " . وفي مثل هذا التعريف لن تستطيع معرفة الحرف دون أن تكون مدركا لمفهومي الفعل والاسم، وهكذا في الحدود في كتاب سيبويه لا تخرج عن المثال أو العلامة، أو الوصف، أو الضد.

من كل ما سبق يتضح لنا أن سيبويه لم يتجاوز المرحلة التجريبية في كتابه، ويمكن أن نجمل مظاهر هذه النزعة لديه علي النحو التالي :-

المظهر الأول:  أن الحدود النحوية المرتبطة بالمصطلح النحوي، والمصطلح النحوي في زمن سيبويه لم تستقر بعد، وصياغة الحدود أو التعريفات   لا تستقر إلا باستقرار المصطلح، والمتتبع لمصطلحات كتاب سيبويه يواجه صعوبة كبيرة في تحديد أطرها، وجمع المتشابه منها إلي بعضه، وذلك للأساليب التي كان يسلكها في التعبير عن هذه المصطلحات، فهو إما يحوم حول المصطلح بالوصف، والتصوير، والتمثيل بالنظير، وذكر النقيض، وإما يورد المصطلح بصور وأشكال مختلفة من  التعبير، ولهذا لم تصغ التعريفات الأولي للمصطلحات النحوية الصياغة نفسها التي صيغت فيها فيما بعد.

المظهر الثاني:  تخلو الحدود النحوية في هذه المرحلة من الحدود المنطقية الأرسطية، وقد كان اهتمام النحاة في هذه المرحلة الوصول إلى إدراك فهم المصطلح النحوي وعناه دون أن يهتموا بالأسس الفلسفية في صياغة هذا المعني، أو المفهوم، لهذا نجد الحدود النحوية في هذه المرحلة حدودا لغوية وصفية تمثيلية في أغلبها.

المظهر الثالث:  ارتباط الحدود النحوية باستنباط القواعد، والأحكام النحوية وتطبيقها، فعندما يعرف سيبويه الاسم بالمثال ويقول "الاسم رجل وفرس وحائط" نجد في مثاله قاعدة يقاس بها بمعرفة الشبه بينها، وبين المثال فنميز بين الاسم وسائر الكلمات إلي حد ما، إلا أن بعض الأسماء لا نستطيع قياسها علي هذا المثال كأسماء الاستفهام وصياغة الحدود بالمثال تناسب مرحلة الاستقراء والتحليل التي يمر بها النحو العربي مع سيبويه قبل أن يصل إلي الصياغة العلمية الموضوعية المنظمة .

المظهر الرابع:  لا يهتم سيبويه بشكل الكلمة في التركيب اللغوي قدر اهتمامه بمعناها ووظيفتها وصلتها بغيرها من مفردات الجملة ؛ ومعني هذا أن التصنيف النحوي المؤسس علي شكل الكلمة الإعرابي لم يعرف بطريقة حاسمة إلا فيما بعد، حينما تحول الحديث عن الإسناد، وأنواعه، وأجزائه، وخواصه إلي حديث عن الأشكال الإعرابية : مرفوعات، ومنصوبات، ومجرورات، ومجزومات . وهذا موقف طبيعي ؛ إذ إن الحديث عن الشكل أو عن القاعدة النحوية مجردة من النص اللغوي لا يتأتي إلا بعد فترة زمنية تسمح للتفكير المنطقي – لا السليقة اللغوية – أن يتدخل فيصيغ القاعدة النحوية لنظرية تجريدية ولا يتلاءم هذا عقليا مع عصر سيبويه .‏

المظهر الخامس: عند تتبعنا للحدود النحوية في كتاب سيبويه وجدناها قليلة جدا، وما ذكر منها اعتمد علي التمثيل في أكثره، وهذا النمط من التعريفات هو السائد بين النحاة زمن الخليل وسيبويه وتلاميذهما، فالأخفش (215 هــ) مثلا يحد الاسم فيقول :" الاسم ما جاز فيه نفعني وضريني"، وسار المبرد" في المقتضب علي نهج سيبويه، غير أنه يضيف على حدود سيبويه في بعض الأحيان كما في حده للاسم، وينقلها كما هي في أحيان أخري كما في حده للضمير .

المظهر السادس: المصطلحات النحوية المألوفة في الكتب النحوية لا نعثر عليها إلا نادرا عند سيبويه، وهذا بدوره موقف طبيعي يتفق مع أولويات البحوث العلمية قبل أن تستقر أوضاع العلوم وتثبت مصطلحاتها . ومن أجل ذلك نجد سيبويه يلجأ إلي مصطلحات فجة بدائية ؛ وقد يستعيض عن ذلك بالدوران حول القضية، أو المسألة علي الظاهرة النحوية ؛ مثل هذا باب ما ينتصب من الأماكن والأوقات، وذاك لأنها ظروف تقع فيها الأشياء، وتكون فيها، فانتصب لأنه موقوع فيها، ومكون فيها، وعمل فيها ما قبلها، كما أن إذا قلت أنت الرجل علما عمل فيه ما قبله، وكما عمل في الدرهم عشرون إذ قلت : عشرون درهما، وكذلك يعمل فيها ما بعدها، وما قبلها، ولقد صيغ هذا كله فيما بعد بهذه المصطلحات الثلاثة : ظروف الزمان، وظروف المكان، والتمييز .‏

المظهر السابع:-  ظاهرة الاستطراد شائعة عامة في كتاب سيبويه ؛ فالمسألة الواحدة تستدعي مسائل أخرى، والموضوع قد يتشعب إلى موضوعات عديدة، وصنيعة هذا يعد صورة مصغرة لما كان يجري بين العلماء، وفي مجالسهم سواء كان الدرس اللغوي أو النحوي شفويا ؛ غير أن استطراد سيبويه لا يبعد القارئ في هذا الاستطراد نوعا من المتعة العلمية حيث يعرض عليه نماذج من النصوص اللغوية مصحوبة بالبيان والشرح، وذلك عكس ما نجده في الكتب النحوية المتأخرة؛ حيث يكون الاستطراد مصحوبا بذكر الخلافات، والمناقشات،وتعارض الأفكار، وتشابك الآراء  .‏

المظهر الثامن: يكثر سيبويه من الأمثلة والشواهد بدرجة لا نظير لها عند غيره من النحاة ؛ ويتضح من ذلك أنه يريد جمع المتشابهات، وعرض النماذج، رغبة في توضيح الفكرة، وبيان ما يلازم استعمالها من اطراد ؛ ومصدر سيبويه في التمثيل آيات القرآن الكريم. وكلام العرب شعرا ونثرا، ثم ما يصطنعه هو من التراكيب اللغوية لأغراض خاصة .

المظهر التاسع : قلما يلجأ سيبويه إلي التعليل لبعض القواعد النحوية، أو الظواهر اللغوية، وهو – إن فعل – لا يلجأ إلي التعليل المنطقي المتسم بالتجريدية، ولا إلي التعليل العقلي المتعب ؛ وإنما هو تعليل فطري في متناول الكثير، تعليل مستمد من فهم النص اللغوي فهماً لا تكلف فيه، ولا صنعة ؛ وذلك مثل :" ومن ثم قال يونس امرر علي أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو، ويعني إن مررت بزيد أو مررت بعمرو" .‏

من كل ما سبق يتبين لنا أن كتاب سيبويه حمل نزعة تجريبية، وهذه النزعة تمثل المرحلة الثانية من نشأة النحو، وهي تلك المرحلة التي تبدأ بالخليل بن أحمد وتنتهي بسيبويه، فتمتد بذلك قرناً ونصف القرن من المرحلة التي شهدها النحو العربي لدى أبي الأسود الدؤلي، وقد بينا أن هذه المرحلة من أهم المراحل التي مر بها النحو العربي، إذ شهدت تحولاً كبيراً في التعامل مع مادته المستمدة – في أغلب الظن – من منهج وصفي – علي وفق ما وصفت به المرحلة الأولي إلي منهج تجريبي . وإذا كانت الآلية الشفاهية هي الطريقة الوحيدة في النظر إليه في المرحلة الأولي، فإن الأمر انقلب تماماً عند سيبويه الذي أنتج لنا نظرية نحوية مدونة ومؤسسة علي منهج تجريبي واضح يشير إلي نضوج التفكير النحوي عنده، الأمر الذي يعني أن المرحلة التي سبقته كانت مرحلة ناضجة أيضاً، ولكنها لم تفلح في تأسيس نظرية مدونة، ليصبح سيبويه – فيما بعد – رائداً لعملية التدوين وبداية لمرحلة جديدة في تاريخ النحو، إذ إن النظر إلي الكتاب ينبئ عن رصانة التفكير النحوي، وتمكن العقل العربي من الانقلاب به من مجرد المشافهة إلي مشروع فكري ناضج خاضع لمنهج تجريبي ناضج أيضاً .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم