قضايا

مقالةُ العَقل في الإسلام (4)

مجدي ابراهيملم يكن للعقل قيمةٌ بغير النظر فيما يفرزه وهو الفكرة.. جهود الفلاسفة النظرية إنْ هى إلا مجرد فكرة.. ونظرات النّظار فيما ينظرون إليه ما هى إلا مجرد فكرة. وإبداعات المبدعين ومعرفة العارفين وخطرات المفكرين وثمرات العقول والأذهان إنْ هى إلا مجرد فكرة. الفكرة في رحاب العقل توليد. والعقل الوَلَّاد هو الذي ينتج الأفكار، وما من جهد نظري ينحت فكرة إلا ويقوم العقل بنشاطه من ورائه.

صحيح أن هناك طموحات للعقل الفلسفي تجعله يروم بالفكرة الوصول إلى الحقائق الإلهية. ومما كان "ديكارت" استخدمه في كلمة "فكرة" أنه عَنى بها كل ما يستطيع العقل إدراكه بالمباشرة. وفي إجابته على "هوبز" ذكر أنه قد استعمل هذه الكلمة؛ لأنها كانت شائعة عند الفلاسفة للدلالة على صور مدركات العقل الإلهي. وبينما اتجه الفلاسفة الأفلاطونيون الجدد والمدرسيون إلى استعمال الكلمة (فكرة) التي استعملها أفلاطون للدلالة على المعرفة الإنسانية، خاصّة بالمعرفة الإلهية، نرى ديكارت قد عاد مرة أخرى إلى استعمال كلمة فكرة للدلالة على المعرفة الإنسانية، متفقاً في ذلك مع تقاليد أفلاطون الصحيحة. وإذا كان الفرقُ أوضح من أن يحتاج إلى دليل بين الفكرة في ذاتها معزولة عن التطبيقات العملية والفكرة نفسها موجهة إلى العمل لا قيمة لها بغيره ولا يعتد بها بغير النظر إلى مجرياتها العملية؛ فنحن نستخدم كلمة "فكرة" للدلالة على جهود الفلاسفة النظرية التي يتمٌّ في الغالب عزلها عن التطبيقات العمليّة. من أجل ذلك سنتناول في هذه المقالة تصنيفات العقول وأقسامها، ونخصُّ بالذكر مقالة العقل الفعال كما وضحها أرسطو وشراحه : يونان ومسلمين؛ لنستوضح الرأي بعدها في عقل الإنسانية العام بعد تقسيم العقول كما جاءت على ألسنة فلاسفة الإسلام.

ولم تكن جهود الفلاسفة النظرية بالتي تخرج عما ما هو منسوب لأرسطو وشراحه في مسألة العقول وتقسيمها، ومعالجة هذا التقسيم بمثل ما عالجه أرسطو وحذا حذوه فلاسفة الإسلام بالشرح والتعليق. وقد رأى "ماسينيون" في كتابه "محاضرات في تاريخ الاصطلاحات الفلسفية والعربية"، الصادر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية : أن ابن رشد كان يعتقد بأفضلية شرح الأفروديسي على شرح ثامسطيوس لتبيان رأي أرسطو، ويقول إننا نجد أرسطو في كتاب "PERIPSYCHE " (النفس) الجزء الثاني والثالث يقول بوجود عقلين: (1) العقل الفعال (2) العقل المنفعل. ويريدُ بالأول هذه القوة الذاتية التي بها تدرك الكليات، لأن كل مادة تجري في الدنيا جريان السيل، وذلك شيء ثابت عن كل تجربة طبيعية. فإذا فقدت كل المبادئ الأولية مثل العليّة والغائية بالتجربة الحسية، فلا بدّ من وجودها في العقل الفعال؛ فهو الذي يبني به في التصورات الترتيب المنظم بعد تمييزها. ويتابع "ماسينيون" قوله بأن العقل المنفعل أو "ENTENDEMENT " "الفهم" هو معنى استعداد النفس الإنسانية لانطباع التصورات على ذهنها. وقد اختلفت تلاميذ أرسطو في علم النفس حين شاع كتابه؛ فمن تلاميذه ثامسطيوس، وإسكندر الأفروديسي، ولها مذهبان متضادان في العقل المنفعل أو الهيولاني، لحد العقل الفعال عنده. أما عند الفلاسفة مثل ابن سينا "في كتاب النجاة " : فالعقل الفعال هو الأدنى من حيث الدرجة من عقول الأفلاك التي تنتهي سلسلتها إليه وهو الذي يدبّر أنفسنا. قال الأفروديسي بوحدة العقل المنفعل في كل الأشخاص.

وعلى ما ذكره  ماسينيون عن ابن رشد من تفضيله لشرح الاسكندر الأفروديسي، يغلب على الظن أن ابن رشد كان ميالاً إلى الأخذ برأي الفارابي وابن سينا في خلود العقل الفعال رغم نقده للاتجاه الإشراقي عندهما. ولما كان الاسكندر تلميذ أفلاطون، وكان ابن رشد يرى رأي الاسكندر، فلم يكن من المستبعد وجود أوجه التقاء بين ابن رشد والفارابي وابن سينا، إذ لا تخلو اتجاهات ابن سينا ومن قبله الفارابي في مسألة العقول هذه من آثار أفلاطونية أفلوطينية.

وعلى العقل وحده يعوّل الفلاسفة إنْ في مسألة خلود النفس أو في مسألة المعاد أو غيرهما من المسائل الميتافيزيقية الشائكة، ومنها مسألة النفس الكلية وهم في تعويلهم على العقل النظري لا يعتدون كثيراً بما يصدم شعور البسطاء من الذين يؤمنون. وقد ذكر "ول ديورانت" في "قصة الحضارة" عن ابن سينا أنه :"يعالج كل هذه المسائل مستنداً إلى العقل وحده، غير متقيّد مطلقاً بالدين، ولكنه يذكر حاجة الناس إلى الأنبياء ليبينوا لهم قواعد الأخلاق في صور من الاستعارات والمجازات تفهمها عقولهم وتتأثر بها، وبهذا يكون النبي رسول الله، لأنه يضع الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي والاجتماعي. ومن أجل هذا، كان النبي ينادي ببعث الأجساد، وكان بعض الأحيان يصور الجنة تصويراً مادياً، والفيلسوف وإنْ كان يشك في خلود الجسم، يدرك أنه لو أن النبي قد اقتصر على تصوير الجنة تصويراً روحياً محضاً لما استمع الناس إليه، ولما تألفت منهم أمة واحدة قوية منظمة. وفي كتابه عن ابن رشد يقول العقاد :"ويستتبع هذا القول أن الحياة بعد الموت عامة غير شخصية، ويفنى كل شيء في الإنسان إلا عقله الذي ليس هو بجوهر مستقل بل هو عقل النوع البشري كله عام في جميع آحاده.

ونحن لا نعدم أصول فكرة النفس الكلية أو فكرة الإنسانية أو الإنسان عند "أفلوطين " حين يقول :" ولكنا لو فرضنا أولاً أن نفسي ونفس شخص آخر هما نفس واحدة، فليس صحيحاً مع ذلك أن المركب من النفس والجسم واحد في كل منا. فالنفس المتماثلة في جسمين مختلفين لا يكون لها في كل منها عين التأثرات .. ومعنى ذلك أن النفوس كلها واحدة ولكن الاختلافات الفردية ترجع إلى العنصر الجسمي الذي فيها. وكذلك الحال في فكرة الإنسانية، فكل منا إنسان ولكن ليس معنى ذلك أننا جميعاً شعوراً واحداً.

وهذه المسألة تتصل عند ابن رشد بعموم الحياة بعد الموت، لا من حيث هى شخصية فردية، بل من حيث هى عامة وكلية، وتندرج تحت فكرة النفس الكلية. ولذلك يقول ابن رشد في هذا، أو فيما معناه، في نص ممتاز من نصوص "تلخيص ما بعد الطبيعة" :" وذلك إنّا متى فرضنا موجوداً في أشخاصه خارج النفس، لم يخلو اشتراك الأشخاص فيه أن يكون على أحد وجهين : إمّا أن يكون جزء منه في شخص حتى يكون زيد إنما له من معنى الإنسانية جزء ما، وعمرو جزء آخر فلا تكون الإنسانية محمولة على كل واحد منها حملاً ذاتياً ...، فإنّ الذي له جزء إنسان ليس بإنسان، وهذا بين الاستحالة بنفسه. أو يكون الكلي موجوداً بكليته في واحد من أشخاصه، لكن هذا الوضع يناقض نفسه، وذلك أنه يلزم ضرورة إمّا أن يكون الكلي متكثر في نفسه حتى يكون الكلي الذي يعرف ماهية زيد غير الذي يعرف ماهية عمرو، فلا يكون معقولهما واحداً، وهذا مستحيل. أو يكون شيء واحد بعينه موجوداً بكليته في أشياء كثيرة .. وذلك محال .. إلى أن يقول : "وليس يلزمنا هذا الشك متى وضعنا أنّ وجود الكلي في الذهن. فإنّ المعنى الذي كان به الكلي كلياً، قد تبيّن في كتاب "النفس" أنه جوهر مفارق، وواحد بعينه أعني معقول المعقولات"..

وعلى كلام ابن رشد يتبيّن أن الجوهر المفارق معنى كليّ لا يخرج عن حدود التصور الذهني؛ لكنه ليس يلزم أن يكون له وجود واقعي كوجود أشخاص. ومحال أن يكون في وجود أشخاص؛ لأنه يتكثر في ذاته، والتكثر لا يجيز الوحدة المعقولة، ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد بعينه موجوداً بكليته في أشخاص كثيرة، فإنه محال؛ فلا يبقى أن يكون الموجود الكلى موجوداً ذهنياً، جوهراً مفارقاً، واحداً بعينه هو : معقول المعقولات.

وتدخل في فكرة النفس الكلية عند ابن رشد فكرة خلودها، وفي رأيه أنه ليس يلحق عند عودة النفس محال بالقدر الذي يلحق فيها المحال عند عودة تلك الأجسام بعينها؛ لأن النفس باقية خالدة بخلود العقل الكلي الذي يوجب العلم به ثباتاً في ذاته، بواسطة الذهن حين يُجَرّد عن المواد والحواس والأشخاص طبائعها المشتركة المتغيرة؛ ليصل إلى هذا "العقل الكلي" الذي لا تغير فيه، بل ثبات هو العقل الفعال الذي لا يلحقه فساد ولا يناله زوال.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم