قضايا

فقه سلوك المؤامرة!!

صادق السامرائيالكلام عن المؤامرة يبدو غثيثا ومملا لأن الأمة أمضت القرن العشرين تلعلع بكلمة مؤامرة وما ينجم عنها ويتصل بها، حتى غمر فقه المؤامرة حياة أجيال وصار وسيلة أساسية للحكم المستبد المتسلط على الناس.

فلكي تحكم وتتسلط عليك أن ترفع رايات المؤامرة ليكون كل معارض متآمر ومَن ينتقدك أو ينصحك متآمر، وبإسم المؤامرة قتلوا عشرات الآلاف من أبناء الأمة، وتعبت المشانق وسوح الإعدامات وأقبية التعذيب من آهات وصراخات وأنّات المتهمين بالتآمر على الكرسي.

ويبدو أن المؤامرة لعبة حُكم يُراد بها الترويع والتحريف والتشويش، وأخذ الناس إلى حيث يريد المتسلط عليهم، والراغب بإمتهانهم وإستعبادهم ومصادرة حقوقهم والإستئثار بثرواتهم أجمعين.

وهي ظاهرة سلوكية إسقاطية المواصفات أسهمت بإغفال العرب لدورهم ودخولهم في عصرهم والمشاركة ببناء الحاضر والثقة بالمستقبل.

وهذه نظرة من عدة جوانب على المؤامرة وما لها وعليها.

أولا: الحياة مؤامرة!!

التآمر سلوك بشري معروف منذ الأزل، ولا جديد في الموضوع إلا أن العرب يحسبونه سلوكا مُعدّا ضدهم والمتسبب في ويلاتهم وتداعيات حاضرهم وضياع مستقبلهم، وما تساءلوا يوما كيف يتآمرون هم أنفسهم؟!

المؤامرة سلوك ما بين الدول والمجتمعات والفئات والأفراد، يهدف إلى تحقيق مصلحة وتدمير أخرى وإستهداف عدوّ، فهي في حقيقتها سلوك دفاعي وهجومي في غاب التفاعلات الدولية.

والمؤامرة أحد مرتكزات قوانين الغاب، فالأسود تتآمر للإيقاع بفرائسها، وكذلك كل قوي مفترس، والحروب معروفة بآليات التآمر من أجل كسبها، لكن العرب ما أعجبهم وأغربهم، عندما يصرّحون بأن سبب كل علة ومصيبة هو المؤامرة، وأنهم الأبرياء المطهرون من الدور والمساهمة في الويلات.

المؤامرة تتطور وتتعقد وفقا لمعطيات العصور، والعرب لا يزالون في أمية تآمرية مدقعة، فهم ما تآمروا يوما بذكاء ودهاء من أجل مصالحهم، وإنما يفعلونها كما تفعل الحملان في تآمرها على الذئاب، بأن تحيطها لتوفر الفرص الثمينة لإفتراسها، أو أن العرب يجلبون مفترسهم إلى ديارهم على أن يحميهم من أخيهم الذي يحيط به مفترس.

فالعيب ليس في المؤامرة وإنما في الذين ينكرونها ويؤكدونها، وكأنهم لا يدركون أن علاقات الدول لا تخلو من التآمر، فهي من النشاطات الكفيلة بتأمين المصالح والوصول للأهداف.

والأقوياء يتآمرون ويحققون ما يريدون بالتآمر، والضعفاء يتوجّعون ويتأوهون ويلعنون المؤامرة!!

فهل آن الآوان وتأكد للعرب أن عليهم مغادرة هذا النهج المريض وإدراك حقائق الحياة ومؤثراتها وعناصرها الفعالة التي عليهم أن يتعلموا آليات تفعيلها وتسخيرها لصالحهم، وأن يجابهوا المؤامرة بالمؤامرة فيرهبون أعدائهم، بدل الخنوع والتشكي الذي يمنح المتآمرين ألف فرصة وفرصة للإمعان في مؤامراتهم، لأنها أسهل الطرق للوصول إلى الأهداف.

فموضوع المؤامرة والتآمر آلية إنغرست في الوعي العربي السياسي، وأسهمت بتدمير الحياة ومنعت  الوصول إلى صياغة عقد إجتماعي نافع ومتصل بقدرات إنجاز أهدافهم وتأمين حاضر ومستقبل أجيالهم، التي أصبحت على حافات الضياع والغياب المرير.

ومن الضروري أن يركز العرب على مناهج تفكير معاصرة تحفزهم على التعاطي مع التحديات القائمة بإرادة علمية بحثية حقائقية، تؤدي لنتائج إيجابية توقد في الأجيال طاقات الكينونة والصيرورة الأرقى، وتعيد الثقة وتجدد العزيمة وتبني الإرادة المتفقة مع ما في الأجيال من طاقات وتطلعات حضارية.

فلنتآمر جميعا من أجل مصالحنا ونكون أعوانا ليعضنا لكي نحبط مؤامرات الآخرين، فالحياة مؤامرة، ومَن يتوهمها غير ذلك، فأنه يتآمر على ذاته وموضوعه ويُحسب من الغافلين!!

ثانيا: المؤامرة والمؤازرة!!

كنت في لقاء ودّي مع عدد من الأخوة من حملة الشهادات العليا، وتصدر المجلس مَن أدهشني بتركيزه على نظرية المؤامرة وتكراره لها عشرات المرات، فكل كلام يصدر من الأخوة والأخوات يعزيه إلى نظرية المؤامرة، ولا أحسبه كان يعرف ما يقول، لأنه يتجمد حيال أبسط سؤال لتفنيد ما يذهب إليه، وإحترت في أمره ولماذا هو موسوس لهذا الحد بنظرية المؤامرة.

قلت: لماذا أنت تعزو كل رأي إلى ما تراه أنت ولا تقبل بتفحص الرأي الآخر؟

قال: لأن المؤامرة لا وجود لها!!

قلت: لكن هذا تفكير متطرف ومنغلق!!

قال: كيف تقول ذلك؟

قلت: الموضوع ليس بإثبات وجود أو تفي المؤامرة، فالقِوى بأنواعها ومنذ الأزل تتصارع على أمور كثيرة، وكل قوة تفعل ما تفعل لتنال من القوة الأخرى وتحرمها من الوصول إلى الهدف، وإذا أسمينا ذلك مؤامرة فطبيعة العلاقات ما بين القوى هي التآمر، بمعنى كل قوة تريد القوة الأخرى أن تأتمر بها وتستحوذ على قدراتها وتحجّم دورها.

ففي الزمن المعاصر القوى الأرضية في محتدمات التصارع التآمري على بعضها، وهذا هو ديدن التفاعل ما بين أية قوة وقوة تنافسها، فالمشكلة ليست في نفي أو إثبات المؤامرة وإنما بين المؤامرة والمناورة.

بمعنى أن القِوى تعرف نوايا القِوى الأخرى وتناور وتبتكر الوسائل والأساليب الكفيلة بتعويقها وإحباطها، فأمريكا وروسيا في تفاعلات تآمرية وكذلك أمريكا وكوريا الشمالية، والصين واليابان، والهند والباكستان، وما شئت من الدول القوية ومنافساتها أو أضدادها ومزاحماتها على الأهداف والتطلعات المتعددة.

لكن المشكلة التي تواجه بعض الدول ومنها الدول العربية خصوصا، أنها تتخذ سبل مؤازرة المؤامرة، بل أن بعضها تتآمر مع المتآمرين على العرب وتنفذ أجنداتهم.

فإيران وتركيا تتآمران على العرب بمعنى تأكيد مصالحهما ومشاريعهما، وتجدان في العرب مَن هو أشد حماسا وعزيمة على تنفيذ تآمراتهما منهما معا، ولهذا فهما جادتان ومتواصلتان في نهج التفاعل المبرمج مع الواقع العربي، وقس على ذلك الدول الأوربية وأمريكا، فهذه القوى قد وجدت من العرب مَن يؤمن بمؤامراتها وينفذها بأخلص وأتقن ما يكون عليه التنفيذ.

أي أن الواقع العربي يؤكد بأنه واقع متآمر على ذاته وموضوعه، ويستدعي المتآمرين عليه للنيل الأشرس منه، والأمثلة متراكمة من إفتراس العراق إلى اليمن وسوريا وليبيا وغيرها من الدول، التي يتفنن العرب أنفسهم في التآمر عليها والنيل من وجودها.

ولا توجد مؤامرة ناجحة من دون مفردات في القوة المستهدَفة تساهم في تحقيق طموحات القوة الهادفة، وهذا واقع متواصل على مرّ العصور، وهو قانون أو بديهية سلوكية لا تقبل الخطأ، وما دام العرب يتآمرون على بعضهم ويستعينون بالمتآمرين عليهم للتآمر على بعضهم، فلن يكسبوا سوى المذلة والخسران المريع.

فلا تقل لي مؤامرة بل قل لي هل أنت تؤازرها أم تناورها وتنتصر عليها؟!!

لكن الآخ مضى متمترسا في خندق نظرية المؤامرة، وهذا دليل دامغ على سهولة تنميطنا وتحويلنا إلى أبواق مسوّغة للويلات والتداعيات التي تحاك وينفذها الذين تُحاك ضدهم، وتلك عاهة عربية سلوكية إدراكية متميزة وساطعة.

فتآمروا من أجل مصالحكم يا عرب إن كنتم صادقين!!

 ثالثا:التآمر بالدين!!

أخطر مؤامرة تتعرض لها البلاد العربية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولا تزال في ذروتها، هي التآمر بالدين، فالدين الذي فجّر الطاقات العربية وأنشأ الحضارات السامقة، يتم إستعماله للإنقضاض على العرب في كل مكان.

فالإنسان العربي يختلف عن غيره لأنه يكنز مؤهلات حضارية وإبداعية متميزة ونوعية، وقد إنطلق متسائلا عن سبب تخلفه عن ركب العصر الذي هو فيه منذ قرن ونصف، وأوجد الأجوبة والحلول والمناهج الكفيلة بتحقيق النقلة المطلوبة للتواكب مع إرادة الحياة، لكن الذي حصل أن القوى الطامعة بالعرب تمكنت من تحقيق طموحاتها ومشاريعها بواسطة الدين، الذي حوّلته إلى أدوات سياسية وإستبدادية وإستعبادية لأخذ الأجيال إلى مطبّات الضياع والهلاك الحامي.

ووفقا لذلك أنشئت الأحزاب الدينية، التي يمكن القول بأنها وبلا إستثناء ممولة، ومسخرة لخدمة أغراض خفية أدت بالأمة إلى ما هي عليه اليوم من الضعف والتأخر والهزال.

قد يقول قائل أن هذا تعميم وعدوان، لكن النتائج المتحققة تخبرنا عن طبيعة عناصرها وآليات تفاعلها، وما أنجزته الأحزاب الدينية على مدى أكثر من قرن يؤكد ما تقدم من تقييم وتوصيف، فهي لا وطنية فلا تؤمن بوطن، وإنما عقيدتها عالمية ونوازعها عولمية وتصوراتها وهمية، ومتأسنة في حنادق غابرة مطمورة تحت أنقاض الأزمان، ويمكن القول بأنها متحجرة ومندحسة بالتقليد الأعمى الذي يلغي وعاء المكان وأنوار الزمان، ويحسب الدنيا ممنوعة الدوران.

الأحزاب الدينية مضغوطة عاطفيا ومعبأة إنفعاليا، وتمتلك متاريس سميكة تتقوقع فيها وتتفسخ ولا  تريد أن تتواصل وتتجدد وتعبق من هواء العصر وتشرب من الماء الجاري، إذ يحلو لها ماء المستنقعات العفنة.

وهي أحزاب تسوّغ أبشع الجرائم ضد الإنسانية بنصوص وتأويلات تراها دينية وتتصور بأنها صاحبة الجوهر واليقين.

وقد أخطأت الدول العربية الناشئة في الإعتماد عليها في تعزيز السلطة والحكم، وفي محاربتها بالسلاح وفرض القوة عليها، وفي الحالتين إرتكبت حماقات وخطايا، لأنها أسهمت في ديمومتها وتوالدها وتناميها وتقديس رموزها، ووصولها إلى فرض هيمنتها على الوعي المجتمعي، وإعتقال الأجيال في صناديق تصوراتها وثوابتها الراسخة التي لا تقبل الإعتراض والسؤال، وإنما لابد من التبعية والخنوع والقبوع وعدم إعمال العقل، ووأده أو تعطيله ومنعه من التفاعل مع الحياة، التي تم تصويرها على أنها محكومة بإرادات وطاقات وقدرات دينية وحسب.

والحقيقة المغيبة أن الأحزاب الدينية تم تأسيسها لسحق المشاريع النهضوية العربية التي بدأت منذ قرن ونصف، وذلك لأنها رفعت شعار "الإسلام هو الحل"، وفي هذا المنطوق تكمن مصيبة أمة تم عقر عقولها وتكسيحها، وتشجيعها على إستلطاف الضعف والإنكسارات والهزائم والتبعية والخنوع وتأهيلها لكي تكون مُستعبدة ومحطمة ومنزوعة الإرادة ومصادرة المصير.

وبسبب عدم وعي دواعي الإنشاء أخطأت الأنظمة السياسية العربية التقدمية عندما واجهت الأحزاب الدينية بالقوة، وأغفلت أن عليها أن تواجهها فكريا وثقافيا وإنجازيا ومنهجيا، لتفند طروحاتها الظلامية الغابرة، وتسفهها بالحجج الدامغة المحفزة للعقل والمنمية للوعي والإدراك العربي.

ذلك أن المواجها العسكرية تم توظيفها لتأجيج العواطف والإنفعالات، وبناء حالة تجنيد وترفيد للأحزاب الدينية مما أسس لقواعد متمددة في نهر الأجيال، وهي كالصخور الكبيرة المعوقة لإنسياب الجريان في نهر الحياة الصاخب التيار.

وتقف الأمة اليوم مذهولة ومعها العالم بأسره أمام بشائع الأحزاب الدينية التي تتحكم بمصير عدد من الدول العربية، وكيف أنها كشفت على أنها حركات إجرامية متلثمة بدين، وما دينها إلا ما تمليه عليها النفس الأمارة بالسوء والفواحش والمنكر المشين.

أحزاب ضد الوطن والوطنية والعروبة والإنسانية والعلم والبناء والتقدم، إنها أحزاب تدميرية تخريبية تابعة ومنفذة لأجندات الآخرين، ولكن بإسم الدين، وبإسم قادتها المقدسين الذين لا يخطؤون ولا ينطقون عن الهوى، فكل ما يقولونه وحي يوحى، وعلى القطيع المرهون بإرادتهم أن يتبع ويكون من الخانعين، وإن سألت عن العقل، أجابوك بأنك من الكافرين، والزنادقة الأولين، وإن لم تصدقوا فتأملوا ما جرى لأبن رشد عندما دعى لإعمال العقل قبل أكثر من ثمانية قرون.

إنها الأحزاب الدينية مصيبة أمة ودين، ولن تتعافى الأمة ويتطهر الدين إلا بإزالتها من حياة الناس المساكين!!

فكيف بربك تحول دين أمة إلى مؤامرة عليها؟!!

وختاما، فما تقدم ليس رأيا، أو وجهة نظر بل قراءة تحليلية لواقع تتآكل فيه القيم الجوهرية وتتفاعل المضادات التناحرية، التي توظف أروع وأسمى ما في قلب الأمة وروحها وعقلها للنيل منها، وهي قراءة غير معنية بالخطأ والصواب، وإنما بالإقتراب الموضوعي المستند على ما يمكن وضعه في منطوق عقلاني سببي إقناعي أو تنويري لتحفيز التفكير وتوسيع آفاق النظر.

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم