قضايا

مُفارقة التعطيل!

مجدي ابراهيملمّا نشرتُ عن "التوحيد" شذرة لأحد العارفين تقول إنه: "استقامة القلب مع إثبات مُفارقة التعطيل"، تساءل أحد الزملاء.. ما معنى مُفارقة التعطيل؟ وقال متابعاً: هل هو مصطلح صوفي متفق عليه ومعروف لديكم.. أم أنه بلاغة فى استخدام اللغة، أم كلاهما؟ ما الذي يُراد بمفارقة التعطيل؟ صعوبة النّص الصوفي تبدو لي بسبب أن ألفاظه معظمها تميل الى التجريد.

من ناحيتي أنا، أجبتُ عليه في حينه، ولمّا عاودتُ النظر في مفارقة التعطيل وجدتُ أنّ الإحاطة بالمعنى الحرفي لم تكن كافية، فلزم التنويه إلى التوسّع في هذا المعنى إضافةً إلى ما ورد.

أما المعنى الرمزي أو العقلي، فلم أزد فيه شيئاً على ما ذكرته، فأبقيتُه كما هو، لا زيادة عليه لمستزيد.

يلزمني من باب الأمانة العلميّة أن أعرض لما ورد:

للمفارقة دلالتان، إحداهما قريبة، وهى الدلالة اللغوية، والثانية بعيدة، وهى الدلالة الفلسفيّة، فاللغويّة تعني: اجتماع نقيضين في المعنى، وباجتماعهما تكون المفارقة .. خذ مثلاً: طلب الإصلاح في زمن الإرهاب.

لو السؤال هكذا: كيف يتمُّ الإصلاح في زمن القهر والتسلط والعنف والإرهاب؟!

الإصلاح فكرة تسيطر عليها القوى الروحيّة. والإرهاب واقع دامي تسيطر عليه القوى الماديّة. فلو جاء السؤال عن طلب الإصلاح في زمن الإرهاب؛ لتبادرُ إلى الذهن من الوهلة الأولى اجتماع النقيضين في عبارة واحدة .. فتكون إذْ ذَاَكَ مفارقة.

ويجتمع النقيضان في هذا البيت من الشعر:

(متى يبلغ البنيانُ تمامه إذا .... كنت ما تبنيه غيرُك يهدمُ)

لاحظ تمام البنيان وهدمه في ذات الوقت، هنا تكون المفارقة. ويجتمع النقيضان في عبارة "المطار السّري" فكيف يكون سرياً وهو مطار يعرفه الجميع ومشهود للجميع؟ فهنالك تصبح مفارقة.

ويجتمع النقيضان في اصطلاح (التقليديّة الجديدة)، كيف تكون تقليدية، وتكون جديدة في نفس الوقت؟ وهكذا دواليك! فالمفارقة هى اجتماع النقيضين في جملة واحدة.

أما الدلالة الفلسفية؛ فتأتي المفارقة فيها بمعنى التعالي والابتعاد التام عن الواقع المحسوس، هنالك العقول المُفارقة؛ أي التي لا تتلبّس بمادة، ولا تحلّ في مادة، ولا يمكن أن يكون لها اتصال بمادة .. المُفارقة من الجهة الفلسفية تعني أن لا وجود لهذه العقول في الكون المادي. وما دامت هناك عقول مُفارِقة، فلابد أن تصدر عنها علوم، تسمّى أيضاً بالعلوم المُفارقِة، التي هى الميتافيزيقا أو العلوم الإلهية.

وزيادة على هذا، نأتي إلى مُفارقة التعطيل، ليجيء المعنى الحرفي كونه لا يتضمّن هنا الدلالة اللغوية، ولا يشمل الدلالة الفلسفية، ولكن يشي فقط بمعاني البعد والتنائي والعزوف والإعراض.

فارق التعطيل؛ أي أبتعد عنه، وانأى، واعزف واعرض، فلا هو داخل في الدلالة اللغوية للمُفارقة ولا في الدلالة الفلسفية، إذ أن استخدام المتصوفة للدلالات إنما هو استخدام مرموز. ومن هنا، تجئ الصعوبة في اللغة الصوفيّة، كما يكون التجريد في المعنى مما من شأنه أن يوحي بالتباس الدلالة.

الصعوبة في إثباتها: إثبات مُفارقة التعطيل .. لكن معناها حرقيّاً ورمزيّاً، يتلخّص في الآتيً:

(١) المعنى الحرفي: تعطيل الحكم الإيماني إزاء العقيدة، كأن تؤمن بعقيدة القضاء والقدر مثلاً من طريق النظر مع تعطيلها على مستوى الفعل والمباشرة. فالمطلوب إثبات مفارقة التعطيل من العقل أو من الشعور.

المفارقة هنا، بمعنى الترك والهجر والبعد عن التعطيل، ثم لا تكتفي بذلك، بل تثبت بالفعل مفارقتك التعطيل، وعزوفك عنه، ونأيك وإعراضك. هذا ما يبدو من حرفيّة المعنى.

(٢) المعنى العقلي: تجريد الذهن في استنباط الدلالة، فلن يكون التوحيد سالماً من العلل ما لم يستقم القلب على إثبات مفارقة التعطيل، أي خلوص الإيمان من شوائب الشرك والزندقة والتعطيل، ووقوف القلب خالصاً في مواجهة الرّب، ولا يمكن من هذه الجهة التعبير عن التوحيد بالعبارة العادية واللفظ المعتاد؛ حتى إذا قلتَ: أنا مؤمن بالله، أو تحدّثت عن توحيدك لله، فقد أشركت به من حيث لا تدري! لماذا؟

لأن العبارة عن التوحيد نفسها شرك؛ لأنها غير الله، وبالتالي التعبير عن التوحيد نفسه شرك؛ إذْ لا يخلو تعبيرك عن الله من عبارة عاديّة ومن لفظ معتاد .. والعبارة واللفظ حُجُب، وكل محجوب مشرك بوجه من الوجوه، وما دمت جعلت مع الله (غيره) فقد أشركت به غيراً. ولهم في هذا الموطن: "ما دُمتَ تشير فلست بموحد". بمعنى أنه ما دمت تشير دوماً إلى الله؛ فلست بموحد حتى تفنى المشير والإشارة؛ لأن الملاحظ أن المشير والمشار إليه والمشار به، يتعقل أنه مشير والحق مشار إليه به، وأن ما صدر عنه هو إشارة، فهذا لا يكون موحداً ما لم يَفْنِ عن نفسه، وما لم يخرج عن دائرة حسه.

ولكون العارف مجموعاً في مقام الجمع لا يرى لنفسه عبارة ولا إشارة؛ فقد نصّ ابن عطاء الله السكندري في حكمة بالغة من حِكَمه على هذا المعنى حيث قال:" ما العارف مَنْ إذا أشَار وَجَدَ الحق أقرب إليه من إشارته، بل العارف مَنْ لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده". فالعارف على التحقيق لا إشارة له إذ تبدو العظمة والجلال عليه فتنسيه الدنيا والآخرة والدرجات والأحوال والمقامات والأذكار، وتفنيه عن كل شيء: عن عقله، وعن نفسه، وعن إرادته، وعن فنائه عن الأشياء، وعن فنايه عن الفناء؛ فيغرق في بحار التعظيم.

إذْ ذَاَكَ يستحق أن يُسمى عارفاً.

هذا هو معنى مفارقة التعطيل.

قل لي بربّك: ما قيمة هذا الكلام في زمن لا يعترف قيد أنمُلة بعالم غير عالم الحسّ أو عالم الواقع ممّا من شأنه أن يكون العلم التجريبي وحده هو القائد، يتعيّن الإقرار به وإنكار غيره؟

أقول لك حقاً من يستشعر لهذا الكلام خطره، يأخذه من جهة النفس لا من جهة الواقع أو جهة الحسّ. مكمن الخطر إذا هو جاء من باطن الإنسان، ومسّ شغاف قلبه، فلا نجاة له بعلوم العقل ومخترعات العلم والصناعة، وإنما تكون نجاته بعلم من عالم الروح تنتفع به الضمائر وتنصلح عليه العقول، إنما تكون نجاته بالدين وبالإيمان الديني والعقيدة الإلهية .. ولا نجاة له مطلقاً في غير هذا الطريق.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم