قضايا

ثقافة الفضيلة عند المفكر العراقي الزاهد هادي العلوي/ تتمة (4)

في خضم سؤالنا السابق، والمتعلق: ما هي أبواب التواصل التي ارهصته بين التراث الإسلامي مع التاوية والفكر الحداثي الغربي، عن تبادل التأثير والتأثر بين الطرفين مشروعا، من وجهة نظره؟ وعنه ما بعد؛

وعليه:

في الظروف الموضوعية والدولية العامة، وبعد أنهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وتفكك الكتلة الاشتراكية، وانتكاسة الاحزاب اليسارية العربية والتي دأب اصرار ربط مصيرها، تابعة، ذيلية، لأوامر قيادة مركزية السوفيت في تقرير تحالفاتها ومستقبل مصادر تعامل منهجها حينذاك، ما اصابها من هدر كامل وطيش فراغ عابث؛ دفع مجموعة من المفكرين العرب المعاصرين الحديث عن تبادل التأثير والتأثر بين الطرفين ـ مع المركزية الغربية عموما ـ، بموجب تلك الارهاصات الحداثية والمابعدها،  أحتدت جدية البحث عن محاولة أستلهام "أنموذج" في التدبيرات الفلسفية العمرانية وتوحيد قضايا المجتمع، أمر ضروري لبناء ثقافة مستقبلية حية، أحياء ثقافة الإنسان من فرد تابع "ذيلي" إلى عاقل مشارك، بل لتحول الذات العاقلة إلى ثقافة عضوية منتجة، وفاعلة بواجب المشاركة، والتدبير الناجع نحو بناء الدولة وضمان تننظيم أستمرارية تحديث ثقافتها، ومشاريع تجديد ادوات واساليب نماء استراتيجيتها و تطورها.

فصاحبنا ـ العلوي ـ انغمس بحثه مستلهما من الانموذج الاسلامي، تراثه الضخم، ـ والتي اشرنا إليها في الحلقة السابقة ـ، مع اخذه بناء وشائج التعايش فيها مع أطر الفلسفة "التاوية" والتجربة الثقافية الصينية، لأستهام الأنموذج الثقافي المتماسك، لتحقيق النهضة في المجتمع العربي المعاصر، وما تقتضية من إعادة تشييد ثقافة للذات العربية، وتجاوز أزمات مثقفيها الخاصة والمجتمعية عامة، لجعلها تتواصل وتتبادل التأثير والتأثر، وتدبر إمكانات قادرة على المساهمة في تطوير مشروع الحداثة في سياق تفاعل ثقافة الفضيلة لذات أكثر إنسية وارتقاءا، مشاركة، ترتبط بآليات تطعيم الحداثة ـ التجربة الصينية، هنا، حاضرة ـ والتراث العلمي الإسلامي التنويري بما قامت على أستبعاده في لحظتها النهضوية؛ أي استغذائها بطموحات الإنسان و وسائل إنتاج تخيلاته وعقائده، والتي سيركز عليها تصوف ابن عربي، والشيرازي والسهروردي... وابن باجة ومسكوية والخلدونية مع التجربة الثقافية الصينية مثلا؛ إضفاء بما يحافظ على ثقافة الفضيلة تلقيح مركزها الذات الإنسانية كذات متعددة الأبعاد، متنوعة الأفاق، وغير قابلة للأختزال في بعد إكساب نسيج إنتاجها الثقافي العقلي أو إنسجامها الحداثي بشكل متألف متناغم، فيتم أتحادها بعد ذلك.

في السياق نفسه، هذا إضافة إلى تنقية هذه الحداثة من أدران صبغتها وإشارات نزعتها المركزية الغربية، والتي حصرت كل القرارت والأحكام بين يديها مع أخضاع كل السلط تحت نفوذها، وهي تقرر سياسة البلدان، وتصدير قرارات توجيهية ثقافات الشعوب، وبأسمها استعمر حق تقرير المصير.

وإعادة بناء نظام يقتضي تحرر تبعية العقل والبلاد لمركز رئيس واحد، وهو فاعلية الذات التي تمنحها تنوع وتعدد واختلاف اقسام ثقافة الفضيلة نوعا من "الاستقلال المحلي"، بقدر ما تدعو إلى تجاوز موانعها وشواغلها، أو، صرفها عن القيام بتطويرها التي فرضها البعد "الدوغمائي" الخاضع لسلطة الفكر اللاهوتي والمبيقات القروسطى لهذا التراث.

وتتمثل هذه الموانع أو المعيقات في سلك معها مسلك الاختلاف من أشكال الحذق لتبلغ منه مأربه، أشكال التحايل، والتي مارسها مفكروا العرب والأسلام على الذات صراعا، كما مارسوها مفكروا الصينيين في تفرس في داهنية ورواغة المركزية الغربية في تحول وتغير مآربها، ليقلصوا من فاعليتها وحريتها، حيث جعلوها مرتهنة في وجودها بالذات المطلقة، ما تنبه إليها العلوي إشارات واضحة في آبحاثه؛ منبها، حين جعلوا هذه الذات في ـ الله ـ عز وجل، مثبطة فاعلية وعجز تحرر، حين ربطوا عزوم وجودها بالذات اللامحددة، بل فاصل وقطيعة عن الذات الإنسانية؛ بحاجاتها ورغباتها، وزمانها، وأشواقها، وأنفعالاتها، ورغائبها، وشهواتها، وسرديات أفكارها، وأخطائها، ونهايتها، عن الذات الآلهية المطلقة والميتافيزيقية، بمؤهلات صفاتها المتعالية، وأسمائها القدسية. وهذا ما كانت مخرجاته التشكيك واللايقين في عالم ثقافة الفضيلة وبمركزية الذات بقواعد قواها الإدراكية الحسية، مما جعل ـ الغرب/المستشرقون ذريعة تأجيل نظر الاندماج في المشاركة، بل العزل والأقصاء في الذات العمرانية المدينية ـ الذات السياسية، وبالتالي في موضوع تصور الحرية والتحرر، بما هي حرية/استقلال فردي مدني، وحتى بضوابط بناء طبيعة وأسلوب "العقد الاجتماعي" وليس أثره على صورته الطبيعية، ونشأته على حب الخير عن ثبته وختمه.

 وبهذا تناول الباحث العلوي، ترابط عملية إعادة بناء الذات العربية في اشكال ثقافية متعددة؛ بأشواقها، وأنفعالاتها وأفكارها وتقلبلاتها وأخطائها، ممارسة التفكير الجاد نحو عضوية مدنيتها، ثقافة التحرر والحرية فضيلة. بقواها الإدراكية وإرادتها الفاعلة، لها سؤالها وإشكالاتها وتطويرها التي فرضها الآفق الفكري الخاضع لسلطة الذات الفاعلة، المتآثرة والمؤثرة لهذا التراث.

فثقافة الفضيلة، بآسمائها وصفاتها دارسة المناهج الأكثر ديمومة من شخصية الإنسان بمعناها الاجتماعي والأخلاقي، محفوظة الحرية، وحقوق عضوية وسلوكها المكتسب أو الموروث في تدبير التبادل المعرفي. أكيد وبلا ريب، طبعا، سيدافع عن ذات مشتركة بكل ما يملك من أنوار، سؤلا وتحقيقا عن الحرية والعدالة والأخاء والمساواة.

بهذا يقوي العلوي نظرته التي ترتبط بأدوات منهجية وأساليب تجوال عملية إعادة بناء ركائز الذات العربية إنسية وتنوير، من خلال سؤال الذات ثقافة فضيلة سؤلا متحررا. فالتحرر بما هو ارتباط عملي بالحرية فلابد أن يشخص شعور الهزيمة واستفراغ طاقته، ثم الخروج بنزوع رأي راجح وعمل مستقيم دائم، تشكيل ركيزة الذات فيها محركا أساسي. فهي منبع تطور مراحل عمران إنسية التنوير نحو إمكان التغيير والنقد، بما في ذلك نقد تجارب العقل نفسه، من أجل تحفيز مسؤولية متابعة مهارات الأداء وتطوير ألية تطلعات المعارف وإضفاء طابع توزيع النسبية والتاريخية المعرفية على الحقائق وقيمتها عنه. ومن نافل القول، أن الحرية هي تناغم وانسجام ثقافة الفضيلة ما يؤهل الذات؛ من مقاومة تعسف الدوغماء، وسفه التعصب بأمتلاك احاد الحقيقة وتباحث ادوات تجبر القوى الانتهازية المحافظة داهنية مآربها، وكشف مختلف أشكال مغالق المريدية الظلامية بالنقد والحوار، وذلك لغرض فك القيود المتحكمة في تحجير الثقافة العضوية وبنية فضائلها في العطاء والخير من استبداد العقل المهيمن والتي تحول دون سعي الإنسان على التفكر والعمل والابداع والتجديد.

إذن ما هي الرؤية التي يمكن آن نستخلصها مما ورد بمجمل ما احتوى موضوع المقالة عن اسبقتها من حلقات، سنجيب عنها، بـ(خاتمة) لاحقا.

 

إشبيليا الجبوري

 

في المثقف اليوم