تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

قاسم حسين صالح: في العراق.. الجندرية اشكالية جدلية!

توطئة: ما يدهشك.. يحيرك.. يؤلمك.. ان العراقيين (يتونسون) اذا وجدوا قضية خلافية.. فتراهم يخطّأون هذا ويصوبون ذاك، ويسخرون من هذا ويشيدون بذاك.. آخرها انهم قولوا (الجندرية) ما لم تقله.. وانهم ساووها بالمثلية! وصارت حديث منصات التواصل الاجتماعي والصحف ايضا في حال وصفه الدكتورعماد عبد اللطيف سالم بمقالته في المدى (لا أدري من.. أو ماهي الجهة، أو الجهات.. التي تُثير هذه الموضوعات في العراق، وتفتحُ بين فئات المجتمع العراقي المختلفة، جبهات حربٍ هي في غنى عنها، وكأنّ هذا المُجتمَع (المنقسِم أصلاً على نفسه)، لا يملِك من أسباب الخلاف والانقسام، ما يفيضُ عن حاجتهِ بكثير).. وكأن الجندر خطر قادم على العراق، في حال يبدو فيه ان العراقيين اصيبوا بما اصيب به السياسيون، فكما ان السياسيين صاروا على مدى العشرين سنة الماضية.. خالقي ازمات، فان العراقيين صاروا خالقي اشكاليات.. لا يرتاح فيها الفريقان ما لم تكن هناك ازمة او اشكالية!.. اوصلت الطبيب النفسي جميل التميمي الى ان يقول للجميع  (يا اخوان الامر ليس بهذا الشكل.. الحقيقة الطبية هي ان كل انسان من منظور جنسي يولد بشكلين)، فيما وصفتها مذكرة بعنوان عن الجندر والحريات والعدالة الاجتماعية وقعها اكثر من الف شخصية وطنية بأنها (حملة مسيسة قادتها قوى نافذة بالدولة وشخصيات ودوائر قريبة منها تقدم الجندر بوصفه تهديدا اخلاقيا خطيرا للمجتمع وتقويضا حقيقيا لمعنى العدالة و هدما للدين عبر ربط متعسف ومغلوط ومتعمد لهذا المفهوم بالمثلية والالحاد والتحول الجنسي)، اوصل الحال الى (اشو حتى الرادود الحسيني صار يحجي بالجندر!) بتعبير الدكتورة احلام شهيد التي كتبت لي تقول بان هذه الحملة ستؤدي الى المزيد من الفوضى والاتهامات والتسقيط والتجهيل بدعاوى بعيدة عن الحقيقة ولغة العلم.. فإحدى مهام الجندر، بتعبير الكاتب ماجد الغرباوي هي: (تأسيس وعي مختلف، يستعيد إنسانية المرأة بعيداً عن الدونية البايولوجية)، فيما شاعت الفكرة بين العراقيين عن (الجندره) بقول الشاعر الشعبي قاسم علوان (توني عرفت الجندره، لا هو رجل لا هو مره & زلمه الصبح بالديوان، بالليل حلوه محمره)!

ولأن الموضوع هو من اختصاص الأطباء النفسيين وعلماء النفس والأجتماع، فان هذه المقاله تهدف الى القاء الضوء على هذه (الأشكالية) من منظور علمي خالص.

الجندر (Gender) تحديد مفهوم

يعني مصطلح (الجندر) شعور الإنسان بنفسِه كذَكَر أو أنثى، ويشير الى الخصائص او الصفات الاجتماعية التي يتصف بها: الرجال، النساء، الاولاد، والبنات.. وتشمل التصرفات (السلوك) والأدوار الخاصة بكل من المرأة، الرجل، البنت، والولد .. والعلاقات فيما بينهم. ويقصد به النوع الأجتماعي او الحالة التي يكون فيها الرجل او المرأة بعلاقته المحددة بالأدوار الأجتماعية والثقافية التي يراها المجتمع مناسبة للرجال والنساء. ولأن الجندر مصطلح اجتماعي ثقافي، فأنه يختلف من مجتمع الى مجتمع آخر باختلاف التقاليد والثقافات والقيم والأنماط الفكرية التي يحددها المجتمع والخاصة بالجنسين، وعلاقاتها بالدين والعرق والطبقة الاجتماعية.

بتعبير آخر.. يعني الجندر (Gender) البعد الاجتماعي الحضاري لمفهومي الرجل والمرأة في المجتمع والخبرة النفسية للفرد من حيث كونه ذكرا أو أنثى، فيما يعني الجنس (Sex) البعد البيولوجي - الطبي للخصائص الجسمية (شكل الأعضاء الجنسية) التي تميز بين الذكر والأنثى.

بمعنى ان الجندر مصطلح يوضِّح الفروق بين الرجل والمرأة الناجمة عن الدور الاجتماعي المنوط بهما، والمنظور الثقافي والوظيفة لكلٍّ منهما الناجمة عن عوامل دِينيَّة وثقافيَّة، وسياسية واجتماعية صَنَعها البشر عبرَ تاريخهم الطويل يمكن تجاوزها في إطار المساواة بين الرجل والمرأة. والغالب أن يكون " جندر " الفرد و" جنسه " متشابهان، ويحصل أن بعض الأفراد الذكور بيولوجيا يشعرون نفسيا بالأنوثه ويكرهون أدوارهم الذكورية، وبعض الأناث يشعرنّ نفسيا بالذكوره ويكرهن أدوارهن الأنثوية. وان الهُوية الجندرية ليستْ ثابتة بالولادة (بحسب الموسوعة البريطانية) فهناك حالات لا يرتبط فيها شعور الانسان بخصائصة العضوية، بل تؤثِّر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهُوية الجندرية، وتتغيَّر وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية، كلما نما الطفل.

مؤتمرات الجندر

في العام 1975 انعقد المؤتمر العالمي الاول للمرأة في مكسيكوستي ترامناً مع السنة الدولية للمرأة، وأصدر اعلانا دعى فيه الى المساواة بين الرجل والمرأة، وطالبهن بالمساهمة في التنمية والسلام الدوليين. وفي العام 1980 انعقد في كوبنهاكن المؤتمر الثاني ناقش الفجوة بين المبادئ والتطبيق وانتقد الجهات الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة بأنها تحمل المبادئ دون التطبيق ودعى الى ممارسة الحقوق التي أُقرها المؤتمر الأول، والتوكيد على المساواة في فرص التعليم والعمل والخدمات الصحية.وفي العام 1985 انعقد المؤتمر الثالث في نايروبي وأكد على مقدار قياس التطور في المساواة بين الرجل والمرأة على الصعيد الدستوري والقضائي، والمشاركة الاجتماعية والسياسية في عملية صنع القرار.وفي 1995عقد المؤتمر الرابع في بكين وكان اهمها حضره أكثر من 17 الف مشارك و6 الاف مندوب حكومي واكثر من 4 الاف ممثل عن منظمات المجتمع المدني وحفل المؤتمر بمظاهرة اعلامية حضره 4 الاف صحافي وصحافية.ووقعت عليه 189 دولة وافقت على اعتماد مبدأ المساواة بين الجنسين .ودعى المؤتمر الى توحيد جهود دول العالم نحو تمكين المرأة، والتركيز على مبدأ النوع الاجتماعي لتحقيق كامل حقوقها من خلال تقسيم الحقوق والوضائف بينها وبين الرجل، فدعى المؤتمر الى اعادة الهيكلة الأساسية للمجتمع ومؤسساته وتقسيم الادوار والوضائف بين أعضاء المجتمع استناداً للنوع الاجتماعي، وأقر منح الافراد الحق في التحكم بشؤونهم الجنسية واتخاذ القرارات بشأنها بما فيها الصحة الجنسية والانجابية بلا أكراه ولا تمييز ولا عنف. فاصبحت الدول الموقعة على هذا الاعلان ملزمة بأحترام الحقوق الانسانية لجميع النساء وحمايتها والايفاء بها بغض النظر عما اذا كن مثليات أو ثنائيات أو متحولات الى الجنس الأخر او مخنثات او ميالات الى الجنس الاخر. وتشمل الحقوق الجنسية للمرأة؛ (السلامة الجنسية والاستقلال والخصوصية والاختيار) وهي دعوة للدول الى توفير خدمات الأجهاض للنساء الى المدى الكامل الذي تسمح به قوانينها الوطنية.

وفي اعقاب المؤتمر أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً في اذار من عام 2010 ورد فيه؛ ان منظمة العفو الدولية تدعو جميع الحكومات الى اعادة التأكيد على التزامها التام باحترام الحقوق الاساسية للمرأة التي عبّر عنها اعلان ومنهاج عمل بيجين والوثيقة الختامية لعام 2000 وأعيد التأكيد عليها في الاعلان السياسي لعام 2005 وحثت منظمة العفو الدولية جميع الحكومات وغيرها من الفاعلين المعنيين بحقوق المراة على تنفيذ القرارات بصورة عاجلة وملحة،  وجاء البيان على ذكر التوصيات الثمانية المتصلة بحقوق المرأة.

المشكلة في .. سيمون!

في 1949 اصدرت الفرنسية سيمون دي بوفور كتابا بعنوان (الجنس الآخر) اعلنت فيه أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية اوصلها الى ان تعاني من اضطهاد قاس، وأن الأنثى تتحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقًا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور. وترى أن تحرر المرأة رهين بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها الجسدية والنفسية، ومدى تحررها من الموروث الثقافي السلبي. ودعت الى ان تتحرر المرأة من هوية مستلبة صنعها الرجل،  يكون بقدرتها على الخروج من أصفاد الصورة النمطية التي صنعها المجتمع.

وبرغم ان (الجندر) كمصطلح ظهر في سبعينيات القرن الماضي الا ان كثيرين يرون ان سيمون هي التي مهدت للتنظير في مفهوم "الجندر". ويبدو لنا ان احد الأسباب للموقف السلبي لمفهوم الجندر في الدول الأسلامية، يعود الى انه مرتبط اصلا بأمرأة فرنسية وجودية متمردة اسمها سيمون.. مرتبطة بعلاقة غير شرعية وغير اخلاقية بشخص غير مرّحب به في العالم الاسلامي اسمه سارتر!

اتفاقية سيداو Cedaw

في 18 كانون الاول/ ديسمبر 1979 اعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن توقيع 190 دولة بضمنها 20 دولة عربية بينها العراق على اتفاقية حملت عنوان سيداو وترجمته: (القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة)، تضمنت ثلاثين مادة الزمت الدول الموقعة عليها بتنفيذها بدءا من 1981. وقد تصدرت الاتفاقية حيثيات بـ(11 اذ).. بدأتها:

(إذ تلحظ (الدول الموقعة عليها) أن ميثاق الأمم المتحدة يؤكد من جديد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدره، وبتساوي الرجل والمرأة في الحقوق)

وانتهت:

وإذ تدرك أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل وكذلك في دور المرأة في المجتمع والأسرة،

وختمتها.. وعليه:

فان الأطراف الموقعه قد عقدت العزم على تنفيذ المبادئ الواردة في إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة، وعلى أن تتخذ، لهذا الغرض، التدابير التي يتطلبها القضاء على هذا التمييز بجميع أشكاله ومظاهره،

وجاء في المادة الأولى منها:

لأغراض هذه الاتفاقية يعنى مصطلح "التمييز ضد المرأة" أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.

وقد امتدح مختصون بالشريعة الاسلامية عددا من مواد هذه الاتفاقية (بدعوتها القضاء على التحيزات ومكافحة جميع اشكال الأتجار بالمرأة.. .) ووصفوها بأن الأسلام سبقهم في ذلك وانه اعطى للمرأة حقوقا كاملة في اربعة مجالات: الأنساني، الأجتماعي، الأقتصادي والقانوني، والأسري.. ويستشهدون بآيات قرآنية وأحاديث نبوية (النساء شقائق الرجال.

وانتقدوا عددا من موادها بينها المادة الأولى في تفسيرهم لـ(التمييز) بانه يعبر عن الظلم والأجحاف اكثر مما يعبر عن التفرقة والأختلاف، وانه ليست كل تفرقة ظلما، بل ان العدل-كل العدل- يكون في التفرقة بين المختلفين، كما ان الظلم- كل الظلم- في المساواة بينهما والتفرقة بين المتماثلين، فالمساواة ليست بعدل اذا قضت بمساواة الناس في الحقوق رغم تفاوت واجباتهم وكفايتهم واعمالهم، فليس من العدل والانصاف، او المصلحة، ان يتساوى الرجال والنساء في جميع الأعتبارات، مع التفاوت في الخصائص التي تناط بها الحقوق والواجبات.

ويرى آخرون أن الاتفاقية .. مبدؤها ومنتهاها، ولحمتها وسداها، هو المساواة المطلقة والتماثل التام بين الرجل و المرأة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية والقانونية ونحوها، وهذا مبدأ مجانب للصواب، مخالف لظاهر الكتاب، وصريح السنّة وما استحسنته العقول السليمة وقرّرته الفطرة القويمة.

وانها تتجاهل في مادتها الرابعة الاختلافات الفسيولوجية؛ إذ أنها تحظر وضع معايير خاصة بالمرأة، وتسمح فقط بوضع قوانين مؤقتة خاصة بالمرأة للإسراع بتحقيق المساواة وعندها تصبح ملغاة.

ويرون انها دعت في مادتها الخامسة الى القضاء على الأدوار النمطية للمرأة، ولا تعني بها دور الأم المتفرغة لرعاية أطفالها فحسب، بل تعني كذلك أنه يمكن أن تقوم أسرة غير نمطية من أنثيين، كما يمكن أن تقوم من رجلين وفي هذا إقرار للشذوذ الجنسي.. اوصل الى اشكالية (المثلية الجنسية) ما اذا كانت جريمة او فاحشة او حق شخصي.. سنتناوله في مقالة قادمة.. بعد ان اوضحنا ما للجندر وما عليه.. بهدف ايقاف هذه الضجة الجندريه!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

اكاديمي وكاتب

في المثقف اليوم