قضايا

كيف سقط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع؟! (4)

محمود محمد عليفي هذا الجزء الرابع من حديثنا عن كيفية سقوط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع نقول: بدأ المخططون البريطانيون والأمريكيون في التفكير في بناء تحالفات ونظام للدفاع ضد الاتحاد السوفيتي عبر حدوده الجنوبية؛ حيث" أقحموا الإسلام في الموضوع، واعتبروا رابطة الدول العربية التي قامت بإيعاذ بريطاني مثلاً ضعيفة، لأنها لم تشتمل علي تركيا، وإيران، وباكستان، وعندئذ طرح اقتراح لتحويل جامعة الدول العربية إلي رابطة لعالم إسلامي، لتشمل علي الأقل إحدى دول الشمالية، وفشلت الفكرة وركزت السياسات التالية بدرجة أقل علي الإسلام، وبشكل أكبر علي النفوذ الأنجلو أمريكي . وخلال فترة حكم "ترومان" و"إيزنهاور" استمرت الولايات المتحدة تنفذ سياسات، وتقوم بجهود لتعبئة العالم الإسلامي في الحرب الباردة واستغلال الإسلام، كسلاح ضد النفوذ السوفيتي" .

إلا أن العلاقات بين الإسلام السياسي والولايات المتحدة بقيت بين مد وجزر تبعاً لمعطيات كل حقبة وظروفها؛ فقد "بنت الولايات المتحدة علاقات مع الإخوان المسلمين كحليف لها، خلال الحرب الباردة في صراعها مع الشيوعية بالأساس، ولتقويض فكرة القومية العربية والناصرية التي جمعت بين الاثنتين: الفكر القومي والموالاة للشيوعية. ولكن عقب الثورة  في إيران عام 1979 عرف الإخوان أول خلاف لهم مع الولايات المتحدة الإسلامية، كما يشير البعض على إثر ترحيبهم بمجيء نظام "الخميني" عقب ثورة اعتبرت مناهضة  للولايات المتحدة، وأعطت دفعة قوية لتوسع الأصولية الإسلامية على الصعيدين الإقليمي والعالمي. بيد أن هذا التنافر سرعان ما تم تجاوزه بسبب التدخل السوفييتي في أفغانستان نهاية عام 1979 الذي أحيا التعاون بين واشنطن والإخوان" .

فقد شكل الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي بتحالف الولايات المتحدة مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والرابطة الإسلامية، وآخرون " بدعم يصل إلي ثلاثة مليارات دولار وبإشراف وتعاون ودعم السعودية وباكستان، تحولاً في الحركة الإسلامية قوي الإسلام السياسي، وذلك عبر محاربة الشيوعية، وإعداد كادر جديد مدرب علي القتال العسكري، وتعزيز روابط المسلمين بين شمال إفريقيا، ومصر، والخليج العربي، ووسط آسيا، وصعود الإسلام السياسي الاقتصادي من خلال قوة البنوك الإسلامية، وتعزيز قوة المؤسسات الدينية المصرية" .

ثانياً : الغزو السوفيتي لأفغانستان وحرب العصابات:

إذا كان سباق التسلح خلال فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، قد أوصل الأخير علي مشارف الإفلاس، فإن الحرب الضروس بين جبال أفغانستان الوعرة قد أكملت علي قدرة الدولة السوفيتية وبرامجها في تطوير أسلحتها؛ ففي عام 1979،  قرر الاتحاد السوفيتي غزو أفغانستان عسكرياً ؛ وذلك بهدف دعم الحكومة الأفغانية الصديقة للاتحاد السوفيتي، والتي كانت تعاني من هجمات الثوار المعارضين للسوفييت، والذين حصلوا على دعم من مجموعة من الدول المناوئة للاتحاد السوفييتي من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، والسعودية، وباكستان، والصين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري التمدد نحو الجنوب والوصول إلى المياه الدافئة. ولهذا عندما "أطيح بنظام "شاه إيران" في ديسمبر 1979م، وقيام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، واختلال التوازن السياسي في المنطقة لغير صالح أمريكا، استغل الكرملين هذه الفرصة وأقدم على احتلال أفغانستان عسكرياً" .

وهنا قامت الإدارة الأمريكية بتشكيل ائتلاف في الكونجرس الأمريكي سمي بقوات الضربة الأفغانية، وكان الهدف من إنشاء هذه القوات، هو الثأر من السوفييت والانتقام منهم على ما فعلوه في فيتنام؛ حيث كانوا "قد دعموا ثوار الفيتكونغ Viet Cong الذين ألحقوا الهزيمة بالقوات الأمريكية وكبدوها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وحسب وجهة نظر الأمريكيين، فإن أفغانستان تعد أنموذجاً للثأر من الشيوعيين"، الذين ساندوا الفيتناميين في حربهم ضد الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذاك عندما أعلن الرئيس الأمريكي " ليندون جونسون" Lyndon Johnson (1908-1973)عزم بلاده علي زيادة الجنود الأمريكيين في فيتنام، ليصل عددهم عام 1968 إلى 525 ألفاً، كما أصبح القصف الأمريكي للمواقع الشمالية قاب قوسين أو أدنى من الحدود الصينية. ولم تنفع سياسة "العصا والجزرة" مع الفيتناميين، حيث لم تردعهم هجمات الولايات المتحدة المتكررة وقصفها المتواصل، كما لم تغرهم دعوات "جونسون" للتفاوض، فظلت الحرب مشتعلة وعدد الضحايا في ازدياد.

وقد ظلت المعارك خلال الحرب الفيتنامية، تدور في الجبال منتهجين استراتيجية "حرب العصابات"، التي اتبعها الفيتناميون المتكيفون أصلاً مع الأوضاع الطبيعية والمناخية الصعبة. وفي 1968 أطلق الثوار الشيوعيون ما عرف بهجوم "تيت" (عيد التيت وهي الاحتفالات الفيتنامية بالعام الجديد) على مجموعة عمليات عسكرية شديدة استهدفت أكثر من مائة هدف حصري. وقد استطاع الثوار أن يتغلغلوا في الجنوب حتى بلغوا عاصمة الجنوب "سايغون" فتعرض الأمريكيون للهجوم. ومع أن الثوار الفيتناميين فقدوا حوالي 85 ألف شخص، فإن التأثير النفسي للمعارك كان بالغ الأثر على الولايات المتحدة؛ حيث تكبدت الولايات المتحدة من خسائر بشرية ومادية؛  وهنا أعلن الرئيس الأمريكي "جونسون" في الخامس عشر من يناير 1973، وقف إطلاق النار في جميع أنحاء شمال وجنوب فيتنام، وإنهاء الحرب وإحلال السلام في فيتنام.

لم تنس الولايات المتحدة الأمريكية مساندة الاتحاد السوفيتي للفيتناميين، ولذلك بدأت الولايات المتحدة تدخل في حرب مع الاتحاد السوفيتي، أشبه بحروب الجيل الرابع، ولكن بشكل عفوي وتلقائي، وقد استخدمت الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها "الحرب بالوكالة" A proxy war ؛ حيث "استقطبت المجاهدين الأفغان، وقامت بتسليحهم خلال الحرب، كما قدمت وكالة المخابرات الأمريكية  (CIA)، أحدث أنواع الأسلحة التي يمكن للأفراد الأفغان استخدامها ضد الطائرات السوفيتية، واعتبرت الولايات المتحدة أن دعمها لأفغانستان هو أفضل فرصة للانتقام من السوفييت ودورهم في فيتنام، واعتبر قادة الـ " CIA، أن أفغانستان ستشكل فيتنام الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي؛ خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي كان يضم ست دول مسلمة في آسيا الوسطي، وللعديد منها حدود مع أفغانستان" .

وكان "قلب الدين حكمتيار" أحد قادة الأفغان من الذين يعملون مع المخابرات الباكستانية التى كانت مرتبطة في تلك السنوات بتعاون مع الـ" CIA "، وفي عام 1986 بدأت  الـ " CIA "  بإرسال صواريخ "ستينغر"، وهي "أحدث الصواريخ المضادة للطائرات في ذلك الوقت إلى الأفغان، لإسقاط الطائرات السوفيتية" .

وأشارت التقارير العسكرية الأولى إلى "الصعوبات التي واجهت السوفييت أثناء القتال في المناطق الجبلية، فالجيش السوفييتي لم يكن معتاداً على ذلك الشكل من القتال، ولم يحظ بتدريب لمواجهة حرب غير نظامية وحرب عصابات، وكانت آلياتهم العسكرية، وخاصة السيارات المصفحة والدبابات ليست ذات كفاءة في كثير من الأحيان، وعرضة للهجمات في البيئة الجبلية، وتم استخدام المدفعية الثقيلة بشكل مكثف أثناء قتال قوات الثوار" .

وعلي هذا الأساس عمل " زبجنيو بريجينسكي" Zbigniew Brzezinski (1928-2017) مستشار الأمن الأمريكي للشئون الخارجية في عهد الرئيس جيمي كارتر) مع الإدارة الأمريكية لتوريط الاتحاد السوفيتي عسكرياً في الوحل الأفغاني، ولتغدو أفغانستان بالمقابل بمثابة "فيتنام سوفيتية " تثأر فيها الولايات المتحدة من هزيمتها في "فيتنام الأمريكية" بدعم سوفيتى يومها. وهكذا كانت "أفغانستان " الفخ الفيتنامي" للسوفييت فيها، وقد نصبه الأمريكان ببراعة فائقة، حيث كان من الصعب على السوفييت التخلص منه بسهولة بعد وقوعهم فيه" .

كان الدخول السوفيتي في أفغانستان يمثل خطأ جسيماً، حيث اقتصاد الدولة يعاني من مشاكل وآلة الإنتاج متوقفة تقريباً، وفوق ذلك، كان لا بد للغزو الجديد أن ينال من قوات الشعب، وفي الوقت نفسه يستقبل قتلاه. وفي الجانب الأمريكي وحسب ما يقوله بريجنيسكي إنهم "هم الذين غذو نزعة الغزو لأفغانستان لكي يحصدوا ما فقدوه في فيتنام، فكان هناك تحالف بسيط وخفي مكون من الولايات المتحدة والسعودية بأموالها، ومصر في عهد "السادات" بخبراتها وسلاحها السوفيتي، وباكستان بخبرة جيشها التدريبية، فكان هذه المرة قتال المسلمين للكفار الملحدين كما أرادها ( جيمي كارتر) ومستشاره بريجنيسكي. ومن بين آثار دخول السوفييت إلي أفغانستان، تقربهم من باكستان وحصرها بين فكي كماشة مع عدوها التقليدي الهندي. وقد أثار ذلك حفيظة الحلفاء، فهناك حلف هندي- سوفيتي، يقابله حلف صيني- باكستاني، وطلت هذه الحالة عشر سنين كان فيها السوفييت يلوحون بتقسيم باكستان بعد مرارة الإخفاقات التي عانت منها القوات السوفيتية علي أيدي مجاهدين لا يملكون سوي الأسلحة الخفيفة والقاذفات، وصاروخ (سام7) في السنوات الأخيرة من الصراع الدامي بين الطرفين" .

ولذلك وجدنا أنه في غمرة الحملة المعادية للسوفييت، طلبت الخارجية الباكستانية من كل سفاراتها في الخارج بتسهيل دخول الشباب العربي والمسلم من دخول باكستان لـ" الجهاد" ضد الشيوعية من منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً من السعودية، ومصر، والمنظمات الفلسطينية المتطرفة. وأعدت "الاستخبارات الباكستانية بالتعاون مع قادة الأفغان المسلمين ترتيبات استقبالهم، من سكن وتدريب وإلقاء المحاضرات التي تثير فيهم الحماس لحماية الإسلام في أفغانستان" .

كانت الفترة ما بين 1982-1989 مميزة في تاريخ تطوع الشباب، فقد بدأ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة – السعودية، ومصر، وباكستان- في تنظيم حرب المقاومة بمساعدة أمريكية، وتعالت أصوات النظام السعودي، ووسائل الإعلام، والمساجد، مطالبة بمساندة الجهاد ضد الشيوعيين الكفرة ( علي حد تعبيرهم) في كل أنحاء المملكة، في حين لعبت رابطة العالم الإسلامي التي يدعمها السعوديون دوراً رئيسياً في إرسال الأموال. وكانت السعودية والولايات المتحدة هما الممولين السخيين الرئيسيين للحرب وقدم كل منهما نحو ثلاثة مليارات دولار، "وكان الأمير" تركي الفيصل بن عبد العزيز آل سعود " رئيس المخابرات هو الذي يدير التمويل السعودي، وعمل في ذلك من بين كثيرين آخرين مع " أسامة بن لادن"، وهو ابن رجل أعمال ثري له روابط وثيقة مع الأسرة المالكة؛ وكان ابن  لادن الذي استخدم موارده الخاصة لمساعدة المقاومة الأفغانية، من بين أوائل العرب الذين وفدوا للمشاركة في الجهاد، فقد جاء في 1980 واستمر طوال الحرب بأكملها، وإن لاحظ أحد المحللين أن "ابن لادن" زار لندن أيضاً في مطلع الثمانينيات، وأنه ألقي عظات وخطباً دينية كثيرة في مركز "ريجنت بارك" الإسلامي. كما يعتقد أن الملك السعودي "فهد بن عبد العزيز"، الذي تولي السلطة في المملكة في عام 1982، وولي العهد "عبد الله بن عبد العزيز"، قد التقيا ابن لادن ومولاه كما قدمت وكالة المخابرات الأمريكية  (CIA)، أحدث أنواع الأسلحة التي يمكن للأفراد الأفغان استخدامها ضد الطائرات السوفيتية، واعتبرت الولايات المتحدة أن دعمها لأفغانستان هو أفضل فرصة للانتقام من السوفييت ودورهم في فيتنام. واعتبر قادة الـ" CIA، أن أفغانستان ستشكل فيتنام الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي؛ خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي كان يضم ست دول مسلمة في آسيا الوسطي، وللعديد منها حدود مع أفغانستان".

وقد استخدم "ابن لادن" نقوده الخاصة لتجنيد المتطوعين العرب وتدريبهم في باكستان وأفغانستان، وإقامة علاقات طيبة مع قادة أفغان مثل "حكمتيار" و"شاه الدين مسعود"، وغضت المخابرات الباكستانية الطرف عن ذلك، وليس هناك أدلة علي دعم أمريكي مباشر لـ " ابن لادن"، لكن أحد "مصادر المخابرات المركزية ادعي أن مبعوثين أمريكيين التقوا بصورة مباشرة، ولاحظ "جون جولي" الصحفي الأمريكي أن وكالة المخابرات الأمريكية التي كانت منبهرة بوثائق اعتماد "بن لادن" السعودية الخالية من العيوب، أطلقت له العنان في أفغانستان، لتنظيم المقاتلين المتأسلمين" ... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم