قضايا

غواص في مقتضب أبي العباس المبرد (1)

محمود محمد عليلقد تهيأ لكتاب سيبويه من الشهرة والذيوع والانتشار ما لم يتهيأ لأي كتاب آخر من كتب هذا العلم، فاهتم الناس بنسخه وقراءته وحفظه، وتواصل الاهتمام بشرحه وشرح شواهده، ومسائلة والرد عليه وأصبح عمدة الدارسين في مجال الدرس ببغداد ومصر والأندلس والشام وبلاد المغرب، وكان "المبرد" نفسه من أوائل المهتمين به، فقد توفر علي قراءته ودرسه علي يد شيخيه "المازني" (ت: 154 هـ) و "الجرمي" (ت:  225 هـ)، وانصرف إلي تدريسه وشرح مسائله لطلبته منذ أن كان غلاماً في مجلس شيخه " المازني"، وبعد حمله معه إلي سامراء ومنها إلي بغداد حيث تصدر لقراءته وتفسير مشكلاته وشرح مسائله .

قال "ابنُ جنّي" (ت: 392هـ) فى "كتابه الخصائص" عن "المبرد": "رجلٌ يُعّدُّ جبلاً في العلم "، والحق أنَّ مدينة بغداد لم تعرف شيخاً مثل "المبرد" بعد "أبي زكريا الفراء"، ولا شهدت مجلساً كمجلسهِ، فكان لهُ أثر واضح في أن تشق المدرسة البصرية طريقها، وتظهر على نظيرتها المدرسة الكوفية، فهو الذي مكَّنَ لآراء البصريين أن تنتشر وتسود وسط زِحام المنافسين والخصوم.

ولم يكن " المبرد " متأثراً بسيبويه فحسب، بل إنه ليعد نفسه الأمين علي النحو البصري بعده، فحري به أن يترسم خطاه، ويسير علي نهجه، وبعد أن أصبح إمام العربية في بغداد، فإن عليه الوقوف بثبات أمام تحديات الكوفيين وعصبيتهم، فاستقرأ كتاب سيبويه، وتأثر به كثيراً وعمل جهده ألا يغير إلا فيما لم يستطع "سيبويه " أن يقيمه علي أمور واضحة، فالمصطلحات التي جاءت عند " سيبويه " واستقرت إلي يومنا هذا، نجد المبرد يستعملها كما كان " سيبويه " من قبل يفعل والشواهد علي ذلك كثيرة منها علي سبيل المثل لا الحصر : أنه تابع "سيبويه " في أحد قولين قال بهما في كتابه، ولم يشر إلي الآخر، فقال النحويون : إن " المبرد " خالف  " سيبويه "، من ذلك أنه جعل علة منه الصرف في الصفات مثل " عطشان" و" سكران" مشابهة " الألف والنون " لألفي التأنيث الممدودة وعدد وجوه هذا الشبه . وقال في موضع آخر بأن " النون" بدل من الهمزة، وتابعه المبرد في القول الثاني وذهب إلي أن " النون" بدل من " الهمزة" فنسبت إليه مخالفة سيبويه في القول الأول ولم ينتبهوا علي أنه متابع له في قوله هذا ، وعلي أن القولين نتيجتهما واحدة، لأن كون " الألف والنون" تقابلان "الفي التأنيث الممدودة" معناه أن " الألف " التي قبل "الهمزة "، وأن " النون" تقايل " الهمزة .

علاوة علي أن المبرد سار علي خطي سيبويه في بحوثه لعلوم العربية الثلاثة : النحو والصرف والأصوات اللغوية، فقد تحدث في كتابه المقتضب عن أبواب نحوية كثيرة، وإن لم تكن كل النحو وتحدث عن موضوعات علم الصرف كالمجرد والمزيد وأبنيتهما، وتحدث في خلال ذلك عن أبنية الفاعل والمفعول وغيرهما من المشتقات منها، وعن جمع ما يجمع من الأسماء معتلة العين أو اللام وما يحدث فيها من تغيير بقلب أو حذف أو غيرهما من صور الإعلال والإبدال، وعن غيرها من الموضوعات الصرفية . وتكلم عن الإدغام وما يتبعه من دراسات لمخارج الحروف، ومواقع الإدغام في الفعل وغيره، وفي الكلمة والكلمتين، وعلي الإبدال في الحروف الصحيحة عند الإدغام، والإعلال في الحروف المعتلة، وأنواعه، وهي عين المواضع الصرفية والصوتية التي في كتاب سيبويه .

بل لقد تابعه في بعض المصطلحات النحوية التي لم تأخذ شكلها النهائي، فسيبويه يسمي الحرف المتحرك حرفاً حياً، فيحافظ المبرد علي هذا المصطلح بالرغم من عدم صلاحيته للبقاء، فتراه يقول عن الواو في مثل (جدول، وقسورة) إنها " ظاهرة حية أي متحركة "، ويقول في موضع آخر " والمتحرك حرف حي "، وكان سيبويه يطلق علي الحال مصطلحات " الخبر، والصفة، والمفعول فيه" فاخذ منها المبرد مصطلح المفعول فيه وأطلقه علي الحال، كما عبر عن الهمزة بالألف، تماماً مثلما فعل سيبويه، كما كان يسمي اسم كان فاعلاً، وخبرها مفعولاً به، مثله مثل سيبويه .

وقد عرض لهذه الظاهرة عند المبرد الأستاذ " محمد عبد الخالق عضيمة" في مقدمة المقتضب، كما لا حظ الأستاذ "سعيد أبو العزم إبراهيم "، أن " المبرد " قد ساق بعض المصطلحات كما هي عن سيبويه، واختصر بعضها، وفاق سيبويه في تطويل مصطلحات بعض الأبواب .

وإذا كان "المبرد" وقف حارساً أميناً علي مصطلحات سيبويه ليحافظ للمصطلح النحوي وجهه البصري الذي تضافرت جهود أئمة النحو علي صناعته، وتقدمت به البصرة خطوات كبيرة، لا يزاحمها شرف هذه المسؤولية منافس، فما هو السر في عدم إقبال الكثير من أئمة النحو ودارسيه علي قراءة ودراسة كتاب المقتضب ؟

علل أبي البركات بن الأنباري هذا الانصراف عن " المقتضب" بقوله :" وكان السر في عدم الانتفاع به أن أبا العباس المبرد لما صنف هذا الكتاب أخذه عنه "ابن الرواندي" المشهور بالزندقة وفساد الاعتقاد وأخذه الناس من يد "ابن الرواندي" وكتبوه منه فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد ينتفع به ؛ في حين يري البعض أن انصراف الناس عنه إنما كان لانشغالهم بكتاب سيبويه وربما اطلع عليه بعض الدارسين فلم يجدوا فيه ما يزيدهم علماً بمسائل هذين العلمين، يقول أبو علي الفارسي نقلاً عن ابن الأنباري :" نظرت في كتاب المقتضب فما انتفعت منه في شئ إلا بمسألة واحدة وهي وقوع " إذا " جواباً في الشرط في قوله تعالي "إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون" . ولعل لطريقته في العرض واستخدامه أسلوب الاحتجاج والمناقشة، مع مجيئه بعقب كثير من أبوابه بمسائل مشكلة أثرا في نفوس الدارسين منه وانصرافهم عنه والتزامهم بكتاب سيبويه .

واعتقد أن سبب انصرف الناس علي قراءة  المقتضب هو ما أدخله المبرد من أساليب الفلسفة والمنطق عليه، الأمر الذي انعكس علي أسلوبه في عرض المسائل النحوية، فقد أصبح أكثر إسهاباً في الجدل والإطالة في التعليل والاستطراد إلي مسائل جانبية تعرض في أثناء شرح المسألة النحوية أو الصرفية مما كان عند سيبويه، فمن أمثلة تعليلاته العقلية البعيدة عن روح تعليلات سيبويه السهلة الموضحة قوله " في باب الفاعل " :" هذا باب الفاعل وهو رفع وذلك قولك :" قام عبد الله " "وجلس زيد"  وإنما كان الفاعل رفعاً لأنه هو والفعل جملة يحسن عليها السكوت، وتجب بها الفائدة للمخاطب، فالفاعل والفعل بمنزلة الابتداء والخبر إذا قلت " قام زيد" . والمفعول به نصب إذا ذكرت من فعل به، وذلك لأنه تعدي إليه فعل الفاعل، وإنما كان الفاعل رفعاُ والمفعول به نصباً ليعرف الفاعل من المفعول به، مع العلة التي ذكرت لك،فإن قال قائل : أنت إذا قلت :" قام زيد" فليس هاهنا مفعول يجب أن تفصل بينه وبين هذا الفاعل، فإن الجواب في ذلك أن يقال : لما وجب أن يكون الفاعل رفعاً في الموضع الذي لا لبس فيه للعلة التي ذكرنا، ولما سنذكره من العلل في مواضعها فرأيته مع غيره علمت أن المرفوع هو ذلك الفاعل الذي عهدته مرفوعاً وحده، وأن المفعول الذي لم تعهده مرفوعاً . وكذلك إذا قلت " لم يقم زيد" و" لم ينطلق عبد الله "و" سيقوم أخوك" . فإن قال قائل : إنما رفعت (زيد) أولاً لأنه فاعل، فإن قلت :" لم يقم" فقد نفيت عنه الفعل فكيف رفعته ؟ قيل له : إن النفي إنما يكون علي جهة ما كان موجباً، فإنما أعلمت السامع من الذي نفيت عنه أن يكون فاعلاً . فكذلك إذا قلت :" لم يضرب عبد الله زيداً " علم بهذا اللفظ من ذكرنا أنه ليس بفاعل ومن ذكرنا أنه ليس بمفعول، ألا تري أن القائل إذا قال :" زيد في الدار " فأردت أن تنفي ما قال أنك تقول :" ما زيد في الدار " فترد كلامه ثم تنفيه ..." فأين هذا من تعليل سيبويه المختصر الدال وهو قوله :" ضرب عبد الله زيداً" فـ " عبد الله " ارتفع ههنا كما " ارتفع في " ذهب " وشغلت "ضرب" به كما شغلت "ذهب " وانتصب "زيد" لأنه مفعول تعدي إليه فعل الفاعل" .

ومن أمثلة استطراده ما جاء في أثناء كلامه علي " في " الجارة قال :" ومعناه ما استوعاه الوعاء، نحو قولك :" الناس في مكان كذا " و" فلان في الدار" .فأما ولهم :" فيه عيبان" فمشتق من ذا، لأنه جعله كالوعاء للعيبين، والكلام يكون له أصل ثم يتسع فيه فيما شاكل أصله، فمن ذلك قولهم :" زيد علي الجبل " وتقول :" عليه دين " فإنما أرادوا أن الدين قد ركبه وقد قهره، وقد يكون اللفظ واحداً ويدل علي الاسم وفعل نحو قولك " زيد علي الجبل يافتي" و" زيد علا الجبل " ومن كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين واختلاف اللفظين والمعني واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فأما اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين فهو الباب نحو قولك "قام" و"جلس... " .

ثم يمضي المبرد في شرح هذه الأنواع والتمثيل لها ثم يقول :" وكذلك " وجدت" تكون من "وجدان الضالة".. وفي معني "الموجدة" نحو" وجدت علي زيد " ويبدو أنه لم يكن غافلاً عن هذا الاستطراد الطويل، وإنما هو معتمد له، ولهذا يقول بعده :" فهذا عارض في الكتاب ثم نعود إلي الباب؛ ويتحدث بعده عما كان من حرفين وهو" لم" .. ويستخدم التقرير النظري العقلي أكثر من اعتماده اللغة فهو بشرح أمورا نظريا كثيرة ثم يمثل لها على خلاف ما كان واضحاً عند سيبويه وشيوخه من بناء القاعدة على المثال لا المثال على القاعدة . ومن ذلك ما ذكرناه من لجوئه إلى افتراض أمثله مطولة معقدة التركيب يمتحن بها المتعلمين بكنه مع هذا يشرحها ومن ذلك أيضا قوله "ما أعجب شئ شيئاً إعجاب زيد ركوب الفرس عمرو " ولهذا عيب المبرد على جعله هذه المسائل العويصة فى أول كتابه مما نفر الناس منه .

واتضح تأثير الفلسفة والمنطق فى شرحه مسائل النحو كما مر بنا فى كلامه على " الفاعل " واتضح فيه استخدام العلل المركبة، وذلك بالسؤال عن العلة وعلتها إلى أن تداخلت أربعة تعليلات فيه، واستخدام المحاجة فى ذلك كله . وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم