قضايا

مراد غريبي: محنة الثقافة العربية مع الفكر الصراطي

يذكر المرحوم هشام جعيط: كم من مرة اشتهي أن اقرأ للكتاب العرب من المفكرين، فلا أجد زاداً كبيراً مما يمنح تفتح الذهن وإثراء المعرفة ومتعة المطالعة باستثناء القليل القليل. وأنت إذا وجدت جمال الأسلوب، فهو عادة مقرون بسقامة التفكير، وإذا وجدت عمق المعرفة ـ وهو أمر قليل فهو مقرون بثقل الأسلوب..

قد نتفق مع مقولة  الراحل المفكر التونسي هشام جعيط، بل اكيد أيضا نختلف حول هذا الطرح والمقاربة العابرة ضمن التركيز في أزمة الثقافة عندنا..

لكن ما يهمنا هو أي ثقافة نحتاج، ثقافة النخبة او الثقافة الجماهيرية؟؟ هذا تساؤل يقودنا نحو إشكال عميق يرتبط بالمفكر العربي سواء كان دينيا منفتحا او علمانيا متشددا، هل لدينا مفكرين في الأدب وآخرين في العلوم الاجتماعية من شأنهم  الوقوف على مآزق الوعي الثقافي اجتماعيا وجماهيريا؟؟ أي نقد وتحليل ثقافيين يمكننا اعتمادها في اوساطنا الفكرية؟

اسئلة متكررة ومريرة توحي بسطوة الفكر الصراطي1 الجاثم على مقومات الوعي الثقافي في راهننا العربي، وفي ظل هكذا فكر لا يمكن لمفاهيم التعدد والتعايش والحوار أن تعيش او تتطور، الفكر الصراطي انحصاري وليس انبساطي بحيث بيئته تصنيفية إلغائية مما يجعل النقد محرما والتحليل كفرا، والفكر الصراطي هو نتاج ثقافة الاستبداد التي تجسدت تاريخيا في نظام فكري منغلق تمييزي انحصاري، خلق دوائر تأثير وطبقات خوف ضمن حقل الثقافة، مع الوقت تشكلت من جهة نخبة تتخفى وراء كلمات الحداثة والعولمة والديمقراطية والتجديد، ومن جهة ثانية جمهور المدونة التراثية الذي اصطف كذلك بنقاد الثقافة من أجل فرض منطق الفكر الصراطي الذي تبلور في ظل التزوير الممنهج للنظام الثقافي عبر التاريخ..

 أنماط المفكرين:

هناك أشكال وأنماط من الفكر على بساط المجتمعات العربية نذكر منها الأكثر بروزا:

المفكرين الرومانسيين أو الأدبيين: هؤولاء يرون ان المجتمع اصبح فاسدا بسبب انفتاحه المفرط على سلع العولمة، ويرون ان الثقافة الأدبية والفنية وحدها القادرة على اعادة تنظيم الوعي داخل المجتمع، هذه فئة تصارع المجتمع ولا تحتك مع  واقعه سوى عبر الشعر والفن لكن لا تكاد تدغدغ أوتار موسيقى الوعي لدى فئات المجتمع  سوى بأبيات عابرة او روايات ترهق العقل قبل العين ولوحات تعكس الأوهام والخرافات والتيه الذي يخنق الوعي في مجتمعاتنا..

المفكرين المتصوفة: هؤولاء يرومون الكمال الروحي للمجتمع حتى لا ينزلق في مهاوي المادية الليبيرالية والمنتجات الحداثية، يتوزعون ضمن تعدد صوفي بموجب فلسفة التعدد الديني، وهذا النمط تأثيره ضئيل نوعا ما، ويكتفي بالمريدين لخلق واقع تصوري موازي للواقع الفعلي للمجتمع، لكنه يبقى له دور في حال اندمج فعليا ضمن ماهية التعدد الثقافي..

المفكرين اللاهوتيين: هؤولاء مقصدهم الأول والأخير هو فرض اللاهوت كل حسب لاهوته وهنا يكون المجتمع أمام رهانات المدونات الفقهية والكلامية التاريخية، هذا النمط صاحب سطوة على طول تاريخ المجتمع العربي، لأنه مركز صياغة الفكر في المجتمعات العربية التي تتميز بعاطفة التدين أكثر من عقلانيته وهذا النمط ينقد كل ثقافة علمية تحاول تحليل المستويات الثقافية في طبقات المجتمع من أجل تحديد مؤثرات الوعي الثقافي ويعمل بفرض هيمنة الثقافة الجماهيرية على المجتمع، ومنهم أكاديميين ويتحدثون بخطاب حداثي وكلهم تلقى تكوينا تراثيا منغلق.  

المفكرين العلميين الإجتماعيين: هؤولاء يهمنا بينهم فئة الاجتماعيين اصحاب التحليل الثقافي لفئات وطبقات المجتمع، وهي الفئة النادرة عندنا بل التي يمكن القول أنها منعدمة تماما، فئة تجعل الثقافة تحرك الأسئلة المصيرية والاستراتيجية داخل المجتمع، وهذا النمط ألد أعداء الفكر اللاهوتي لأنه أفقي التأثير والتنظيم لثقافة المجتمع على عكس الفكر اللاهوتي عمودي الوظيفية..

 الثقافة العربية وسؤال الحس:

يبقى أننا مجتمعات بلا اجتماعيين خبراء في تحليل الثقافة وتنظيمها وضبط توازناتها مجتمعيا، عندنا اكاديميين اجتماعيين لكن اغلبهم مبرمج وفق منطق الفكر الصراطي، إما دوركايميا أو فيبيريا أو بورديويا أكثر منهم جميعا بلا إبداع، وهكذا دواليك في الفلسفة وعلم النفس والتربية والاقتصاد..، للأسف استغراق في التقليد والتبني المطلق للتيارات العلمية الاجتماعية في الغرب  دون استيعاب للمفاهيم واستثمار للمناهج..

إنها أزمة الثقافة المستفحلة في ربوع وطننا العربي وتبرز في صور الفوضى  بمجتمعاتنا، هي من جراء تقاعسنا الفكري وانحصاره في خط عمودي تاريخي أنتج كل أشكال الاستبداد التي دمرت مقومات الصحة والفعالية والنزاهة لدى إنساننا العربي، هذه الاشكالية   يعبر عنها علي حرب:  إن مهنة المثقف ازدهرت عندنا على حساب صناعة الفكر، وإنه متى ما برز المثقفون ومارسوا أدوارهم الدفاعية، غاب المفكرون أو قل الإبداع الفكري.. لهذا كل تلك الانماط عدا العلميين هم مثقفون..!!

عودا لفكرة الراحل د. هشام جعيط التي تفضح واقعا برمته، والذي لا يعرف المرحوم فإنه قارئ نهم ومفكر مبدع وناقد قوي، فعلا تزدحم أسواق الثقافة بجمهور المثقفين، لآن الافكار الحية كما حدثنا عنها المفكر المرحوم مالك بن نبي لا تنبت في أرض استبد بها ملح الفكر الصراطي العقيم..

اختم بإشارة حول من هو المفكر الاجتماعي؟ وهل عرفت مجتمعاتنا مفكرين اجتماعيين؟

الشق الاول: المفكر الاجتماعي هو مبدع لأمرين واحد ذاتي والآخر موضوعي، الذاتي هو تحصيله لثمرة الحس الفكري والموضوعي هو ابداعه لمعالم الحس الاجتماعي.

الشق الثاني: نعم عرفنا مفكرين اجتماعيين على طول الزمن العربي والاسلامي، نعم عرفت  البلدان العربية والاسلامية مفكرين اجتماعيين استطاعوا ابداع الحس الاجتماعي والوطني والإنساني حتى يومنا هذا، عاشوا الهم الفكري وبلغوا الحس الفكري التحرري وابدعوا الحس الاجتماعي الوطني الحضاري، ونفس الحال نجده في كل مجتمع من مجتمعات الانسانية، لأن الابداع الفكري قبل كل شيء هو هم يتطور لفكرة، تتحول الى رؤية، فتصبح حسا يقلب الطاولة على رأس كهنة الفكر الصراطي..

***

ا. مراد غريبي

.........................

1-  اقتباس من تعبير للمفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي "اللاهوت الصراطي"  يمكن الإطلاع عليه في كتابه "الدين والاغتراب الميتافيزيقي" ص٨١.

في المثقف اليوم