قضايا

تحويلُ النفس

مجدي ابراهيملم تخل النفس الإنسانية في حظها الوفير من اهتمام القرآن؛ فمباحثها فيه أوسع من أن تحيطها مقالة أو إشارة عارضة؛ فإنّ النفس التي سواها الحق، فألهمها فجورها وتقواها، لهى هى التي حظيت بمباحث لا نستوفيها في عبارات عارضة أو إشارات مقتضبة.

يعطي القرآن ومضات لامعة لجوانب من توجُّهات النفوس، وفي كل ومضة بارقة تستطيع أن ترشدك إلى خصائص تلك النفوس على اختلاف أقدراها؛ فالضالون لهم صفات وسمات، والمؤمنون لهم صفات وسمات، والعالمون لهم صفات وخصائص وسمات، والعاقلون والمتفكرون والسامعون والموقنون وأولو النهي وأولو الألباب وأولو الأبصار، كل أولئك وما دونهم، لهم في القرآن أقدراهم وتوجهاتهم وخصائصهم وسمات نفوسهم.

وأدنى إطلاع على الآيات القرآنيّة يُوحي بالحظ الوفير الذي والاه القرآن اهتماماً بالنفس الإنسانية، وارتقاءً بها إلى حيث معرفة الخالق ومحبته وموالاته. ناهيك عن ضروب التقسيم الذي حَفيّ به القرآن بين نفس أمارة ولوامة ومطمئنة وراضية ومرضية ممّا هو معروف متاح لقارئ الكتاب الكريم؛ فلا يعوّل معوّل على الإهمال وهو معد العدة للبحث في جوانب هذا الموضوع.

غير أننا نركز هنا على الخاصّة الذاتية للقرآن كونها تجعل من تحويل النفس من حال في الحياة إلى حال آخر ، خصوصية فريدة؛ لتمضي بها إلى سواء : استقامة عادلة لا تنازع فيها ولا خطوب ولا مصارع تواتيها أو تقف دون موالاتها للحق على التحقيق.

ولم تكن النفس الإنسانية في ملكوت القرآن بالأمر المهمل الذي يسقط معه الإنسان في مستنقع الغفلات؛ فبالقدرة والإرادة يمكنه أن يغلبها فتعليه، وبالخمول والتكاسل والسلبية يسقطها ويدنيها فترديه : هو مالك لنفسه إذا شاء، وتملكه إذا لم تكن لديه مشيئة. ولا ريب في أن غلبة النفس عسيرة، ولكنها إذا جُوهدت وتيسّرت فكل شيء أمامها مغلوب.

ولمَّا كانت نفوسنا الضعيفة نفوساً خربة تشاء الكسل وتأنف من بذل المجهود، تشاء المتعة وتمتنع عن الإقلاع، تشاء الرذيلة وتمتنع عن الفضيلة، تشاء الرغبة وتمتنع عن الإحجام، تشاء الأكل الكثير والراحة والنوم وتمتنع عن الجوع والمشقة والسَّهر، تشاء إتباع الهوى والشهوة والشيطان وتمتنع عن حظيرة الله والاستقامة والإيمان.

لما كانت نفوساً هذه أحوالها في الغالب وتلك أوصافها، فلن يكون خير لها ولن يتم، ما لم يَردُّها صاحبها بعزم الأمور عن بعض ما تشاء. والأصلُ في ذلك كله هو الصبر جهاداً والتحلي تَصَبُّراً بأطيب الفضائل وأكرم الأخلاق.

وتأتي رسالة القرآن لتقول :

ما لم تتحوّل النفس عن ركامها المتراكم الدفين، إلى حياة تتلقَّاها من أعلى، ما لم ترتحل من جسد يطويها وكثافة تشملها، فإنها لن نتحقق أملها المنشود في الخُلاص. فالتغيير الذي يتمُ في الواقع لابد أن يكون قد سبقه تغيير قد تمَّ فعلاً في النفس؛ لأن الواقع لن يغير نفسه بنفسه، فلا مناص من وجود أشخاص غيروا من أنفسهم أولاً، وارتحلوا عن طباعهم ثانياً، فاستجاب لهم الواقع ثالثاً، فحققوا ما كانوا يؤملونه من نشدان الخلاص رابعاً.

وتلك هى إحْدى ركائز الذاتية الخاصَّة للقرآن : قدرة التغيير في الواقع بعد التحويل في النفس.

والتعلُّم والاكتساب في البداية هما بالطبع من أهم الصفات المؤهلة لطالب القرآن. التعلم بداية معرفة بأولوَّيات تلك الخاصة الذاتية كما قلنا؛ لأنه اجتهاد وممارسة وسلوك في إطارها يلزم عنها بالضرورة، ويجيء الاكتساب شروعاً في التطبيق لذاته لا لغيره، أي شروعاً في تحويل النفس من مكانها الذي اعتادت أن تقف عنده ولا تتجاوزه؛ ليجيء"التحويل" دليلاً على وضوح السبيل من طريق فهم القرآن :

تحويل النفس من وجهة في الحياة إلى وجهة أخرى، يُرَادُ به تنزُّل القرآن من جديد، لا على الاستماع لحروفه ونغماته كما كان يسمع بالعادة قبل أن تتحوَّل النفس، بل لكأنه يُسْمَعُ لأول مرة بعد التحويل؛ إذْ في كل ترديد لكل حرف من حروفه مكسبٌ جديدٌ من إثمار الخاصَّة الذاتية في النفس بعد التحويل، فهذا الإثمار يتأتى من طريق التذوق المعرفي بخصائص القرآن التي يُضْفِيَها على النفس بعد أن كانت تَبَدَّلت خصائصها وتغيَّرت توجهاتها في الحياة من جانب إلى جانب مناقض له، ثم انفردت بأن تعقل ما طرأ عليها من تغيير من جهة، ومن اكتمال في مراحل تطورها الروحي من جهة أخرى.

ولا شرط لهذا الاكتمال غير شرط "التَّذَوِّق": التذوق الرفيع لمدلول الآيات تذوقاً مُوَفّقاً يجيءُ معه "التحويل" إلى الأرقى والأعلى صفةً خاصَّةً لكل تدبُّر تسقط معه الغفلة ويسقط السَّهَيَان، وترتفع فيه على الإطلاق ملكات التذوق ومواهب الحضور. وفي مثل هذا الارتفاع لملكات التذوق والحضور بين يدي الله تكون "الحلاوة " هبةً وعطيةً يُذيقها الله أهل التَّقَوَى؛ فإن كلامه ربيع قلوب الأبرار، يثقل فهمه على من تَعَطَّل قلبه.

وأسوقُ لك مثالاً على تلك الدرجة التي هى بلا ريب درجة المُقرَّبين الأبرار، والتي أخبر عنها الإمام "جعفر بن محمد الصادق"، رضى الله عنه، حين قال :" والله؛ لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون".

وقال أيضاً وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خَرَّ مغشياً عليه، فلمّا سُرِّيَ عنه (أي أفاق من غشيته)، قيل له في ذلك، فقال:" مازلتُ أردِّد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبتْ جسمي لمعاينة قدرته ...".

من هنا ندرك أهمية التكرار لآيات القرآن كونه ذكراً، لكن هذا التكرار عمل باطني خفيّ، علاقة مع المعيّة، توجُّه، لا يكون باللسان وكفى بل بالقلب أيضاً. والتكرار القلبي يجيء بعد المجاهدة والتصفية والمراقبة والحضور بين يدي الله، فيلزم لحصوله اشتغال العبد بالأعمال القلبية.

والساعةُ التي يكون فيها "الحضور"، وتبدو فيها علامات "التحويل" لهى هى الساعة التي تأخذ من معدن النبوَّة مددها، فيقترب الذي يتذوَّقُ القرآن فهماً، بمثل ما وصفنا فيما تقدّم، على بصيرة وهدى من مشكاة النبوَّة؛ لكأنما كان فَضْلُ التنزيل الإلهي ممدوداً من عين الإتباع لسيد الخلق، صلوات الله وسلامه عليه؛ كما في قوله تعالى من سورة آل عمران:" قُلْ إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله"؛ فوحدة الشعور التي تتجلى سرَّاً من أسرار القرآن بالمعيّة الإلهيّة هى في الأصل وحدة شعور بالحقيقة المحمديِّة، فلا غرابة من بعدُ في شعور الشاعر بوحدة القصد في تجليات القرآن.

وقد قال رسول الله عليه السلام:" مَنْ قرأ ثلث القرآن أعطى ثلث النبوَّة، وَمَنْ قرأ ثلثيه أعطى ثلثي النبوة، وَمَنْ قرأ القرآن كُلَّهُ أعطى النبوة كُلُّها".

ربما كان المقصد من وراء هذا، إنْ جاز لنا أن ندرك مقاصد النبوة على الوجه الذي كانت فيه مقاصدها صاعدة إلى تحقيق فهم وإثارة وعي، هو أن قارئ القرآن يزدادُ قُرْبةً من شرف النبوة بفهمه لمعاني القرآن ومقاصدها، وليس الفهم ها هنا فهماً سكونِيَّاً مُغْلقاً للمعاني وللمقاصد مجرّدة عن لواحقها العمليّة، بل هو فهمُ مُتحرِّكُ حيُّ لواقعها في هذه الحياة : فهمُ حركيُّ مفتوح : أعني قدرة التغيير في الواقع بعد التحويل في النفس.

ولا يتمُّ رَدُّ النفس وتحويلها من حال في الحياة إلى حال إلا بعزم الأمور؛ أي بالصبر الموصوف من قبل طاووس العلماء أبي القاسم الجنيد : بتجرّع المرارة من غير تعبيس .

والصبر كله فضيلة كبيرة هو على الحقيقة "عزم الأمور". لم ترد "عزم الأمور" في القرآن الكريم إلّا في ثلاث مرات فقط، ولعَلَّ الدلالة فيها أنها عزيزة لنُدرتها وندرة من يأيتها، هى "الصبر" : نصف الدين حقيقة لا مجازاً.

الأولى : في آل عمران:" لتُبلَون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإنْ تصبروا وتتقوا، فإن ذلك من عزم الأمور".

والثانية: في لقمان:" يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنْه عن المنكر واصبر على ما أصَابَك، إنَّ ذلك من عزم الأمور ".

والثالثة : في الشورى:" ولمن صَبَرَ وَغَفَرَ؛ إنَّ ذَلَكَ لمَن عَزَمِ الأمُوُرِ ".

انظر إلى هذه الآيات الكريمة وتدَبَّرها جيداً تجد الصبر في الآية الأولى، صبراً على البلاء في النفس والمال وسماع الأذى ممَّن لا يعرف رقابة الله عليه، فاحتساب ذلك كله من شئون الصبر وأمور التقوى، وتسليم الأمر كله ظاهره وخافيه لله، كل أولئك من العزائم التي لا يأتيها إلا أصحَّاء الضمائر وأصحَّاء القلوب.

وفي الآية الثانية؛ ترى الصبر مقترناً بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على المصائب ظاهرها وباطنها، إنمّا هو جهاد ذوي العزم ممّن تخلق بالأخلاق النبوية، فإن من يأتيها يأتي في الوقت نفسه عزم الأمور.

وفي الآية الثالثة؛ ترى الصبر مُفْرَدَاً باعتباره نصف الدين حقيقة كفيلاً وحده لمن تحقق به أن يكون ممَّن عَزَمُوا الأمور، حتى إذا أضيف إليه الغفران من أجل الله وكفى، دَلَّ ذلك من أول وهلة على أن الصبر والغفران وقلة الجزع أو عدمه من خُلق الأنبياء الذين يعرفون أن الأمور كلها بيد الله فيوكلون إليه حالهم ومآلهم ثم يَسَلِّمُون ويحتسبون.

"مصدر الأخلاق الجميلة؛ كما قال الأستاذ العقاد في كتابه (الفلسفة القرآنية) : هو "عزم الأمور" كما سَمَّاه القرآن وهو مصدر كل خُلق جميل حَثَّتْ عليه شريعة القرآن".

عزم الأمور نيةٌ في القلب خفيّة، وقدرةٌ في المنع قوية، وردٌّ للنفس عن بعض ما تشاء. وليس من شك أن مجاهدة الصابرين تورث غماً، ولكن مَا من غَمّ إلا وفي أطرافه بلاء، والبلاء ضربٌ من الحب؛ إذْ كان الحب ضرباً من تجلى المحبوب،

ولك أن تقرأ قوله تعالى : " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعون من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور". وقوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا أصبروا وَصَابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون"؛ لتجد في الصبر والمصابرة وفي الرباط والتقوى أمراً يتواصى بتطبيقه المؤمنون؛ لأنه فوق كونه علامة على الهمّة القوية العالية وثبات العزم من جهة، تأكيدٌ على الإيمان من جهة ثانية، ففي الصبر حبس النفس على المكاره، وجهاد الهوى من أجل العبادة. وفي المصابرة قوة تزيد الصبر حتى ليغلب بها الصابرون أعداؤهم. وفي الرباط قيام على الحدود وتأهب للجهاد. والتقوى إيمانٌ بكل هذا؛ وأصلٌ لكل هذا.

والإيمان الحق عزم لا يعرف طريقه إلى خذلان صاحبه إذا كان صاحبه على فضائل الصبر والمصابرة وعلى عزائم الرباط والتقوى، فمتى اقترن الإيمان بثبات العزيمة مقدار اقترانه بتلك الفضائل فهو الفلاح بعينه. وإنك لتجد في قوله تعالى:" وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها"؛ توكيد الأمر بالصلاة وتوكيد الاصطبار عليها طاعة للأمر. والأمر بالصلاة والاصطبار عليها هما معدن الإيمان يتأصل في الوجدان الديني بالكيفية التي يتأصل فيها الشعور بالتبعة. ولا بقاء عندنا للوجدان الديني ولا قيمة لشعور الشاعر بضخامة التبعات ما لم يكن الأصل في هذا وذاك هو يقين الإيمان بل هو حق اليقين في الإيمان.

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم