قضايا

الدولة الوطنية.. سلطة من القرون الوسطى

نبيل دبابشالدولة الوطنية، من خلال نموذجين هما مصر والجزائر، وليدة فترة الاستقلال الوطني تمثل من حيث الشكل قفزة تاريخية مهمة في تاريخ المجتمعات العربية. انها كيان سياسي جاء للعالم بعد صراع مرير وتخلص من سلطة الوصاية العثمانية ثم الاحتلال الاوروبي بعد نضال دام لعشريات كاملة. ان ما يجمع التجربة المصرية بالتجربة الجزائرية عوامل متعددة وقد تكون متشابهة في الكثير من المراحل. لا يهمنا المسار التنموي والاختيارات الاستراتيجية المنتهجة من قبل السلطة في هاتين التجربتين...بقدر ما سنحاول، على عجالة، تسليط الضوء وكشف ما لم تقله الصورة البروتوكولية او بعض وسائل الاعلام الرسمية التي كرست الكثير من الصفحات والبرامج لتغطية هاته المرحلة من تاريخ الدولتين.

تتشكل السلطة وهي كيان غير متجانس، في كلتا التجربتين، من قادة عسكريين وزعماء بعض التكتلات السياسية والنقابية وشخصيات ممثلة للمجالس المنتخبة، وبعض زعماء العشائر والطوائف او الفرق المذهبية الى جانب كبار الاثرياء.. لا يوجد ما يمكن وصفه بالمعارضة السياسية او النقابية الفعلية، بل يتم تطويع كل الفعاليات الاجتماعية والسياسية  لتصبح من دون تأثير ملموس ولا تشكل اي تهديد للنظام، او استبعادها اذا تعذر ذلك بالطرق البوليسية والقضائية.

يتسم الجو العام بالانغلاق عن العالم وخنق الحريات الفكرية والدينية باعتماد الوسيلة الاعلامية، وبتشريعات يمكن وصفها بالتعسفية ( قانون تجريم الالحاد والمثلية في مصر/ اجراءات بوليسية ضد الفرقة الاحمدية والكركرية بالجزائر ومضايقة الاقلية المسيحية). ومراقبة شديدة على الصحف، الاعلام عموما، والانتقال من ادانة الآراء الى سجن اصحابها.

النظام في كلتا الحالتين مصاب بهستيريا كره الآخر له، وغالبا ما يوظف هاته العقدة في سبيل بسط نفوذه اجتماعيا بين الفئات الاقل نضجا (الخطر الايراني التركي القطري الامبريالي بالنسبة لمصر/ الخطر المغربي الامريكي والارهاب القادم من ليبيا بالنسبة للجزائر).

لا يمكن ابدا تصور وجود سلطة قضائية مستقلة، في كلا التجربتين القضاء هو وسيلة السلطة السياسية للاستمرار وغالبا ما يتم انتقاء ممثليه لا على اساس الكفاءة بل وفق معيار الولاء.

تتخذ القرارات السيادية وغير السيادية من قبل الرئيس، فقط فهو المقرر الاول في البلاد في غياب مؤسسات قوية تسمح باستمرارية الدولة في غيابه، بل في الغالب تسقط جل المؤسسات بمجرد رحيله. فالقرارات الرئاسية مقدسة وفوق الجميع... لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة وغير محدودة. وهو ما يسمى في الاصطلاح السياسي ''بعبودية الشخصية ''، فالرئيس شخص فوق المواطنة وسوبرمان لا تصلح الامة ولا تنجو الا به  وبفضل مواقفه السديدة. وهو ما يكشف الضعف في تصور ممارسة الحكم خارج اطار الرؤية الشمولية، فباسم الدولة الجمهورية تأسست انظمة اوليجارشية  وبسبب احادية التسيير عرفت هاته الانظمة جهاز بيروقراطي يتحكم في كل المؤسسات.

الديموقراطية والتعددية السياسية وحرية الاعلام والحرية الفكرية مفاهيم جميلة ولكنها في هاتين التجربتين نجدها مجوفة من محتواها وهيكل من دون دعامة.. او ديكور لتقديم صورة جميلة للسلطة امام العالم، وهو يخفي من وراءه ذهنيات وكائنات متخلفة جدا.

لا تختلف الاختيارات الاجتماعية للسلطة السياسية – في هاته التجارب - عن اختيارات تيار الاسلام السياسي، فكلاهما يؤمن بنفس الاحكام والبديهيات وعدوهما واحد، هو ذلك ''الاخر الوهمي'' (المرأة / المفكر الحر/الحرية الدينية/ الغرب/ العلمانية لأنها مفهوم ينظر اليه وكانه غول آكل).

في مجال توزيع الثروة، غالبا ما يتم اللجوء الى اسكات الغضب الشعبي ببعض المشاريع او الاجراءات الظرفية (كمسح ديون الفلاحين/ مشاريع مصغرة لدعم الشباب العاطل عن العمل...) ليكون التوزيع الفوقي للثروة بين الكتل المشكلة لكيان السلطة هو السائد، وتعمل اجهزة السلطة على اخفاءه. غالبا ما يتم ذلك وفق مجموعة من التشريعات او القرارات الارتجالية، ولا يسمح ابدا بمناقشة السياسة الاقتصادية للبلاد بشكل علني وبأرقام صادقة.

 

 

في العصور الوسطى الاسلامية (الاموي/ العباسي/ الفاطمي/ المملوكي/ العثماني ...) كانت السلطة – تاريخيا- منقسمة الى قسمين : الخاصة Les particuliers من الناس  في مقابل العامة من الناس  دون الرقيق  la plèbe. فالسلطان والثروة بين ايدي اقلية من الاسر او المقربين من الحاكم، ثم يأتي  قادة الجيش وكبار التجار وبعض زعماء العشائر او الطوائف الدينية، فهي ايضا كيان غير متجانس. ليس من حق العامة من تجار صغار وحرفيين واصحاب مهن او حتى مزارعين، ان تؤمن بغير دين السلطان او الحاكم وليس مسموح لها الخروج عن طاعته ورفض الامتثال لأوامره، ولا ان تفكر في حصتها من الثروة التي ساهمت في اقتناءها او خلقها. بل عليها ان تؤمن وبعمق، بان الامة مراتب ودرجات ولا يحق لها ان تقفز الى مرتبة غيرها.

لامتصاص الغضب الشعبي واخماد نار الفتن التي قد تحدث بين الفينة والاخرى، يلجأ الحاكم او السلطان الى توزيع بعض الدنانير على جمهور الفقراء في المناسبات الدينية او بعد صلاة الجمعة عند باب المسجد، ليدعوا له الناس بطول العمر ودوام السلطان.

الدولة في العصور الوسطى الاسلامية، كان لها ايضا، عدو وهمي يجب تجنيد كل الرعية لأجل التصدي لمخاطره. فهو احيانا الطالبيين/ الخوارج/ الروم/ المغول/ الصليبيين.. ويوظف هذا الوهم اكثر عند تزايد حالات الغضب الشعبي او لاستبعاد خطر بعض المعارضين .

عملت انظمة الحكم - خلال القرون الوسطى الاسلامية- على بناء انساق فكرية مغلقة والتسويق لجهاز مفاهيمي ثابت لا يجوز الخروج عنه في مجال الايمان او الانتاج الفكري، هي الميزة التي اتصفت بها كل مراحل التاريخ الطويل.. العباسي/الاموي. ثم الاموي الاندلسي/العباسي.. الموحدين/ المرابطين.. الصنهاجي/ الرستمي.. السني/ الشيعي. لا نريد ان نتسرع لنلقي بأحكام غير مؤسسة، عندما نقول ان لحظات الابداع الفكري الحر كانت طفرات متفرقة، وغالبا ما لا يذكر المؤرخ خلفياتها الايديولوجية ليقدمها لنا كأجوبة جاهزة لأسئلتنا المعاصرة. وينقل انشغالاتنا الراهنة الى الماضي البعيد لينتقي منه اشباه اجوبة. انها مأساة منهجية غالبا ما يقع فيها المؤرخ الكلاسيكي.

ترتكز السلطة السياسية على المذهبية في تقلد منصب الخلافة والاستمرار فيه ومن ثم توريثه.. هو ما حدث مع العباسيين من خلال توظيف مدرسة المعتزلة ضد اصحاب الجبر ثم القبول – على مضض – بأقوال الأشاعرة كحليف ضد المعتزلة والطالبيين لتأسيس المذهب السني. او ما حدث ايضا مع الفاطميين في مرحلة التأسيس في الجزائر، ثم بعد الانتقال الى مصر...

ان الدولة الوطنية لم تستطع، الى يومنا هذا، صناعة تجربة سياسية حديثة او عملت على تحديث البنى الاجتماعية المتخلفة. بل عملت كثيرا على ابقاء الحال على ما هي عليه...فعلا قامت ببناء مدارس ومؤسسات اجتماعية واقتصادية على الطراز الاوروبي ولكن لم تبني عقلا حديثا لتأطير هاته المنشآت الضخمة. الدولة الوطنية قيادات حكمت مجتمعات وليست مؤسسات ترتكز الى جمهور المنتخبين وتسهر على ضمان قيم المواطنة. الدولة الوطنية هي حاكم مثل دولة الخلافة هي امير للمؤمنين. ان الدولة الوطنية قد تبدو اعلاميا متماشية مع تقلبات العصر، ولكنها تشريعيا وعمليا هي ارادات فردية  قامت بالسطو على مؤسسة السلطة وليس لها ادنى نية في التخلي عن تلك الامتيازات.

لا نرى حلا اكثر جذرية على المدى القريب، لتخطي هذا الواقع المؤلم غير طريق اعتماد انظمة برلمانية بصلاحيات رئاسية محدودة وبمؤسسات مستقلة (القضاء/ غرفة النواب/ المجالس الاقتصادية والاجتماعية...)... يجب ان يخصى الفحل لأنه طغى وتجبر وصار خطرا على القطيع. ان انظمة الدولة الوطنية ليست سوى استمرارية تاريخية للحاكم الشرقي المستبد، ولم تقدم الى المجتمعات ادنى الحلول في مجال التنمية المطلوبة.

لقد صنعت الدولة الوطنية مجتمعات عاجزة على ان تقدم بمفردها ابسط الحلول لمشكلاتها اليومية. بل اسهمت في صنع مجتمعات '' الاكثر تخلفا '' في العالم. لقد استفادت من سنوات طويلة ومدة زمنية كافية دون ان يكون همها الرئيسي هو تغيير الواقع المؤلم لمجتمعاتها.

لا نريد ان نجزم، بان الكثير من المجتمعات العربية كانت تتوفر على مجموعة معتبرة من المثقفين من ذوي التكوين العالي والنوعي في مراحل السيطرة الاستعمارية، للأسف لم يبق منهم من يمكن الاعتماد عليه اليوم، وليس في مستطاع الدولة الوطنية تعويضهم بفئات مثقفة قادرة على تحريك عجلة التنمية.

المجتمعات الذكية هي التي تحسن استغلال فرص التقدم وتستفيد بذكاء من تجارب اعداءها في صنع واقع جديد يحقق لها السيادة الفعلية. مشكلة المؤسسات العربية انها لا تثق حتى في اصدقاءها وتجرّم الكل لتنتهي الى المزيد من الانغلاق، وتعلم الناس ان الدعاء هو افضل الطرق لمجابهة تحديات العصر.

الى من توكل المهمة القادمة، ذلك هو السؤال العقدة ؟ هل تتوفر النخبة المثقفة على الوسائل والدعم الشعبي لتقديم حلول عملياتية، وهل هي تمتلك الحلول ام منغمسة في قضايا هامشية. هل يوجد طبقة سياسية او اجتماعية لديها من المؤهلات ما يسمح بالتنبؤ بغد افضل قد تصنعه ؟. هل يمكن ان نثق في الايديولوجي الديني وهو الذي يتحمل الجزء المهم من تخلفنا وتشويه صورتنا في العالم، وبسببه صار العربي مرادفا للقاتل والسفاح والخطير اجتماعيا.

التشاؤم ليس مخرجا للازمة، والصمت امام الازمة او تبسيطها ليس حلا...النقاش مفتوح، للعقول النيرة ان تقدم اضافات او تصحح ما تراه اخطاء في التصور ...نحن  مؤمنون بان الحل يصنع تدريجيا، بالرغم من كون التاريخ البشري صار لا ينتظر من تخلف عن الركب...نخشى ان نختفي من على الخارطة ولن يذكرنا احد.

من المؤسف اننا لم نرث عن ماضينا غير عقدة الانغلاق والخوف من التجربة والمغامرة، وتجاهلنا عن قصد، كل جهود الانفتاح على ثقافة الاغريق والهنود والفرس....و روح التعلم منهم من دون ادنى شعور بالنقص.

قوة المجتمعات هي، عندما يقرن الحديث عنها بالحديث عن منجزاتها، من المؤسف اننا في هاته الحالة لا نحسن غير الفرار من السؤال او طلب النجدة من ماض بعيد لتكميم افواه ساخرة من غباءنا.

 

نبيــل دبابــش.  كاتب من الجزائر

 

في المثقف اليوم