قضايا

نحو وطنية روحية

مجدي ابراهيمالوطنية المادية: حدود جغرافية ومعالم تاريخية في بقعة مكانية واحدة، يشترك أفرادها وجماعاتها في انتماء حضاري واحد وتراث ثقافي واحد، وإنْ تعدَّدت وجوه التناول له وأساليب الانتماء إليه. وإنها لكذلك (أي الوطنية المادية) قيود ترابية وأوهام بشرية لا معنى لها ما لم تزكيها الوطنية الروحية التي هى آفاق بعيدة ومديدة تسبح فيها أرواح البشر - لا أوهامهم !- لتجد في هذا الوطن العلوي عزاءً لها - كل العزاء - عما كانت فقدت من المعالم والحدود في الأوطان المادية.

أَلَاَ .. فلتكسر القيود صاعدة إلى أجواء الروح لتتغذى هنالك بــ "الطاقة الفاعلة"، حتى إذا ما عادت إلى أوطانها المادية، عادت ومعها الذخيرة الباقية من قوة لا مثيل لها ولا وجود في جوف التراب، ولا من صنع التراب، ولا من همم التراب -  فيما لو صّحَ أن تكون للتراب همم مجازاً لا حقيقة فيه - لتنطلق بعد العودة إلى تمزيق القيود وفك الأغلال واستقرار الأمان بعد طول الحيرة المنكوبة البالية وطول التشتت والانقسام.

لا معنى للوطن المادي إذا قيس بالوطن الروحي الذي تقطنه تلك النفوس الشاردة بغير هدف يحكمها ولا مأرب يصون كرامتها بين الأحياء؛ فإن هذا الوطن المادي وطن تسكنه الأجساد ويعترف بحق الجسد وحدوده ومتطلباته وبكل ما له من حقوق في هذه الحياة؛ فأنت تسكن وطنك الذي له انتمائك وعليه تحفظ هويتك، ولكنك قد تسكن هذا الوطن وتنْعَم بكل ما ينعم به أصحاب الأوطان، ومع ذلك فأنت أول الشاعرين بالغربة فيه، ولأنك لا تجد تفسيراً لذلك مهما جهدت نفسك في التأمل والبحث، فلا مناص -  من أجل هذا - من التسليم بأنها بالضرورة "غربة روح"، لا غربة جسد، غربة فكر، وضمير، وثقافة، وقيم، وتزكية اتجاه، وليست هى غربة أماكن وجدران ووجوه ومتاع وألفة أليفة بين الأشخاص والأنداد والقرناء.

ففي الوطن المادي قد تكون الغربة مألوفة فيما لو وَجَدَتْ الروح موطنها، واستقرت على النحو الذي تتآلف فيه الأرواح على الود والتواصل والمحبة والإخاء الروحي الذي تتآزر معه الروح في غير تنكر مع الآخرين. لكن الوطن الروحي هذا مفقود بالقياس إلى الوطن المادي؛ فليس أقْسى ولا أشق على نفس المواطن من أن تغترب روحه في وطنه الذي تربى على أرضه وانتمى إليه ورضع حتى الثمالة من ذلك الضرع النابت من طين بلاده، حتى إذا ما عزَّت عليه وطنية المادة، هجر الوطن المادي إلى حيث ملاذ الروح الأخير.

هنالك تجد الروح في هجرتها مأوى بعيداً عن الأوطان، بكل ما لهذه الأوطان من مفهوم مادي، وبكل ما لهذه الأوطان من تضييق على ألطف لطائف الإنسان: روُحه التي تكاد من لوعتها تختنق؛ فحين يجد الفرد في وطنه كل ضروب الفقر والفاقة وكل صنوف البؤس والشقاء ومقاساة الحرمان من أبسط حقوقه الوطنية: كرامته، يفرُّ هارباً من وطنه المادي إلى وطنه الروحي؛ فلا غربة مع الروح إذا هو وجدها، ولا نكوص أو تسليم يتغشى هذه الروح إذا هى عَرَفَتْ موطنها الأمين.

لكن الخطورة .. كل الخطورة: أن تشعر الروح هى كذلك بغربتها؛ فلا تجد لها مأوى ولا تعرف لها موطناً ولا مستقراً تستقر فيه كما يستقر الطالب لوطن يأوي إليه.

أظنُّه أبو حيان التوحيدي هو أول من قدَّم في تراثنا الفكري العربي الإسلامي في القرن الرابع الهجري من خلال كتاباته وأهمها كتابه:"الإشارات الإلهية" فكرة الغربة الروحية، حالة شعورية تضطرب في نفس صاحبها، حين عانى من ألوان الفقر والفاقة والبؤس والشقاء والحرمان ما عاناه في حياته، وحين رأى ارتياد الجهلة والتيوس لأعلى المناصب، لدرجة أنهم تقلدوا مناصب الوزارة في زمانه، وبقى هو رغم ذكاؤه الخارق في محيط النكران! فهو يقول في عبارات أخاذة بفيض العاطفة ودفقة الشعور الباطني:" قد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشرِّيب (أي النديم)، بل الغريب من نُودىَ من قريب، بل الغريب مَنْ هو في غربته غريب"..

ويتابع التوحيدي عباراته الصارخة بجذبة الروح نحو عالمها العلوي قائلاً:" بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له في الحق نصيب .. يا هذا! الغريبُ الذي لا اسم له فيُذكَر، ولا رسم له فيُشهر، ولا طيَّ له فينشر، ولا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب له فيُستَر .. وأغربُ الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البُعَدَاء من كان بعيداً في محل قُرْبه..." (أ.هـ).

صرخاتُ عميقة شاحبة تعزف على وتر القلق والتوتر ألحاناً سرمديَّة، فلا يستقر أنينها إلا حين تلتمس موطناً كُليَّاً عاماً روحياً، وإنْ كان صاحبها غريباً:" لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهبِّ أنفاسه": غربة روحية في أوطان ماديِّة تُقلق الروح فلا تستقر في أجساها أبداً، بل تتململ، فلا تلوذ بغير ملاذها الأمين في قرارها الأخير.

" بل الغريب مَن هو في غُربته غريب"..!!

هذه غربة روح لا غربة جسد ..! هذه الغربة هى أولاً: شعور يستشعره الغريب الذي صارت الغربة نفسها في حقه غريبة عنه؛ ذلك لأنه أرتفع فوق معنى الغربة عن الوطن إلى معنى الغربة عن الغربة نفسها بعد أن صارت الغربة نفسها في حقه وطناً له. وهذا يؤذن بأنه في حركة متطورة ديناميكية مستمرة أو في حالة "عروج روحي" دائم؛ لأنه إنْ عاش "حالة" واستشعر كل معناها، أرتفع فوقها إلى مقام آخر؛ لأن الاقتصار هنا والتوقف يؤدي إلى الركود، والركود يؤدي إلى السكون، والركود السُّكوني هو والوطن المادي سواء.

ومن المتَوقَّع أن يصير الوطن المادي إلى سكون أو يصير الجسم الذي يسكن هذا الوطن المادي إلى ركود سكوني، لأنهما (الوطن المادي والجسم) في سكون بالفعل: سكون لا حركة فيه ولأن الوطن المادي لا يخضع لعوامل الحركة والفاعلية بمعناها الروحي المتطور؛ إذْ الروح هى التي تتحرك بداية ثم يجيء الجسم تابعاً لها في الحركة؛ وإذا ما تحركت الروح إلى حيث موطنها المقصود لم يعد الشعور بالغربة شيئاً ذا بال؛ لأنه في هذه الحالة سينتقل من الشعور المادي بالغربة إلى الشعور الروحي بها، فشعور الروح الذي لم يَعُدْ مقصوراً على الوطن المادي هو الذي يصبح أمراً ليس بذي شأن.

وهذه الغربة هى ثانياً: قد تستحيل بالفعل إلى استيطان، والاستيطان نوعُ من الوطن الثاني الذي يفوق الوطن الأول، لهذا كان على "التوحيدي" تعبيراً عن هذا الاغتراب، أن يعلو على الوطن الثاني وهو الغربة، فيصبح غريباً فيه، فيكون غريباً في الغربة نفسها.

فالغريب في الغربة نفسها غريب عن روحه، عن وطنه الكلي، عن حقيقته الأصليّة وهويته الحقيقية.

إنما التعبيرُ عن هذا المعنى، لمفهوم الغريب يكمن - كما يرى عبد الرحمن بدوي في مقدمة "الإشارات"، وفي تعليقاته على كلام التوحيدي هذا - في العلاء والتطور الديناميكي والحيوي، فالغريب هو الذي قد صار غريباً في وطنه، فاستحالت (أي تحوَّلت) معه الغربة إلى استيطان، وذلك هو أغرب الغرباء؛ لأنه بعيد في محلِّ قربه، فالغربة إنما تأتيه من باطنه، إذْ عليه أن يسلو عن الموجود، والموجود هنا يشمل كل شيء: الموجود بالمعنى المادي. والموجود بالمعنى الروحي. والموجود بالمعنى الميتافيزيقي.

يسلو عن الأول: بالزهد عن الحياة والعزوف عن الدنيا. ويسلو عن الثاني: بالعلاء المستمر في معراج التطور الروحي. وفي هذا المعنى الثاني يتجلى الطابع الحركي الديناميكي الذي يميز تحليل التوحيدي لهذه الأحوال الوجودية الممتازة الخاصَّة بالغريب.

ويسلو عن الثالث: أي المعنى "الميتافيزيقي"؛ عن طريق تأمل فكرة الفناء: الفناء الفردي على هيئة الموت للأحياء، والفناء العام على هيئة الانطواء للوجود الكلي في حضْن الوجود الواحد، الشامل، الوجود الكوني الذي يصل إليه بمعراج الروح.

والغريب بهذه المعاني عند التوحيدي كائن يعلوه الشحوب ويغلبه الحَزَن، فهو كما يقول عبد الرحمن بدوي، وذلك حين يخرج فكرة الغريب تخريجاً وجودياً بحتاً، أي النموذج الأعلى للوجوديِّ الحق. فهو "مَنْ إنْ حَضَرَ كان غائباً، وإنْ غاب كان حاضراً".

على أننا لا نجرى مجرى الدكتور بدوي في تخريجه لفكرة الغريب عند التوحيدي تخريجاً وجودياً محضاً وكفى، بل نجرى الفكرة هنا لتكون هُويِّة حقيقية بانتماء الكائن إلى أصله، إلى وجوده الروحي الكلىِّ العام، وهو وجود أصلى، باحثاً عن وطن شامل يضمُّه غير هذا الوطن المادي.

فلم يكن التوحيدي في تلك الصرخات المتوالية وجوديّاً فقط بمقدار ما كان يرمي إلى التخلص من الوطن المادي بكل علائقه وأغياره، وإلى التخلص من كل وطن مادي لا تجد الروح فيه مثواها الأخير: روحيتها، وحقيقتها الأصلية؛ لأن الروح الموصوفة بالتطور في الحركة، والتدرج في العروج إلى حيث بغيتها، وبغيتها معرفة حقيقتها الأصلية وموطنها الكلي، فلا تشعر مطلقاً بغربتها، لهى هى روح لا تبتغي الاستقرار الآمن في وطنها المادي، ولا حتى وطنها الروحي على السواء، وذلك لأنها تحيا حالة من"العروج" الدائب الواصب المستمر بغية اكتشاف حقيقتها الأصلية.

ومن شأن العروج وحده أن يجعلها في "توتر" دائم وفي ربكة جوَّانيَّة لكنها ربكة جُوَّانيِّة علوية أو بالتعبير النبوي يجعلها في حالة "غَيْن باطني". بيد أنه " غين أنوار" لا "غين أغيار"، ويلزم عن غين الأنوار "توتر"، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول:" إِنَّهُ ليغَانُ عَلَى قَلْبِي فَاسْتَغفر الله فِي اليَوم سَبْعِيَن مَرَّة"؛ أتراه يستغفره من "غين الأغيار"؟ لا والله، بل من "غين الأنوار". غين الأغيار: علائق مادية وكزازات نفسانية تستشعرها الروح على الدوام حين تغترب عن وطنها المادي. وغين الأنوار: علوي هو؛ فيه تتوتَّر الروح لأنها في حالة عروج دائم، لكنها وإنْ كانت تشعر على الدوام بغربتها، فلن يزول عنها شعور الغربة هذا ما بَقَيَتْ تحت وطأة الأجساد. وبفراق الجسد للروح تتحرر من حَبْسها فيه، فتتحرر تباعاً من الغربة؛ فإن الشعور هنا بالفناء يعطي الروح نوراً لترى ما لم تكن تراه وهى حبيسة في أخلاط الكثافة الظلمانية (= غين الأغيار بالتعبير النبوي): كثافة الأجساد التي كانت تعيق رؤيتها وتحيطها بالغشاوة والحجاب. هذا الذي أوجب رسول الله؛ صلوات ربي وسلامه عليه، منه الاستغفار لأمته. أما استغفاره هو؛ فمن "غين الأنوار" لا من "غين الأغيار"؛ لأن هيئته ليست كهيئة أحد غيره.

وإذا شئت فانظر في الحديث الشريف من أنه كان، صلوات الله وسلامه عليه، يواصل الصوم؛ فأراد أصحابه عليهم السلام أن يواصلوا مثلما كان يواصل، فشق عليهم مواصلة الصوم، فننهاهم عليه السلام أن يواصلوا، وقال قولته الشريفة:" إنِّي أبيتُ عند رَبِّي يطعمني ويسقيني". وفي معناه أيضاً:"إنَّ لي هيئةٌ ليْسَتْ كهيئتكم"؛ فمن المؤكد أن هذه الهيئة النبوية المباركة لها استعداداتها التي لا تتساوى معها استعدادات أحد غيره، ولو كان هذا الغير من صحابته عليهم كرائم الرضوان، فهو يستغفر من غين الأنوار، وهو يواصل الصوم؛ لأنه يبيتُ عند ربه يطعمه ويسقيه، وليس من حق أحد في خصوصياته مع ربه - صلوات ربي وسلامه عليه - أن يستوي معه.

بالطبع؛ لم يكن مقصد التوحيدي هو هذا الذي عرضناه، وإنما الذي عرضناه هو تخريج فكرة التوحيدي في الغربة خلافاً للتخريج الذي أعتمده الدكتور بدوي: تخريجه كان وجودياً فلسفياً بحتاً، وتخريجنا صوفياً روحياً في الأساس. على أن المرء لم يفقد شعوره بالغربة إلا بالموت؛ فلئن كان الشعور بالغربة هنا "حالة من العروج الروحي"، فهو في الحقيقة شعور - مجرَّد شعور-  لم يتحقق إلا بالموت. هذا الذي من شأنه أن يقهر شعور الغربة كما يقهر كل شعور سواه، لكن الشاعر بغربته مادام على قيد الحياة يحيا "الحالات الروحيَّة" ويعيش شعورها النابض وحساسيتها المفرطة، ويتذوق ما فيها من صنوف القبض والبسط، والشدة والرخاء، والخوف والرجاء، والطمأنينة والاضطراب؛ فهو إلى الشعور بالغربة، وإلى العروج صعداً في منازلها، أقرب منه إلى الاستيطان في موطن يؤويه، حتى ولو كان هذا الموطن روحياً فضلاً عن كونه مادياً.

هذه هى الفكرة التي أردتُ أن أعرضها حين جعلت عنوانها:" نحو وطنية روحية"؛ قياساً على واقع الوطن العربي وتطبيقاً للرؤية الشاهدة عليه الآن: لنتخيل أنفسنا جميعاً ذلك الرجل الشاعر بالغربة، أبو حيان التوحيدي؛ فلا الوطن المادي يؤويه، ولا الوطن الروحي يجد لنفسه مكاناً فيه، ولننظر إلى واقعنا الراهن المسلوب أمام الأبصار التي ترى والآذان التي تسمع، ونحن في موقف الذلة والمهانة والنكوص والتردي والانبطاح، لا نقدر عن الدفاع عن أوطاننا المادية ولا نستجيب لنداء الوطن ولا لشعور الوطنية فينا، ثم إننا لسنا من هؤلاء الفارين من وطن إلى وطن، ولا من هؤلاء الذابِّين عن أوطاننا طمعاً في ملاذ سواها: هنالك في دنيا غير الدنيا وفي عالم غير العالم.

شعورنا الدائم بالغربة عن الوطنية المادية هو أحوج ما نكون إليه تعزيزاً للفرار منه إلى الوطنية الروحيّة، حتى إذا ما أكتمل لدينا شعور "الاستيطان الروحي" عدنا إليه ثانيةً أقوياء قُدَراء. ففي هذه الآونة ترانا نتخلى عن"الوطنية المادية" رغماً عنا، وعن إرادتنا؛ لأن هذه الإرادة مسلوبة منا شئنا أم أبينا. وما يحدث اليوم في فلسطين والعراق من الكتلة العربية، وما سيحدث غداً من زيادة التفكك العربي، يشهد على ذلك أكبر الشهادة؛ فالشعور الدائم بالغربة إزاء ما يحدث لا يعالجه فقط العتاد المادي ولا الوسيلة الكلامية، ولكن أيضاً يعالجه "العمل" الذي تذكو فيه رائحة"الاستيطان الروحي"؛ كيما نبحث عن أرواحنا داخل أجسادنا علنا نجدها يوماً مع شدة الفقدان.

صحيح أننا ندافع بقدر المستطاع عمَّا هو مسلوب منهوب مستباح للآخرين من أوطاننا ومواردها، وبلادنا وخيراتها، وقيمنا وحضورها فينا، ومبادئنا وكرامتها، ولكننا مع هذا ندافع غير أنه دفاع المنكسر الذليل، ذلك الذي لا يجد مفراً من الدفاع يُسَاق إليه مُكرَهاً على غير إرادة منه وعلى غير اختيار. لكنه يدافع .. وشتان بين دفاع القوى المريد ودفاع المهين الذليل .. شتان!

دفاع الذلة والمهانة إنما هو دفاع العجز والغربة وشعور الذات في باطنها بالاغتراب. ودفاع القوة والإرادة إنما هو دفاع القوة الباطنة تمليها حيوية الروح وشعورها الدائم بأنها وجدت موطناً تأوي إليه إلى حيث يستقر الروح فيها قرارها الأخير ولو على سبيل الشهادة. إنما الغربة للروح في عجزها وضيمها وقلة حيلتها؛ فلم تعد تجد "الوطن الروحي" بعد أن سلبها الناس ذلك الوطن المادي، ففقدت الاثنين معاً أو كادت. فإذا هى تعزَّت؛ وفي العزاء سلوان، قالت: إذا كنتم سلبتم عنا أوطاننا المادية فنحن فيها غرباء أو نكاد، فلن تستطيعوا قيد أنملة أن تسلبوا عنا أوطاننا الروحية التي هى ملاذنا الأخير، ليس لنا غيرها نعتدُّ بها ونأوي إليها وننقاد!

لكنما هذا العزاء إذْ كان عزاء العاجز الضعيف، لا يشفي غُلّة الشوق نحو "الوجد" بعد "الفقد"، ولا هو يكون عزاءً على الحقيقة ما لم يصحبه بناء للإرادة: أعني الإرادة الفردية الخاصة، ثم إرادة المجموع على التعميم، ومن الإرادة تجيء القوة، ومن القوة النصر المؤزر الذي يُشفي الغُلّة ويطفئ سعر الاغتراب شعوراً لدى مَنْ فَقَدَ الوطن وهانت عليه ألوان المتاع - كل المتاع - لكنه لم يفقد مطلقاً ذلك "الوطن" الذي تأوي إليه روحه فتستريح، ويسكن إليه قلبه فيجود ويطيب؛ إذْ تغمره الإيمان ثقة بالله في أنه منصورٌ لو أراد، ثم يخلد إليه ضميره فيعلوا على قطيع الجماعات ويعرج بروحه صعداً في طراز فريد يعلو على أوهام الناس من هنا ومن هناك، ليقدِّم البقية الباقية قرباناً إلى خالقه، حين يؤمن بأن الدفاع عن "الوطن" من أخص خصائص الإيمان بالله.

وتبقى الوطنية الروحية بعد ذلك من أجَلِّ الأفكار وأرشدها إلى تقدير الأمم الأخرى: ثقافتها وحضارتها واتجاهات التفكير فيها وإشاعة السلام فيما بينها وانتشار التسامح بين أبنائها؛ وذلك لأن هذه "الروحيّة" ليست ملكاً لأحد - كائناً ما كان - ولا هى مقصورة على شعب دون شعب، ولا أمة دون أمة، ولا عقيدة دون عقيدة، ولكنها ملك الإنسان في كل زمان ومكان؛ لأنها "ذوْق" رفيع مشترك بين جميع الأمم والحضارات والثقافات. غير أن هنالك "مضمون" يحكمها تستقر عليه، وإني لأعني "بالمضمون" هو ذلك التراث الثقافي والحضاري الخاص بالمصدر الداخلي الذي تستقي منه جماعات بشرية معينة مواردها الثقافية والروحيّة بعيداً عن الأفكار المنقولة والآراء المستوردة من ثقافات الآخرين؛ فما يُقال عن مضمون الثقافات اليونانية والأوربية مثلاً ليس هو ما يُقَال عن "مضمون" الثقافات الإسلامية، ولكن يبقى الذَوْق المشترك في توجهات الروح الإنساني، لو أننا قطعنا النظر بعيداً عن "المضمون"، ونظرنا فقط إلى "الروح الإنساني العام"، إذْ ليس من مصلحة الإنسان بصفة عامة أن يصرف النظر عن تلك "الروح العامة"، فينقطع بتلك النظرة القاصرة مثل هذا التحاور البناء الذي يخدم الإنسانية ثم يتفشى للأسف مع الانقطاع كل عامل هادم للإنسانية. ويكفى أن نتذكر دعائم "الإرهاب" من أين جاءت؟!

ويكفي أن نرى الآن صراعاً دائماً تعزِّزه المصالح لا ينقطع بين الإمبراطورية الأمريكية وإسرائيل من جهة، وبعض دول العالم في الشرق والغرب من جهة أخرى، أو إنْ شئت قلت: صراعاً تفرزه علاقات الغرب بمنطقة الشرق الأوسط على وجه العموم؛ فلم يكن هذا الصراع المنشوب دوماً إلا لسقوط القيم وغيابها عن واقعنا الفعلي سياسياً كان أو ثقافياً أو ما شئت أن تضيف من واقعات الحياة الفعلية، وإلا لإهمال تلك "الوطنية الرُّوحيّة" التي لا قرار لها إلا "الروح الإنساني العام" . يكفي أننا نطلب التسامح والسلام والتواد والوئام والمحبة وعدم تحقير الآخرين والتعاون معهم ومحبتهم ... نطلب ذلك كله من هذه الفكرة العالمية التي تخدم روح الفردية في هذا الوجود فضلاً عن خدمتها لروح الجماعة البشرية، وتنعكس بالإيجاب عموماً على مصلحة الإنسان.

وعليه؛ فالذين يطالبون بتحقيق السلام على أرض الواقع وإشاعة التسامح بين أبناء العالمين، هم أكثر الناس إنسانية، وأشدَّهم محبة للآخرين، وأقواهم في الحقيقة على التفاهم، وأقدرهم على إقامة حوار هادف بناء.

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم