قضايا

كيف سقط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع؟! (1)

محمود محمد عليلا شك في أن أول ظهور لمفهوم حروب الجيل الرابع، كان قد صدر لأول مرة في عام 1989 من قبل فريق من المحللين الأمريكيين، من أمثال "وليم ليند William Lind "، و"جون شميث John Smith "، و"جوزيف سارتون Joseph Sarton "، و"جاري ويلسون  Gary Wilson " وغيرهم، لوصف الحروب التي تعتمد على الصراع الذي يتميز بعدم المركزية بين أسس أو عناصر الدول المتحارَبة من قِبل دول أخرى، وقد أُطلق اسم حرب الجيل الرابع على الحرب على " المنظمات الإرهابية حسب المفهوم الأمريكي، والتي يكون طرفا الحرب فيها جيشاً نظامياً لدولة ما مقابل لا دولة أو عدو أو خلايا خفية منتشرة في أنحاء العالم" .

وقد كانت الحرب التي قامت بين الولايات المتحدة وفيتنام نموذجاً لحروب الجيل الرابع، وذلك عندما استطاعت القوات الفيتنامية في حرب فيتنام، أن تهزم الولايات المتحدة التى تعتبرأقوى جيش في العالم وإلحاقه بالخسائر البشرية والمادية، وهذا خير مثال لحروب الجيل الرابع؛ حيث استطاعت قوى ضعيفة أن تكبد الخسائر لقوة أكبر، وتعتبر أحداث  11 سبتمبر مثالاً آخر على تلك الحروب؛ حيث توضح مدى قدرة قوة غير نظامية والمتمثلة "في "تنظيم القاعدة" في استهداف البرج التجاري الأمريكي وإلحاق الخسائر بالولايات المتحدة واستهدافها في عقر دارها" .

كما يطلق على حروب الجيل الرابع "الحروب اللامتماثلة " أو "الحروب غير المتكافئة" والتى تعنى وفقاً لما قاله  المفكر الصيني" سون تزو Sun Tzu " منذ سنين مضت قائلاً :" إنه من الصعب أن تدخل في حروب ضد قوة عسكرية أقوى بنفس الأسلحة المتناظرة، ومن ثم يجب البحث عن أساليب مختلفة لاستخدامها بهدف إلحاق الخسائر بالقوة الكبرى، وفي رأيه يتمثل هذا الأسلوب في استهداف وحدة المجتمع حيث عندما يتم تحطيم التماسك الاجتماعي سيؤدي إلى تحطيم القوة العسكرية " ؛ في حين ذهب "أنطونيو إتسيفاريا" – الأكاديمى العسكري الأمريكي –  بأنها " تلك الحروب التى تعتمد على نوع من التمرد التى تستخدم فيه القوات غير النظامية كل الوسائل التكنولوجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية بهدف إجبار العدو – الذي يمثل قوة نظامية- على التخلى عن سياسته وأهدافه الاستراتيجية ". أما "ماكس ماينورج" - المحاضر في معهد الدراسات الاستراتيجية بكلية الحرب التابعة للجيش الأمريكى- فيعرف تلك الحروب بأنها :"تلك الحرب التى تكون بالإكراه،  وتعمل على إفشال الدولة، ثم فرض واقع جديد يراعى المصالح الأمريكية، ويتم زعزعة الاستقرار" .

واختلف المحللون الاستراتيجيون والعسكريون في تعريف أجيال الحروب فبعضهم يعرفها بـ  :

أ- حرب الجيل الأول: هي الحرب التقليدية بين دولتين لجيشين نظاميين ،الخبير العسكري والكاتب الأمريكي "وليم ليند" يعرفها أنها حروب الحقبة من 1648 حتى 1860؛ حيث عرفت بالحروب التقليدية هي التى كانت سائدة في الحروب القديمة وتعنى وجود جيشين نظاميين يواجهان بعضهما البعض، باستخدام تكتيكات خطية وعمودية ويستخدمون السيوف كأداه عسكرية.

ب- حرب الجيل الثاني: تم تطوير هذه الحرب على يد الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى ، فتطورت الأدوات المستخدمة بدلاً من استخدام السيوف، مثل حروب الجيل الأول فأصبحوا يستخدمون المدفعية والطائرات، وذلك بسبب التطور التكنولوجي الذي حدث في تلك الفترة، كما أنه يعتمد على تكتيكات منضبطة ومازال يعتمد على العنصر البشري في الحرب، ومن أمثلة ذلك النوع : الحرب العالمية الأولى.

ج- حرب الجيل الثالث: يعرفه البعض بالحروب الوقائية أو الاستباقية:  كالحرب على العراق مثلاً ، ويعرفها الخبير الأمريكي "وليم ليند" ويوصفها بأنها طوُرَت من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية، وسميت بحرب المناورات وتميزت بالسرعة الفائقة وعنصر المفاجأة، وتم استخدام الطائرات، والدبابات، وأدوات التجسس، والهجوم من الخلف، بدلاً من المواجهة المباشرة التي كانت تتميز بها الأجيال السابقة من الحروب، كما لديها القدرة على نقل المعارك إلى الأرض.

د- حرب الجيل الرابع: وهي التي تهدف إلي  تحطيم المؤسسة العسكرية أو القضاء على قدرة الدولة، ولكن تهدف إلى إنهاك قوة الدولة المعادية، والتآكل البطئ في إرادتها من أجل إجبارها على تنفيذ ما تريده القوة التي تستخدم هذا النوع من الحروب. كما تهدف إلى إفشال الدولة من خلال عمليات بطيئة تنفذ في الدول المعادية، بحيث يصبح هناك جزء من أرض تلك الدولة لم يقع تحت سيطرتها، ومن ثم سيسهل ذلك سيطرة الجماعات الإرهابية على هذه المنطقة، ويطلقون من خلالها العمليات الإرهابية، لضرب الدول المعادية، مثل ضرب المرافق الاقتصادية، وخطوط المواصلات؛ أي ضرب المؤسسات الحيوية لإضعاف قوتها.

كما تعمل على خلق حالة من التعقيد السياسي، سواء على مستوى المنظمات الدولية التي تقوم بمهام مختلفة أو محلية،  بالإضافة إلى أن هذه الحرب من الناحية السياسية، يمكن أن تؤثر على جوانب مختلفة، فمثلاً إن الموقف الأمني في بلد ما له تأثير مباشر على قدرة الدولة في الحصول على قروض، وهو ما يعطى حروب الجيل الرابع طرقاً مختلفة للتأثير على موقف الدولة أو القيام بفعل تمهيدي كافِ للتأثير على الحالة المالية للدولة المستهدفة وتشجيعها على المفاوضات، ومن ثم فالهدف هو إحداث حالة من الشلل في العملية السياسية للدولة المستهدفة. كما تهدف التنظيمات التي تقوم باستخدام مثل هذه الحروب إلى تحقيق نجاح سياسي وليس عسكري، وتركز على تغيير عقول صناع القرار أي تغيير أراء وسياسات صانعي القرار في الاتجاه الذي يرغب فيه الخصم،  وذلك من خلال الضغط النفسي والإعلامي .

بيد أن الدول المتقدمة لم تنتظر صياغة استراتيجيات وتكتيكات حروب الجيل الرابع ؛ حيث لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلي استخدام حروب الجيل الرابع في شكل ممارسة عفوية تلقائية، من خلال صراعها ضد الاتحاد السوفيتي الذي برز منذ 1945 حتي 1991، والذي أسفر عن سقوط الاتحاد السوفيتي إلي عدة دول.

ولتوضيح ذلك نحاول في هه المقالات أن نطبق هـذا المبـدأ المعرفـي الذي أومن به والقائل: " تمـر الحروب  في انتقالها من مستوي الممارسة التلقائية العفوية إلي مستوي الصياغة النظرية لاستراتيجيات وتكتيكات الحروب "، الأمـر الـذي قـد يحدث نوع من "المغايرة النسقية" في طبيعة الحروب؛ بمعني أن أي حرب من أجيال الحروب، قد مرت فـي تاريخها بمرحلتين أساسيتين ومتميزتين : مرحلة الممارسة اليومية التلقائية التي يغلب عليهــا الطابع الإيديولوجي للحرب، ومرحلة الصياغة النظرية للقواعــد الأساسية والمبـادئ العامـة التـي تجعـل مـن تلك الحروب علماً يُدرس بالجامعات والمعاهد والأكاديميات .

والانتقـال هنا هو انتقـال مـن مستوي الممارسة اليومية العفويـة للحروب إلي مستوي الوعي بالقواعد النظرية التي تنظم هذه الحروب وقد أصبحت علماً. وهذا الانتقال من المستوي الأول إلي المسـتوي الثاني لا يتم إلا عـن طريق" قطع الصـلة" إلي حد ما بالممارسات اليومية ذات الطابع الحدسي والتلقائي التي تسـيطر علي معرفة الحرب قبل أن تتحول إلي علم يُدرس.

ولتوضيح ما نعنيه نقول إن مرحلـة الممارسـة العفويـة التلقائيـة أخـذت لحروب الجيل الرابع من الصراع الأمريكي – السوفيتي خلال الفترة من 1945 حتي 1991م عدة مستويات ، وذلك علي النحو التالي:

المستوي الأول : ويتمثل في فكرة "الحرب النفسية"، وهي إحدى أدوات حروب الجيل الرابع التي اتخذتها "الولايات المتحدة الأمريكية"، لمواجهة المد الشيوعي والأيديولوجية الماركسية في أوربا والشرق الأوسط، وفي  هذه الحرب النفسية شرعت الولايات المتحدة في تسخير كل الطاقات والقدرات والامكانات، التي تملكها للتأثير علي الطرف الآخر؛ حيث حاولت الولايات المتحدة من خلال الحرب النفسية بث الشائعات، من أجل إثبات أن الشيوعية صادمة للفطرة ، وأنها ضد الحريات وضد الدين وضد القيم، وذلك من أجل التأثير على مشاعر وأفكار المعتنقين للأيديولوجية الماركسية، ومحاولة تغيير سلوكهم وانتمائهم الإيديولوجي؛ علاوة علي إثارة المشاكل الاجتماعية، والنعرات الطائفية، والدينية، والعرقية، والسياسية بين دول الاتحاد السوفيتي. وقد برزت الحرب النفسية من خلال فكرة "الحرب الباردة"، والتي اتسمت بأن أطرافها كانت تسعى إلى استثارة الطرف الآخر وتوسيع نفوذها على حساب الطرف الآخر وإرهاقها باستخدام أسلوب إشعال نيران الفتن والحروب داخلها، وهي على العكس تماماً من الحروب الساخنة بافتقارها للنيران والضرب والقصف. وهذه الحرب تمثل " نهج سياسي عدواني اتخذته الولايات المتحدة ، للوقوف بوجه الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وبالتحديد في نهاية الأربعينات" . وقد اتسمت هذه الحرب بسباق التسلح، وبالذات السلاح النووي وتأسيس القواعد العسكرية المحاطة بالاتحاد السوفيتي ، وكذلك استخدام القوة في العلاقات الدولية، ورفض كل المحاولات الجادة لحل النزاعات الدولية عن طريق المفاوضات .

المستوي الثاني : ويتمثل في "حرب العصابات" ، وهي إحدى أدوات حروب الجيل الرابع، وهي حرب غير تقليدية بين مجموعات قتالية يجمعها هدف واحد وجيش تقليدي؛ حيث تتكون هذه المجموعات من وحدات قتالية صغيرة نسبياً مدعمة بتسليح أقل عدداً ونوعية من تسليح الجيوش، وتتبع أسلوب المباغتة في القتال ضد التنظيمات العسكرية التقليدية في ظروف يتم اختيارها بصورة غير ملائمة للجيش النظامي. ومقاتلو حرب العصابات يتفادون الالتحام في معركة مواجهة مع الجيوش التقليدية لعدم تكافؤ الفرص، فيلجأون إلى عدة معارك صغيرة ذات أهداف استراتيجية يحددون هم مكانها وزمانها؛ بحيث يكون تأثيرها موجعاً للخصم. والاسم الأجنبي أصله إسباني ويعني الحرب الصغيرة. وهذا هو ما فعلته الولايات المتحدة حين سلطت المجاهدين الأفغان بأن يؤججوا هذا الحرب، حين قام الاتحاد السوفيتي باحتلال لأفغانستان في السادس والعشرين من ديسمبر عام 1979م .

المستوي الثالث : وقد بلغ هذا المستوي أعلي ذروته في تصدير فكرة "الدولة الفاشلة"، فالهدف الأساسي من حروب الجيل الرابع، هو أن تصبح الدولة  المستهدفة "دولة فاشلة"، حيث قاما "صندوق دعم السلام the Fund for Peace"، (وهو مؤسسة بحثية مستقلة)، ومجلة فورين بوليسي Foreign Policy الأمريكية بدراسة حول الدول الفاشلة أو الضعيفة، وتوصلا إلي بعض الخصائص لوصف الدولة الفاشلة، منها علي سبيل المثال لا الحصر : فقدان السيطرة الفعلية على أراضيها، وضعف السلطة الشرعية في البلاد، وعدم القدرة على تقديم قدر معقول من الخدمات العامة؛ وأخيراً عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو فعال في المجتمع الدولي .

ولاشك أن التاريخ يشهد بأن أعراض فكرة الدولة الفاشلة، تجسدت من خلال فترة حكم "جورباتشوف" للاتحاد السوفيتي من سنة 1985-1991 ؛ حيث خرج علينا بمفهومي "البريسترويكا" و"الجلاسنوست" ، وكان هذان المفهومان يمثلان مقدمات انهيار وتفكيك الاتحاد السوفيتي، فالبريسترويكا والذي يمثل "التفكير الجديد للسوفييت وللعالم أجمع"، فهو تعبير خرج به "جورباتشوف" على العالم بشكل عام، وعلى الشعب السوفيتي بوجه خاص - وعَدّه كما أسماه في كتابه الذي أصدره يحمل هذا الاسم - أنه تفكير جديد لبلاده وللعالم. ورأى "جورباتشوف" أن البريسترويكا ضرورة ملحة لتطوير المجتمع، الذي كان يمثل واحدة من أقوى الدول في العالم. ثم في مرحلة معينة، وبالتحديد في النصف الأخير من السبعينيات، بدأت البلاد تفقد قوة اندفاعها، وتكرر الإخفاق الاقتصادي بصورة أوسع، وبدأت الصعوبات تتراكم والمشاكل تتضاعف، وبدأ في الظهور ما يُسمى بالركود وتباطؤ في النمو الاقتصادي وتدهور في معدلات نمو الدخل القومي. وبدأت بحلول الثمانينيات تحدث فجوة في غير صالح الاتحاد السوفيتي في كفاءة الإنتاج وجودة المنتجات، والتطور العلمي والتكنولوجي، وبينما صواريخه كانت تطير إلى كوكب الزهرة بدقة عالية، كان هناك نمواً هابطاً أثر سلباً بشكل خطير على المجال الاجتماعي.

وأما الجلاسنوست والذي يعني "الانفتاح وازدهار النقد والنقد الذاتي"؛ حيث تكون ممارسة البريسترويكا من خلال توفير المعلومات كافة والانفتاح وازدهار النقد والنقد الذاتي لأداء الحزب الشيوعي السوفيتي، فيما عرف بالجلاسنوست، جعل كلاً من الحزب والشعب يضعان تقييماً عميقاً وموضوعياً بما يؤدي إلى التعجيل بالتطور الاجتماعي والاقتصادي. ويُعَدّ الجلاسنوست من وجهة النظر الحزبية الشيوعية شرطاً حتمياً للتعبير عن الجوهر الديموقراطي للنظام الاشتراكي، وهو شرط لممارسة الحقوق الدستورية، وحريات المواطنين، وهي أداة لتشكيل علاقات دولية حديثة، وتعكس علانية النظام السياسي للمجتمع.

وهنا سقط الاتحاد السوفيتي في 1991، وأصبح يمثل دولة فاشلة خاصة بعد أن ظهر عليه عدد من الأعراض، أولها افتقاد سلطة جورباتشوف قدرتها على السيطرة الفعلية على جميع أراضِ اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، وهذا الاتحاد كان يمثل دولة دستورية شيوعية، شملت حدودها أغلب مساحة منطقة أوراسيا في الفترة ما بين عامي 1922 وحتى 1991، وثانياً فقدان الاتحاد السوفيتي لشرعية اتخاذ القرارات العامة وتنفيذها. وثالثاً عجز الاتحاد السوفيتي عن توفير الحد المعقول من الخدمات العامة. ورابعاً عجز اتحاد السوفيتي عن التفاعل مع الدول الأخرى كعضو فاعل في الأسرة الدولية، الأمر الذي نتج عنه سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه وتحوله إلى كومنولث، وبالتالي إعلان رابطة الدول المستقلة.

وهنا أصبح المسرح العالمي للسياسة الدولية مُهَيَّئاً لاستقبال الولايات المتحدة الأمريكية، لتفرض هيمنتها وسيطرتها على العالم وتحكمه، من خلال القيام بدور شرطي العالم أو قاضي الصلح. وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمي، التي تحاول فرض السيطرة على العالم في المجالات كافة، سياسياً، واقتصادياً، وإعلامياً، وثقافياً، وعسكرياً. كما تحاول فرض قواعد نظام عالمي جديد يتفق مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، تدعمها أدواتها الحربية والتكنولوجية والمادية.  وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم