قضايا

في رحاب الثقافة العربية.. مدخلات نظرية ومخرجات عملية

خديجة ناصريإنّ كل حديث عن الثقافة في العالم العربي يجرنا عادة للبحث فيما إذا كانت هناك ثقافة عربية حاليا أم لا، لكننا لا نبتغي من هذه الدراسة البحث عن مضمون هذه الثقافة كائنة أم أنها في حيز التكوين، وما نود أن نؤكد عليه في ختام هذا البحث هو أنّ الثقافة العربية الراهنة يجب أن تفهم أزمتها، في ضوء مستجدات العصر، فالأمة العربية في تجربة انبعاثها تحتاج إلى دليل نظري، يمس جوانب الثقافة كأفق تشتغل من خلاله للخروج من أزمة تخلفها الحضارية، ومن هنا جاز لنا طرح التساؤلات التالية كدليل منهجي ينير لنا الدرب خلال هذه القراءة:

- ما الذي يمكن استشرافه فيما يتعلق بدور الثقافة في مستقبل الأمة العربية ؟

- ما الدور المتوقع الذي يمكن أن تضطلع به الثقافة بناء على ما هو موجود ومتاح من معطيات واقعنا العربي؟

أولا: الخطاب الفلسفي العربي حول الفعل الثقافي:

إلى وقت قريب كانت محاولة إثارة قضية الثقافة ضمن آفاق المشروع النهضوي العربي يثير أكثر من تساؤل وذلك بسبب الغياب الشبه التام للدراسات العلمية التي تهتم بالمسألة الثقافية، في حالة افتقار لجدل معرفي وسجال فكري جاد وحاسم، يسهم في بلورة الإطار النظري والعملي لفكرة الثقافة، على الرغم من كون الثقافة من المفاهيم التي سجلت حضوراً مبكراً في الخطاب العربي، فمع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية انتقل مفهوم الثقافة إلى القاموس العربي، فكان "سلامة موسى" في مصر، أوّل من أفشى لفظ ثقافة مقابل(Culture) [1]. وقد تأثر في ذلك بالمدرسة الألمانية في تعريف ربط الثقافة بالأمور الذهنية، حيث عرّف الثقافة بأنّها هي المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلمها الناس ويتثقفون بها. كما ميز في المقابل بين الثقافة (Culture) المتعلقة بالأمور الذهنية والحضارة (Civilisation) التي تتعلق بالأمور المادية. وإن كان ما يهمنا في هذا المقام ليس التأصيل اللفظي لكلمة ثقافة، إنّما ما يعنينا هو الممارسة الفعلية لهذا المفهوم.

هذا الفرض، أي غياب الاهتمام بالثقافة في إطار الفكر العربي، يبدو صحيح في بعض جوانبه إذا احتكمنا إلى منطق التأصيل المفهومي للثقافة، أما القول بغياب الثقافة في العالم العربي كممارسة عملية لا يجد له مبررات لتأكيد على صدقيته، فإذا كانت الثقافة كما يتم تعريفها هي ذلك "الجهد المبذول لتقديم مجموعة متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجرى حياتها، فالثقافة هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركبا كليا متكامل المعنى متماسك الوجود قابلا للحياة"[2]. فإنّه يتوجب علينا أن نصادق على ما قاله "أحمد برقاوي"، الذي يعتقد، "أنّه من النادر أن نجد أمة من الأمم المعاصرة، تجعل من هويتها الثقافية موضوعا للنظر والبحث، بكل قلق ممكن، ودون كلل أو ملل، كما هو الحال مع العرب"[3]. ومن هنا يمكن الحديث عن الثقافة العربية بما تشهده من حراك وتقلبات على مستويين: أولها الثقافة بوصفها أفكار يتم بلورتها على مستوى الوعي، وهذا يتموضع ضمن الخطوة المنهجية. وثانهما الثقافة بوصفها بنية موضوعية أي الثقافة واقعيا، وهذا ما يندرج ضمن الجانب المعرفي:

1- الجانب المنهجي:

تفرض هذه الخطوة نفسها لكون مفهوم الثقافة في الفكر العربي ما زال يفتقد للدقة والوضوح ولبس في التحديد، فالثقافة اللفظية وثقافة التجميع والاقتباس وثقافة الترجمة والنقل الاجتراري، حلت محل المضمون الحقيقي لمفهوم الثقافة، وهذا ما أدى إلى ظهور العديد من الدراسات التي دعت إلى ضرورة بناء مفهوم جديد للثقافة بمقومات عربية لأنّ المفاهيم والمصطلحات كما يقول "محمد عمارة" عبارة عن هوية فكرية تحمل رسالة حضارية وجب فهمها والتعامل معها كشرط لازم لأي حوار فكري هادف وجاد[4]، ومن هنا تبرز الحاجة لتشكيل تركيبة مفاهمية برؤية عربية إسلامية ولعل أبرز هذه المفاهيم مفهوم الثقافة الذي نال خلال العقد الأخير القسط الأكبر من الدراسة في الفكر العربي، ولأنّه بقدر اتساع هذه المحاولات بقدر ضيق الأفق الذي نشتغل من خلاله ولهذا سنخص بالذكر مفكرين عربيين وهما محمد "عابد الجابري" و"طه عبد الرحمان"، وقد وقع الاختيار عليها لانتمائهما للحقل الفلسفي.

أ- استراتيجية التجديد الثقافي العربي عند الجابري:

لقد حاول "الجابري" بكل السبل المعرفية المتاحة ضمن ما أسماه ب: "مشروع التأصيل الثقافي" أي التأصيل الثقافي للمفاهيم الحديثة، إعادة بناء مفهوم الثقافة من خلال كتابه الموسوم ب:"المسألة الثقافية في الوطن العربي"، وبناء مفهوم المثقف ضمن كتابه: "المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد" بالصورة التي تجعل هذه المفاهيم تعبر داخل الثقافة العربية عن المعنى الذي يعطى لها اليوم في الفكر الأوروبي حيث تجد مرجعيتها أصيلة، وتنتمي للأفق المعرفي الذي يتخذ منها وسائل وأدوات للتفكير من خلالها.

وقد خلص "الجابري" بعد تحليله للاختراق الذي أصاب الثقافة العربية، إلى ضرورة تجديد هذه الثقافة من الداخل وفق ما يسميه ب:"استراتيجية التجديد من الداخل"، والعبارة التالية توضح بجلاء ما كان يروم إليه "الجابري" مؤداها: "إنّ تجديد الثقافة أية ثقافة، لا يمكن أن يتم إلاّ من داخلها: إعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحـــاضر بالمــــاضي في اتجاه المستقبـل. والتجديد من الداخل يجب أن يكون استراتيجية عامة، سواء تعلق الأمر بالثقافة العالمة أم بالثقافة الجماهيرية"[5].

ومن هنا تأتي دعوة "الجابري" من خلال المحور الذي عنونه ب: لا انغلاق ولا اغتراب بل التجديد من الداخل. وعلى المفكرين والباحثين أن يتعاملوا مع الثقافة العربية كمقوم من مقومات الوطن العربي، لا بوصفها مقولة مبتورة عن المجال المعرفي التداولي الذي يشكل هويتها، يتلخص ذلك في قوله: "موضوعنا ليس هذه الثقافة العربية هكذا بإطلاق، أعني بوصفها حقلا أو حقولا معرفية وأيديولوجية يمكن أن تدرس وتحلل كما تدرس وتحلل المعارف والعلوم بقطع النظر في علاقتها بهوية حاميلها، بل موضوعنا، بالعكس من ذلك، هو الثقافة العربية كما تتحدد بالإضافة إلى الوطن العربي، أي بوصفها مقوما من مقومات الوطن العربي نفسه"[6].

كما حاول "الجابري" العمل على إعادة بناء مفهوم المثقف، ويظهر ذلك في مقولة "التبيئة" التي تعني بحسبه ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضويا. و هذا ما يسميه "عمر كوش" أقلمة المفاهيم[7]، أي تبيئة مفهوم المثقف في ثقافتنا العربية الإسلامية، من حيث أنّه لا معنى للحديث عن مفهوم دون أن نكونّ له مرجعية أصلية واضحة، وإلاّ يكون الحديث عنه شبيه بشيء معلق في فراغ، يقول بخصوص ذلك: "لاحظنا ضبابية واسعة في الخطاب العربي المعاصر في استخدام مصطلح المثقف رغم رواجه الواسع، إذ هو لا يشير إلى شيء محدد و لا يحيل إلى نموذج واضح و لا يرتبط بمرجعية واضحة ذلك لأنّه بقي يفتقد إلى التبيئة الصحيحة في الثقافة العربية الإسلامية، ذلك لأنّ مفهوم المثقف الذي نقل إلى الثقافة العربية عبر ترجمة ناجحة دون شك، غير أنّه لم تتم تبيئته بالصورة التي تمنحه مرجعية واضحة في فضائنا الثقافي، فبقي غريبا رغم انتشاره الواسع"[8].

ب- التجديد القيمي للثقافة العربية عند طه عبد الرحمان:

يعرف "طه عبد الرحمان" برؤيته القيمية في عملية التجديد الثقافي، وهو يدرس هذه القضية من موقع الندية، حيث يؤمن بالمقدرة التي يتمتع بها المفكر العربي ليس فقط في إعادة صياغة وبناء المشروع النهضوي العربي على المستوى الداخلي كما ذهب إلى ذلك الجابري، بل يتعدى الأمر ذلك إلى فرض القيم الإسلامية على الفكر الغربي والتأثير عليه لا التأثر به. بحيث تصبح الثقافة العربية الإسلامية ثقافة عالمية لأنّ هذا هو موقعها في الأساس.

يكمن التحدي بالنسبة "لطه عبد الرحمان" في مواجهة الغرب الذي عمل على إفراغ الثقافة العربية الإسلامية من محتواها الأصيل واستبداله بمضامين ثقافته، وأول خطوة يجب القيام بها هي إعادة النظر في مفهومنا للثقافة نفسه وبناء تعريف جديد يستمد مادته من جوهر البيئة العربية الإسلامية. يلتقي هذا الطرح مع موقف "نصر محمد عارف" في كتابه: "الحضارة، الثقافة، المدنية، دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم" بخصوص ضرورة تحرير المفاهيم السائدة من مضامينها الغربية وتأصيلها عربيا وإسلاميا في إطار مرجعي أسماه أسلمة المعرفة[9].

يرى "طه عبد الرحمان" أن العمل على بناء مفهوم جديد للثقافة العربية ينطلق من درء المفاسد التي عمل الغرب على نشرها في الكيان العربي، يوجز هذه المفاسد في أربع:

- الاستتباع الثقافي: فقد عملت المجتمعات الغربية ولا تزال تعمل على إبقاء المجتمعات العربية تابعة لها.

- التخريب الثقافي: حيث تقوم الثقافة الغربية برأيه، بجملة من العمليات التخريبية، ترمي إلى هدم ونسف قيم الثقافة العربية الإسلامية.

- التنميط الثقافي: إذ يسعى العالم الغربي في ظل الهيمنة الاقتصادية إلى فرض نمطه الخاص في التفكير والسلوك على العالم بأسره مدعما لهيمنته الثقافية.

- التلبيس الثقافي: فقد قامت الثقافة الغربية على ثلاثة مبادئ حداثية قطعت من خلالها صلتها بالقيم الإيمانية العظمى:

- مبدأ الاشتغال بالإنسان بدلا من الاشتغال بالله.

- مبدأ التوسل بالعقل بدلا من التوسل بالوحي.

- مبدأ اعتبار الدنيا بدلا من اعتبار الآخرة.

هذه المبادئ التي ارتكز عليها المشروع الحداثي ولدت إنسانا ماديا لا يقيم للمبادئ الأخلاقية اعتبارا ومن هنا تبرز الحاجة إلى تجديد مفهوم الثقافة العربية وربطها بالمجال التداولي العربي[10].

يتضح من خلال هذه القراءات أنّ البوابة للخروج من المأزق الحضاري العربي هي إعادة النظر في الجهاز المفاهيمي للفكر العربي بداية بمفهوم الثقافة بوصفها ذلك المفهوم الضام الذي تنصهر فيه كل الأفعال الإنسانية بالصورة التي تمكن العقل العربي من استوعاب للصلة بين ماضي الأمة العربية وحاضرها ومستقبلها، في موقف عملي من قيم الماضي والحاضر والمستقبل. لأنّ الثقافة موقف نظري وعملي من الحياة ومن المجتمع، كما أنّها موقف نظري وعملي من القيمة التي تخضع للتطور. هذا الموقف يحتاج إلى روح الفاعلية والإبداع والخلق والتجديد، في مقابل الابتعاد عن السكونية والثبات   والتقليد والتكرار. لذلك فهي تمثل للعقل العربي الصلة بين ماضي الإنسانية وحاضرها، وبين ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها، في مركب ثقافي جديد يستوعب الصلة بين الواقع القومي العربي والواقع الحضاري للعالم الراهن.

2- الجانب المعرفي:

يأتي التركيز على الجانب المعرفي، كخطوة على طريق التحديث الثقافي العربي، من باب كون المعرفة لصيقة بالثقافة في كثيرة من جوانبها إن لم نحكم بالقول أنّ المعرفة تمثل جوهر ولب الثقافة فكثيرا ما نجد تعاريف تجعل من المعرفة مرادف للثقافة، فيقال "أنّ ثقافة مجتمع أو أمة أو طبقة أو جماعة اجتماعية هي طريقتها في معرفة الأشياء، وبناء إدراك حولها، أو قدرتها على تكوين صورة ذهنية عن الأشياء وتنظيمها وترتيبها"[11]. ومن هنا جاء هذا الطرح لمناقشة بعض القضايا المعرفية والتي أضحت تؤرق المفكر العربي وتثقل كاهله نذكر من بينها:

أ- الثقافة العربية ومشكلة التقليد (الأصالة والمعاصرة):

يعد التقليد أحد العلل التي تنخر جسد الثقافة العربية ولم تجد لذلك مخرجا أو حل، والتقليد يكون على مستويين:

- إما بالإنكباب على الذات واختزال الواقع بطريقة تعسفية في خطاب تطغى عليه النزعة الإنية، فالثقافة العربية المعاصرة ما تزال أسيرة وحبيسة الماضي، تقوم على تقليد التراث العربي القديم تقليد أعمى في كثير من جوانبه، في عملية تكرار لأشكال وصيغ تعبر عن واقع لم يعد موجود، وبعدة مفاهمية استوفت شروطها وانتهت صلاحيتها. وهي بسبب هذا التقليد لم تفقد قدرتها على الإبداع والتجديد وحسب، بل ترجم ذلك فشلا ذريعا حتى في تكوين صورة صحيحة للماضي القومي، وبدلا من إعادة إنشاء صورة هذا الماضي على ضوء مكتسبات الفكر المعاصر، ومستجدات الواقع الصناعي الحداثي الجديد، تستسلم بسهولة وكسل لمجموعة الصور المتناقضة التي تجمعت حول هذا الماضي.

- وإما بالتنصل والتنكر للتراث العربي مقابل الانصهار والذوبان في الآخر الذي يتمثل في وعينا العربي في الفكر الغربي، في شكل حالة مرضية كانت نتيجة صدمة اللقاء بالحداثة[12]، وما ترتب عنها من انبهار وانسحار بقيمها، وقد توهم أصحاب هذه الرؤية القيام بعملية فتح آفاق معرفية جديدة تتشرب من نفس مشارب الحداثة الغربية، في عملية استطلاع وتنقيب عن تربة جديدة ومناخ جديد للثقافة العربية هما تربة ومناخ الثقافة الغربية الحديثة. بيد أنّ الأمر أدى إلى استقاء حلول جاهزة تنتمي لبيئة مغايرة وغريبة عن كيان الثقافة العربية، فكان هذا المسعى يتطلع إلى النتائج ويتوقف عندها دون أية محاولة لربط الأسباب والنتائج والثمار بجذورها، وهو بهذا الموقف يحتفظ بنقطة الانطلاق التي انطلق منها الجانب الأوّل أي بالتقليد والاستسلام والكسل. فالفرق الوحيد بينهما هو القطب الذي تدور حوله الثقافة، الماضي أم الحاضر.

هذا ما جعل تجاوز مشكلة الأصالة والمعاصرة أحد المفاتيح الأساسية لتجديد الثقافة العربية وهذا ما تبرزه الفقرة التالية "لزكي الميلاد": "التجديد في الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتحقق من دون إعادة قراءة التراث من جديد، وبمنهج العقل النقدي، وعلى أساس فلسفة التواصل وليس الانقطاع، وبخلفية الهضم الاستيعاب، وسعيا نحو التجاوز والإبداع. كما لا معنى للتجديد، إذا لم يبدع الفكر الإسلامي معاصرته وحداثته في إطار شروطه التاريخية والثقافية يبرهن على قدرته في مواكبة العصر، والانخراط في تجربة الحداثة العالمية، والمشاركة في إنتاج المعرفة[13]. إلاّ أنّ "زكي الميلاد" ينتهي في نهاية المطاف إلى عملية توفيقية إذ يعتقد أنّه لا يمكن أن نواجه علوم العصر بعلوم التراث، كما لا يمكن أن نواجه علوم العصر بالتخلي عن علوم التراث[14]. وقد لا يكون هذا الحل هو الأنسب للخروج من الأزمة التي تمزق الثقافة العربية، ويمكن النظر إلى القراءة التي أوردها "ناصيف نصار" الأقرب إلى جوهر المشكلة الذي اتخذ موقف الاستقلال الفلسفي كشرط للإبداع في هذا المجال، فهذا هو الشرط الضروري الذي يمكن الفيلسوف العربي المعاصر المشاركة الفعلية في الفلسفة في زمنه متجاوزا بذلك مجرد الوقوف عند محاولات التأريخ لها أو إتباع واحد من مذاهبها[15].

ب- طغيان السياسة على الثقافة (الثقافة والسلطة):

فقد حلت السياسة محل الثقافة في المجتمعات العربية وبذلك عجز الفكر عن تجديد ذاته، فقد رأى "عبد الإله بلقزيز" أنَّ الوعي العربي قد أضاع وقتا ثمينا في استهلاك بعض أوهامه، وفي استنزاف طاقته النظرية في معارك، خرج منها منهكا خائر القوى. لأنه قد استصغر شأن الثقافة كثيرا، ولم يطلب منها إلاّ القليل الذي لا يجزي، وأنّه انصرف عنها إلى غيرها متوسلا إياه أن يسد حاجته، ويدرأها عنه. وفي زحمة انصرافه عنها عاين كيف تتآكل رهاناته، وتتعرض للخواء، وكيف يفر نقع التاريخ عنه ويعقد موعدا مع أمم وثقافات أخرى[16].

ويفسر "بلقزيز" التجاهل العربي للمسألة الثقافية بالانصراف والمراهنة على الجوانب السياسية والاقتصادية، واعتبار الثقافة شأن هامشي عرضي، فقد سقط الوعي العربي حسب تعبيره تحت وطأة "الإغراء السحري الزائف للنزعتين الاقتصادية والسياسية"[17]، وهما نزعتان استبدا بالفكر العربي ردحا من الزمن، فهناك من يعلن دون هوادة أولوية ما هو سياسي على ما هو ثقافي، وعلى الرغم من اعتراف هؤلاء أنّ المتغير الثقافي بما ينطوي عليه من فكر وفلسفة يعد عاملا مهما وجوهريا فيما يتعلق بتحقيق خصوصية أو هوية أي أمة ناهضة. ومع ذلك يجب التسليم بأولوية العامل السياسي على أي عامل آخر، سواء تعلق ذلك بنهضة الثقافة عموما أم تعلق الأمر بنهضة الفلسفة خصوصا وتفعيل دورها في الثقافة. وأولوية العامل السياسي تتضح أولا في كونه العامل الذي يحدد سلم الأولويات الأخرى، وبالتالي فإنّه يحدد حجم ومكانة الثقافة في سلم هذه الأولويات.

وقد تذرعوا لإثبات مزاعمهم بالحضارة اليونانية التي شهدت نظاما فريدا في الحكم وهو النظام الديمقراطي الذي فتح المجال أمام الناس ليمارسوا حريتهم في الرأي والتفكير والنقد، فبقدر المساحة المفتوحة أمام الفكر، وبقدر ممارسة الديمقراطية كأسلوب حياة وتفكير، يكون حظ الأمة في بناء الثقافة. ولا شك أنّ النظام السياسي لا يخلق بذاته ثقافة، ولكن من المؤكد أنّه يوفر المناخ الملائم والشرط الضروري الذي يسمح بوجود ثقافة وفكر قادر على تشكيل عقل الأمة وتحقيق نهضتها[18].

تعرض هذا الموقف للنقد فنجد "محمد عابد الجابري" مثلا إلى جانب ثلة من المفكرين يدعون إلى ضرورة تحرير الثقافة من السياسة، لأنّ "السياسة سلطة والثقافة حرية، والسلطة تقتل الحرية وتكبلها وتلغيها"[19]. في حين نجد في المقابل بعض الأطراف التي تنظر إلى الأمور من زاوية مغايرة حيث ترى أنّ الثقافة العربية الراهنة مازالت معزولة عن إطارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لأنّها لم تتعد حدود وصف هذا الواقع في أحسن الأحوال وصفا جزئيا، فهي لم تتجاوز مرحلة التحليل العلمي للواقع من وجوهه المختلفة إلى مرحلة إنشاء صورة هذا الواقع على أساس النظرة الشاملة إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، وإلى واقع المجتمع البشري الراهن وإلى التيارات المستجدة في هذا الواقع. وبالتالي فإنّه على الثقافة أن تخلق مجال للتواصل مع الشأن السياسي والمشاركة فيه، وهذا لا يعني الدخول في الصراعات السياسية التي يشهدها العالم العربي، بل العمل على تشكيل صورة أوضح للتقليل من حدة هذه النزاعات.

جـ- أزمة تواصل (الثقافة والمجتمع):

الثقافة العربية المعاصرة اكتفت بالمحاولات الفردية و لم تأخذ شكل تيارات فكرية جماهيرية، فمهمة تجديد العقل العربي هي مسؤولية جماعية وهي ملقاة على عاتق كل فرد عربي، ويؤكد "طه عبد الرحمان" في هذا الشأن أنّ التجديد الذي يؤدي إلى التثقيف لا يمكنه إلاّ أنّ يكون جماعيا، ومنه يؤكد على ضرورة تقوية أسباب التداخل الثقافي بين الشعوب العربية والإسلامية والفقرة التالية على أهميتها تلخص هذا الشرط الرئيس: "لا يكفي في ذلك إقرار مبدأ التعاون والتنسيق بين مختلف الأجهزة الثقافية الموجودة في العالم الإسلامي، بل ينبغي أن تشترك بلدانه بالسوية عمليا في بلورة وتخطيط وتنفيذ مشاريع ثقافية متتالية على قاعدة سياسية ثقافية مدروسة بعيدة المدى لتوحيد الأمة"[20]. لأنّ هذا الانشطار بين الطبقات المجتمعية في بلادنا أدى إلى خلق غموض في صلة العقل العربي بالواقع العربي، ثم إنّ صورة هذا الواقع لم تتوضح لأنّ تراكمات كثيرة غلفتها بكثير من الأضاليل، وذلك مرده غياب للدور الحقيقي للمثقفين العرب لأنّهم لا يعيشون هذا العالم في صورته الكلية الشاملة، وتبقى قراءاتهم مسيجة وأحادية الجانب، فالمثقفين العرب لا يمكن أن يملئوا محتوى هذه الصورة إذا اكتفوا بالقليل من القراءة الصحيحة للواقع والمزيد من الكتابة. فيجب على المثقف أن ينهل من نطاق كبير من المعارف حتى يستطيع أن يتحدث عن الثقافة حديثا ذا مغزى[21]. دون أن نتجاهل الدور الباهت لوسائل الإعلام في العالم العربي والتي لا تسهم في عملية البناء الحضاري والثقافي بالقدر الذي تعمل على تدميره وتخريبه.

د- أزمة في المنهج:

إنّ محاولة التأسيس لثقافة عربية أصيلة، بتجاوز ما يعيق طريقها نحو التقدم لا يمكن أن يتحقق، إلاّ بوجود منهج علمي صارم، يعمل على توجيه هذا المسعى نحو المسار الصحيح. فالثقافة العربية المعاصرة تفتقد المنهج التطبيقي الذي يمكنها من تحديد استراتيجية للثقافة ولدور العقل العربي في هذه المرحلة من تاريخ الأمة العربية، فالثقافة العربية ما تزال تتجرع ويلات الافتقاد والافتقار للمنهج الأمثل لقراءة الواقع العربي، فتارة تتخذ من المنهج التفكيكي الحفري طريقا ودليلا وتارة أخرى تستعين بالمنهج التأويلي، وتستخدم المنهج البنيوي طورا والمنهج الفينومينولوجي طورا آخر، وهكذا دوليك إلى حد لا يكاد الوضع العربي يستكن إلى منهج معين إلاّ ويظهر منهج جديد. وبهذا تبقى الثقافة العربية تتخبط بين المناهج الغربية، في وقت هي أحوج فيه إلى ابتداع منهج يلج إلى عمق الأزمة العربية في خصوصيتها وتمايزها عن غيرها.

إنّ الاهتمام المتزايد بالمسألة الثقافية في الخطاب العربي، هي أوّل خطوة على طريق تشكيل وعي عربي مدرك لعمق الأزمة التي تحتاج إلى إعادة النظر في البنى المعرفية المؤسسة لهذا الخطاب، لأنّ الثقافة هي التي تزود المشتغل في حقل الإنتاج المعرفي بالرؤية الكلية التي تحدد التركيبة الذهنية لأي جماعة بشرية، وهذا ما يحتاج إليه المفكر العربي حتى يتفادى الرؤى الجزيئية، التي تفتقد للعمق والدقة والنجاعة. ومنه فإن العمل على بناء مفهوم جديد للثقافة بمرجعية عربية حاجة وضرورة وليست اختيار، لأنّ بناء جهاز مفاهمي بصيغة عربية يمثل البوابة للعبور إلى نهضة عربية، فبعد المراهنة على السياسة وبعدها الاقتصاد بقي أمام هذا الخطاب المراهنة على الثقافة كآخر الدفاعات التي قد تشكل المنفذ للخروج من مأزق التخلف الحضاري العربي. ولا يكون ذلك ممكنا إلاّ بتجاوز مسألة التقليد بنوعيه: تقليد التراث أو تقليد الغرب، الذي يشكل حجر عثرة في وجه التقدم في العالم العربي، فتدارك هذا الإخفاق يمثل أحد المفاتيح الأساسية لفك محنة التخلف العربي. وزيادة على ذلك تبرز الحاجة إلى صياغة منهج جديد يساعد على قراءة الأزمة العربية، بالشكل الذي يسهم في تشخيص دائها مما يتيح وصف الدواء، وفي الأخير فإنّ العمل الجماعي وتضافر الجهود خطوة ضرورية في سبيل التأسيس للمشروع العربي في كل جوانبه ومن ثمة تحقيق وثبة في مسار التقدم الحضاري.

 

بقلم: ناصري خديجة

ماستر 2 فلسفة القيم

...................................

[1] سامي الخشبة، مصطلحات فكرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1997م، ص89.

[2] معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، عالم المعرفة، الكويت 1987م، ص 35.

[3] رضوان السيد. أحمد برقاوي، المسألة الثقافية في العالم العربي الإسلامي، الطبعة الثانية، دار الفكر، سوريا، 2001م، ص17.

[4] محمد عمارة، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، نهضة مصر العربية، مصر، ص 169.

[5] محمد عابد الجابري. المسألة الثقافية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، المغرب، 1999م، ص223- 229.

[6] المرجع نفسه، ص22.

[7] عمر كوش، أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ترحاله، المركز الثقافي العربي، المغرب، 2002م، ص40.

[8] محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000م، ص 14.

[9] نصر محمد عارف، الحضارة الثقافة المدنية: دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض، ص31.

[10] طه عبد الرحمان، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، مرجع سابق ص 98.

[11] جمال مفرج، قضايا الثقافة الإنسانية في مشروع نيتشه الثوري، (رسالة مقدمة لنيل شهادة الدكتوراه، إشراف الربيع ميمون، جامعة قسنطينة، الجزائر،2003م - 2004م)، ص52.

[12] ينظر: أدونيس، الثابت والمتحول: بحث في الإتباع والإبداع عند العرب: صدمة الحداثة، الطبعة الأولى، دار العودة، بيروت، 1978م.

[13] زكي الميلاد، الإسلام والتجديد: كيف يتجدد الفكر الإسلامي، المركز الثقافي العربي، المغرب، 2008م، ص279.

[14] المرجع نفسه، ص 281.

[15] ناصيف نصار، طريق الاستقلال الفلسفي: سبيل الفكر العربي إلى الحرية والإبداع، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1975م. ص17.

[16] عبد الإله بلقزيز، في البدء كانت الثقافة: نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية، أفريقيا الشرق، لبنان، د سنة، ص13.

[17]المرجع نفسه، ص 14.

[18] أميرة مطر، الفلسفة عند اليونان، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1977م، ص 35- 36.

[19] محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص230.

[20] طه عبد الرحمان، الحق الإسلامي في الاختلاف، مرجع سابق، ص96.

[21] نبيل علي، الثقافة الإسلامية: رؤية معلوماتية: خصائص الثقافة العربية في ظل حوار الثقافات، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، 2006م، 89.

 

في المثقف اليوم