قضايا

بساطة العلم.. قوة تنبؤية أم قوة تفسيرية؟

محمود محمد عليشهدت كتابات معظم فلاسفة العلم المحدثين والمعاصرين سؤالاً مهما وهو: "ماذا نفعل حين نجد فرضين متنافسين علي تفسير نفس الوقائع، وفي نفس الوقت يحققان الشروط التي وضعها فلاسفة العلم، والتي تنص علي أنه إذا كان هناك فرضان قابلين للاختبار، وكان احدهما ذا عدد أكبر من الوقائع القابلة للملاحظة المستنبطة منه عن الفرض الآخر فإنه يقال حينئذ إنه ذو قوة تنبؤية أو تفسيرية أكبر؛ فأيهما يختار العلماء؟"

الحقيقة أنه إذا حدث ذلك فإنه يتم اختيار الفرض الأبسط وفي هذا يقول هيوإل".. في حالة حدوث تنافس بين فرضين علي تفسير نفس الوقائع، وفي نفس الشروط، فإنه يتم اختبار الفرض الأبسط"؛ ويقول أيضاً " كل الافتراضات الإضافية تميل نحو البساطة والتناغم".

ويمكن أن نضرب مثالاً لذلك بفرضي بطليموس وكوبرنيقوس، حيث قصد كلاهما تفسير الوقائع الفلكية نفسها، وطبقاً لبطليموس كانت الأرض هي مركز الكون والأجسام السماوية تدور حولها في أفلاك ويتطلب وصف هذا التفسير هندسة شديدة التعقيد خاصة بالاهليجيات . بينما طبقاً لفرض "كوبرنيقوس"، فإن الشمس بدلاً من الأرض هي التي في المركز والأرض نفسها مع الكواكب الأخري تدور حول الشمس، ولقد أدت النظرية الكوبرنيقية إلي الدوائر المشتركة في المركز كوصف هندسي للحركة الكوكبية التي تناظر وصفاً تحليلياً بواسطة دلائل مفردة في حساب المثلثات . ومن المؤكد أن هذا الوصف كان أبسط من الوصف الذي قدمته النظرية البطليموسية، فالنظام الكوبرنيقي يتميز بقدر كبير من البساطة والروعة الرياضيتين، وهذه البساطة الرياضية الفائقة، قد جعلت من النظام الكوبرنيقي نظاماً متفوقاً.

بيد أن مفهوم البساطة – علي بساطته التي يبدو بها لأول وهلة – غاية في التعقيد، ولعل في عجز جل من عني به عن تحليله تحليلاً بديهياً قابلاً لأن ينعقد الإجماع حوله شاهداً بيناً علي ذلك . وبوصفه مفهوماً فلسفياً، يثير هذا المفهوم مشكلتين أساسيتين، تتعلق أولاهما بتحديد معيار حاسم بمقدوره تصنيف الفروض – كائنة ما كانت طبيعة السياقات التي تطرح فيها – إلي فروض بسيطة، وأخري أقل بساطة (أو أكثر تعقيداً) . أما ثاني تينك المشكلتين فتفترض أن الفرض الأبسط – في حالة تكافؤ الأدلة – موضع تفضيل بالنسبة للفروض الأقل بساطة، وتتعلق بالإجابة عن السؤال الذي يستفسر عن مبرر وجوب أن يكون ذلك كذلك . وبالرغم من أن للإشكالية الأولي أسبقية منطقية علي الأخيرة – علي اعتبار أن إمكان تبرير وجوب تفضيل الأبسط رهن بمعرفة هويته – إلا أن هناك علاقة مستترة بينهما، ذلك أن جدوي البحث عن معيار حاسم للبساطة وقف علي افتراض كون البسيط أجدر بالقبول .

ولكن لماذا يجب أن نفضل النظرية البسيطة، يقول توماس مونرو في كتابه "التطور في الفنون": " ... ولقد عرف منذ زمن طويل ما للبساطة من قيمة فكرية في نطاق الفلسفة والعلم والبحث، ففي عقل العالم أو الفيلسوف وفي الكتابات التي ينشرها، يقوم صراع لا يتوقف يهدف إلي تحقيق بساطة التفكير والبيان في تناوله للمواد الكثيرة المتعددة التي تعرض له – من مشكلات تتطلب الحل، ومعلومات تتطلب التنظيم والتفسير . وفي بحثه عن المعلومات المناسبة، قد يستوعب منها الكثير علي نحو مدرك، ولكنه يأمل دائما في تفسيرها وترتيبها في أبسط طريقة ممكنة تتفق مع الحقائق . ولقد رأينا كيف أن الفيلسوف الأنجليزي " وليم أوكام " ساعد قرب نهاية القرون الوسطي علي إحياء الروح العلمية في مطالبته الجريئة بأن التفسيرات يجب ألا تتجاوز ما هو ضروري . ففي الهندسة يعتبر أبسط برهان ممكن لنظرية أروع البراهين، والمثل الأعلي للتفكير العلمي . وقد أطلق علي هذه البراهين أسم " البراهين الجميلة" . وتغلبت نظرية كوبرنيقوس علي نظرية بطليموس، لا لأن أيا منهما كان يمكن إثباتها أو دحضها في ذلك الوقت، بل لأن الأولي فسرت الظواهر المشاهدة تفسيرا أبسط، بينما النظرية الثانية كانت تتطلب من المرء أن يفرض وجود مدارات دائرية لا حصر لها في حركة الأجرام  السماوية، وفي نهاية الأمر أصبحت هذه النظرية تبدو معقدة بصورة غير معقولة .

ومن ناحية أخري يؤكد " فليب فرانك " في مؤلفه " فلسفة العلم " إن بعض العلماء يفضلون النظرية البسيطة لأن المعادلات البسيطة تتيح حساب النتائج علي نحو أسهل وأسرع، إنها اقتصادية لأنها توفر الوقت والجهد . ويقول غيرهم من المؤلفين إن النظريات البسيطة أكثر روعة وجمالا فهم يفضلون النظريات البسيطة لأسباب جمالية "؛ منها أن العالم لا يدرس الطبيعة لفائدتها فقط بل يدرسها لأنها تمده بمتعه وهذه المتعة منبعها أن الطبيعة جميلة فإن لم تكن كذلك فإنها لا تستحق أن تعرف وأن يعاش فيها .

فالجمال شئ له عائدة في بواطننا العميقة . وحبنا له يشعرنا بأنه شئ أصيل في قلوبنا، رسيس فيها، لا شئ مكتسب ابتغاء المنفعة.. يقول "أرثر إدنجنتون":" في ذاتيتنا ناحية تحملنا علي أن نستروح الجمال وغيره من آيات الطبيعة، ونتملاه في مبتكرات الإنسان، حتي أن محيطنا قد ينقل إلينا الكثير مما لا نترخص به في أي شئ يوجد في مخترعات العلم الحديث الذي تنبث ي نواحيه . إن شعوراً شاملاً يوحي إلينا أن ذاك شئ حق وضروري لمقصدنا في الحياة.. علي أني لا أدافع عن حقيقة الجمال الذي نتملاه في منظر طبيعي !وإنما أتقبل بكل ارتياح، حقيقة أننا مهيئون بحيث نراه جميلاً " .

ولذلك وجدنا بعض رجال العلوم والنظريات الخاصة آثروا أن ينظروا في الظواهر الجمالية الطبيعية وجعلوها محورا في دراستهم في علم الجمال وأقلموا علي نتائجهم نظريات جمالية في القرنين الماضيين . وهذه النظريات تمثل موقفا جماليا جديرا بالدراسة لما فيها من إيحاءات وتحليلات يستفيد بها الباحث الجمالي استفادة محققة.

فهناك تشارلز داروين (1809-1882) مؤلف الكتاب الشهير عن "أصل الأنواع"، وصاحب نظرية النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي الذي زعم أن الإحساس الجمالي ليس قاصرا علي عالم الإنسان . إذ توجد أصوات وألوان تبعث البهجة عند الإنسان والحيوان علي السواء . وقد تحدث هذه الألوان والأصوات لذة كبري عند الحيوانات غير الراقية . وبعض الطيور الأنثي تستعذب صوت الذكور منها والحيوانات ذات الأغطية الصدفية السميكة تتذوق وتستحسن كما أن أنثيات الطيور تحب الألوان الزاهية وجمال الذكورة وأصواتها .

وقد أوضح داروين أن الإحساس الجمالي مرتبط بالانتباه في حين أن بعض الفلاسفة العلميين يقرنونه بالغريزة نفسها . فقال داروين بأن الحس الجمالي موضوعاً غامضاً جداً مهما تجلي بوضوح في الحيوانات التي تعشق الألوان المبهجة والأشكال المنسقة والأصوات المحببة وتظهر نفس الصعوبة عندما نبحث موضوع المتع الحسية في المذاق والشم والإيثار وعدم الإيثار . وليس الأمر هنا متعلقا بالعادة لا إلي حد معين . ولا بد من أن هذه الظاهرة الخاصة بالإيثار الجمالي ذات علاقة مباشرة بتكوين الجهاز العصبي نفسه في كل الأنواع والفصائل الحيوانية وبالتالي بالانتباه والوعي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

في المثقف اليوم