قضايا

في التوثب لثقافة

محمد الدعميلقد تجايل إحياء الروح الإقليمية وما تبعها من إنتشاء للقبيلية والأسرية مع تزايد الشعور المحبط المؤلم بعدم إمكانية اللحاق بركب التقدم التقني والتجديد الذي أنجزه الغرب. وقد أدى هذا الشعور الموجع بالفجوة الثقافية والحضارية التي يصعب تجسيرها من قبل العرب

ليس من الممكن لمؤرخ الأفكار، عندما يحاول تتبع تطور الثقافة العربية ورصد تاريخها الحديث عبر القرن العشرين، أن يفلت من ملاحظة عدد من العوامل التشكيلية التي أسهمت إلى حد بعيد في صيرورتها على النحو الذي نتلمسه اليوم ونحن في الأعوام الأولى من الألفية الثالثة. وإذا ما تعمد المرء إجراء مسح وسرد للعوامل المتنوعة التي وقعت الثقافة العربية تحت وطأتها عبر القرن الماضي، فإنه، لا ريب، سيتمكن من تشخيص عدد لا بأس به من هذه العوامل التي يمكن، لأغراض الرصد والتحليل، أن يحصرها تحت مظلتين أساسيتين: أولاهما عوامل طموح وتقدم؛ وثانيهما، عوامل إحباط ونكوص.

إن توصيف وتحديد النوع الإيجابي الأول لابد أن يؤول بالمتتبع إلى ملاحظة آثار حركة النهضة العربية (التي تمتد جذورها الأولى إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، حيث تجلت إرهاصات المشروع الثقافي النهضوي في بدايات القرن العشرين برغبة قومية عفوية عارمة بإتجاه ما يسمى بـ”اللحاق بركب” الأمم المتقدمة و “مواكبة العصر”.

أفرز الاحتكاك الثقافي بأوربا (الذي تجايل مع، ثم تلا حملة نابليون بونابرت على مصر ومع الإحتلالات والوصايات التالية لها) نوعاً من التمرد الثقافي العربي ضد الأنماط والصيغ الثقافية المتحجرة التي توارثتها مما يسمى بالعصر المظلم ابتداءً من أواخر النقاط المضيئة السابقة لحقبة التراجع والنكوص (يذهب البعض إلى تحديد هذه النقطة التاريخية المحبطة بسنة 1258م: سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان) إذ لم تنجلِ هذه المرحلة المظلمة حتى بدايات تواهن الإمبراطورية العثمانية وبدايات تصاعد التطلعات والتنافسات الإمبراطورية الأوربية صوب الأقاليم العربية المهمة جغرافياً والواعدة اقتصادياً. إذا ما كانت الثقافة العربية طوال قرون الحقبة المظلمة أعلاه منهمكة باجترار وتكرار علوم القدماء التقليدية دون القدرة على التجديد والإبداع والاجتهاد، فإنها في القرن العشرين، وبعيد اطلاع أساطين النهضة على الثقافة الأوربية، راحت تهشم قوقعتها المتكلسة عبر القرون لكي تكسرها حتى تولد من جديد، فاتحة آفاقاً جديدة وسالكة سلوك محاكاة الثقافة الأوربية، أي تلك التي إنعكست، على سبيل المثال لا الحصر، في محاكاة الأنواع الثقافية والأجناس الأدبية الشائعة في أوربا، من موضوعات الفلسفة والسياسة حتى الأشكال الأدبية الحديثة كالرواية والمسرحية والشعر الحر والقصة القصيرة والمقالة وغيرها.

لذا لا ينبغي أن تفوتنا ملاحظة تبلور “الوعي بالثقافة القومية” لأول مرة في تاريخنا الحديث، تحت طائلة عوامل عديدة منها تطور الوعي القومي في المانيا وإيطاليا وإنتهاج العثمانيين سياسة التتريك الشوفينية على حساب العربية وثقافتها. والمقصود هنا، بدقة أكثر، هو ذلك الفصل ما بين الثقافة القومية والثقافة الدينية: فعبر القرن التاسع عشر، خاصة تحت ظل الدعوة الحميدية القوية لما يسمى بـ”الجامعة الإسلامية”، لم يكن هناك ثمة فصل واضح المعالم ما بين العواطف القومية والعواطف الروحية الدينية. كان لسياسة “التتريك” آنفة الذكر، التي اتبعتها جماعة “تركيا الفتاة” والتي أصر عليها “حزب الاتحاد والترقي”، أثراً معاكساً على الوجدان العربي نظراً لرغبة النخب التركية في إحياء النزعة الطورانية الشوفينية.

لهذا السبب شهدت بدايات القرن العشرين تزايد مشاعر الاعتزاز باللغة العربية وتعاظم العناية والاهتمام بموروثها الثقافي المسجل والمتداول شفاهياً، ليس فقط على أيدي الباحثين العرب، بل كذلك على أيدي كبار المستشرقين الذين لعبوا دوراً لا يستهان به في التنقيب عن كنوز التراث العربي وإماطة اللثام عن قيمتها بواسطة تحقيقها ونشرها.

إن عوامل الإحباط والنكوص عديدة ومتنوعة. وقد لعبت هذه العوامل أدواراً لاجمة في إعاقة عوامل التقدم والتجديد، وفي الحد من آثارها التنموية والإيجابية. ويمكن مراجعة بعض هذه العوامل السلبية من خلال ملاحظة مقاومة وتراجع الروح القومية المتفتحة والواسعة إزاء بروز ولاءات طارئة، إقليمية مجهرية أحياناً. لقد تجايل إحياء الروح الإقليمية وما تبعها من انتشاء للقبيلية والأسرية مع تزايد الشعور المحبط المؤلم بعدم إمكانية اللحاق بركب التقدم التقني والتجديد الذي أنجزه الغرب. وقد أدى هذا الشعور الموجع بالفجوة الثقافية والحضارية التي يصعب تجسيرها من قبل العرب، على نحو شمولي متسق ومتجانس، إلى طغيان تيار ثقافي “محاكاتي” رمى بنفسه في أحضان اليأس من “الأصالة” منتقياً طريقاً ذيلية وإقليمية تحاكي الثقافة الغربية بتعامٍ على سبيل تتبع خطاها دون أن يأبه هذا التيار بالمحلية وبقوة الجذب الداخلية. وهذا ما يفسر تعاظم ظاهرتي الماركسية والوجودية غير المرتكنتين إلى فهم وإدراك كافيين خلال عقدي الخمسينيات والستينيات (القرن العشرين) في الثقافة العربية.

كما أن هذه الحال تلقي شيئاً من الضوء على ظاهرة بروز نخبة خريجي الجامعات الغربية من حملة الشهادات العليا الذين تسلحوا بطرائق البحث العلمي الموضوعي وبأساليب وآليات التفكير الغربي الفوقي في معالجة قضايا محلية.

لقد عاد هؤلاء الأكاديميون إلى مجتمعهم العربي محملين بمشاعل علمية مفيدة، ولكنهم غالباً ما وقعوا في شرك يتمثل في إنهم شعروا بشيء من الفوقية في تعاملهم الدوني مع الواقع العربي المعقد. لهذا السبب سقط هؤلاء في دائرة مسحورة تجعل منهم “رسلاً” للمعرفة والاستنارة في مهاد واقعي محلي يكتنفه الغموض. بيد أن هذا الأمر لا ينفي الفوائد الجمة التي حصدتها ثقافتنا من هذه التيارات الوافدة، بوصفها أدوات استفزاز فكري وجدلي مساعد على التفاعل الذهني.

ولكن تبقى الملاحظة الأساس والمثيرة للهواجس متمثلة في “مسلسل الفقر التنموي”، كما يسميه أحد الكتّاب الأوربيين، الذي نال كثيراً من أنشطة الثقافة العربية خلال القرن العشرين: وهو “الفقر” المتجسد في تلك الفجوة الثقافية المتعاظمة بين الثقافتين الغربية والعربية التي حاول الكثير من أصحاب الأقلام تجسيرها، برغم تعاظم وتسارع اتساعها ما بين بدايات القرن العشرين ونهاياته.

لقد شهدنا اضطراد استثمار الثقافة الغربية لما أوتيت به من قدرات تقنية وتراكم معرفي على سبيل تفجير ثورة المعلومات والاتصال وتوظيف التقدم التقني في خدمة البحث العلمي والتطوير والتنمية الثقافية.

إن أقوى قوتين فاعلتين تمكنتا من التأثير على الثقافة العربية وتشكيلها على النحو الراهن خلال الحقبة الماضية هما: عبء الماضي، والاستجابة لتأثير الثقافة الغربية.

 

ا. د. محمد الدعمي - كاتب وباحث أكاديمي عراقي

 

في المثقف اليوم