قضايا

مريم لطفي: سيميائية الحرف في القرآن الكريم

"الم. تلك آيات الكتاب الحكيم. هدىً ورحمةً للمحسنين".. لقمان4

مدخل الى كنه الحرف..

يعرف الحرف لغة على إنه الطرف والجانب ومنه قوله تعالى (ومن يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه).. الحج11 اي على طرف وجانب من الدين، ومثله حرف السيف وحرف الجبل وحروف الهجاء (اطراف الكلمة).

ويعرف الحرف اصطلاحا بأنه لفظ يدل على معنى من خلال كلام.

وإذا أردنا أن نجد تعريفا منصفا للحرف فنقول إنه أصغر وحدة لتكوين الكلمة. وقد أختلف العلماء في عدد الحروف الهجائية، فذهب بعضهم إلى انها 28 حرفا على اعتبار إن الالف والهمزة حرفا واحدا، وذلك لأن الالف يسمى همزة وتنطق نطقها وهذا مادعا إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي وطائفة أخرى من علماء اللغة، والحروف نوعان:

- حروف مبانٍ: هي التي تبنى منها الكلمة ويطلق عليها (حروف التهجي)

- حروف معانٍ وهي الحروف التي لها معنى مع غيرها مثل (حروف الجر).

وقد اختص علم الصرف بأبنية الكلام (اسم، فعل، حرف) واشتقاقاته، والميزان الصرفي هو المعيار الذي تقاس به الكلمة لضبط بنيتها ومعرفة حروفها من حيث اصالتها وزيادتها والمحذوف منها وهيأتها وضبطها بالحركات ومايعتريها من تغييرات.

وقد تناول علم الصرف الكلمات (الاسم الاصلي، والاسم المعرب) فوجد انها غالبا ماتكون على ثلاثة أحرف أصلية لذلك جعلوا ميزان الكلمة على ثلاثة أحرف هي (الفاء والعين واللام) وقد أختيرت كلمة (فعل) للفعل الثلاثي و (فعلل) للرباعي، وان سبب اختيار هذه الاحرف (ف، ع، ل) جاء للاسباب التالية:

- إن الفعل هو أعم الاحداث، وكل مايصدر عن الجوارح هو فعل مثل: قرأ كتب، سمع، قال، وهكذا.

- إنها تمثل مخارج الحروف وهي الشفة والحلق واللسان، فالفاء تمثل الشفة والعين تمثل الحلق، واللام تمثل اللسان.

وأما الفرق بين الحروف الاصلية والزائدة فهي كما يأتي:

- الحروف الأصلية: هي الحروف التي لاتحذف من الكلمة وإذا حذفت اختل معناها.

- الحروف الزائدة: هي الحروف الغير أصلية في الكلمة واذا حذفت لايحدث خلل في المعنى.

وتكمن أهمية الميزان الصرفي بما يأتي:

- معرفة الحروف الاصلية وتمييزها عن الزائدة وهي (س، أ، ل، ت، م، و، ن، ي، ه، ا) والتي تتجسد في عبارة (اليوم تنساه)-مع وجود عبارات اخرى- وهي على سبيل المثال لاالحصر

- الاهتداء الى مكان الكلمة في المعجم، فالمعجم مبني على الحروف الأصلية.

- معرفة الحركات والسكنات وطريقة نطقها ومعرفة مايزيد على الكلمة وماحذف منها، أو ماطرأعليها من تغيير في حروفها كالتقديم والتأخير.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن كنه الحرف وماهيته نأتي الى موضوع البحث وهو الحرف في القران الكريم.

والحقيقة يتناول موضوع البحث الحروف المقطعة أو النورانية في القران الكريم والتي حيرت العلماء والباحثين بتفسيرها، وقد خاض غمار هذا الموضوع الكثير من العلماء وتوصلوا الى نتائج شتى فهل أنصفوا الحرف باعتباره حرفا لذاته أو ضمن كلمة!

لنتأمل عدد الحروف العربية والتي عددها ثمانٍ وعشرون حرفا سنجد إن نصفها بالضبط، أي أربعة عشر حرفا وهو عدد الحروف المقطعة ولنطلق عليها في القرآن الكريم وهذا بحد ذاته إعجازلان الوسطية هي سمة من السمات التي دعا اليها الله في كتابه العزيز (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) البقرة 143، والحروف المقطعة-من الظلم ان نطلق عليها مقطعة لان كل منها آية والايات لاتقطع- والحروف بدون تكرار هي (أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ي) والتي تتجسد بعبارة (نص حكيم قاطع له سر)، ومهما اختلف المفسرون في طريقة جمع هذه الحروف لتكوين عبارة مناسبة مع إن الله جل وعلا لم يشأ وضعها في كلمة أوجملة بل أنزلها كما هي.

فلنتأمل هذه العبارة التي ربما تكون الاقرب-وهذا لاينفي استقلالية الحروف- بشئ من التفصيل فقد وردت كلمة نص ورغم إن القران يتكون من الكثير من النصوص التي تتناول مجمل تفاصيل الحياة على شكل سور قرانية محكمة جاءت لتوضيح وتفسير كل أمر على حدة كالزواج والطلاق والميراث وغيرها من المواضيع التي تتصل اتصالا مباشرا بالحياة وأغلب القوانين المدنية استندت واعتمدت بشكل أوبآخر على هذه النصوص لكن ورود كلمة نص تدل على إن القران كل واحد لايتجزأ.

ثم نأتي الى كلمة (حكيم) وهي اشارة واضحة الى الحكمة الالهية التي وضعها الله في القرأن باعتباره كتابا مقدسا يدعوا الى الحكمة والموعظة، والحكيم من اسماء الله الحسنى.

ويلي الحكيم كلمة (قاطع) للدلالة على قطعية الحكم الصادر من الله جل وعلا، تليه (له) فاللام حرف جر والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم.

أما كلمة (سر) فهي المفتاح الذي يدعونافيها الله جل وعلا لتدبر كتابه (أفلا يتبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).. النساء82

 والحقيقة فعندما نخوض في أي موضوع فأننا نبدأ بالأصغر ثم الأكبر، وهو أمر منطقي للولوج الى أي موضوع، ونحن نبحر في عالم الحرف والذي يعتبر السر والمفتاح الذي ندخل منه الى عالم اللغة نجد إن الحرف الذي خصه الله بقسمه إنما هو سر من أسرار اللغة التي خص الله بها الأمة العربية وميزها على غيرها من الأمم (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ال عمران 110 وهذا التميز يقابله تميز آخر وهو اللغة التي جعلها بلسان القرأن (وهذا لسان عربي مبين). النحل103

وإذا ماعدنا الى الحرف أو مجموعة الحروف المقطعة التي وردت في تسعٍ وعشرون سورة من سور القرآن والبالغ عددها أربعة عشرا حرفا كما ذكرنا والتي أطلق عليها العلماء اسم (الحروف النورانية) والتي اختلف العلماء في تفسيرها سنجد ان كل حرف من هذه الحروف هو آية قائمة بذاتها ولو شاء الله لجعلها ضمن كلمة لكنه جل وعلا خصّها بالقدسية وابتدأ بها اوائل السور فهل توجد حروف مقدسة وأخرى اعتيادية؟

في الحقيقة وبما إن كتاب الله كله مقدس وإنه جاء بلسان عربي مبين مايعني إن الحروف كلها مقدسة لكن الله جل وعلا قد جعل نصف حروف اللغة أكثر قدسية من الاخرى (ورفع بعضكم فوق بعض درجات).. الاسراء 21 وهذا التفاوت إنما لحكمة خص الله بها مايشاء من خلقه، ومادام الحرف آية فهو شأنه شأن المخلوقات الاخرى بحسب قوله جل وعلا (الم. تلك آيات الكتاب الحكيم).. 1 لقمان

وهذه الايات تشمل جميع الحروف المقطعة مثل (الم، المص، الر، كهيعص، طه، طسم، طس، يس، ص، حم، حم عسق، ق، ن)

ومما تجدر الاشارة اليه ان حرف (ن) جاء على صورتين في القران الاولى بشكله المستقل (ن) في سورة القلم والذي يعتبر من الحروف المقطعة أو النورانية حيث قال جل وعلا (ن والقلم ومايسطرون).. القلم1 وهنا ذكر المفسرون ان (ن) يعني الحوت استنادا الى قوله جل وعلا (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لاإله إلا إنت سبحانك إني كنت من الظالمين).. الانبياء 87

ومن المعروف إن ذا النون هو النبي يونس بن متى الذي بعثه الله لهداية قومه والقصة المعروفة عن ابتلاع الحوت له.

لكن في الحقيقة ان (ن) ليست هي نفسها (النون) والتي تعني الحوت كما ذكر العلماء، إنما جاءت بمعنى مختلف واختصت بشأنها لتكون آية مستقلة من آيات الله جل وعلا وسرا من أسرار اللغة العربية المقدسة والتي اكتسبت قداستها من قداسة القرآن (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل).. النحل101

هذه الايات وحروفها أنما تدعم بحثنا السابق عن اللغة والتي كما ذكرها القرآن هي أيضا آية خصنا الله بها لنحمده كثيرا ونسبحه كثيرا.

 هذه القداسة التي خصنا الله بها حين سخر آياته لتكون لنا قبسا لكي نحسن ضيافتها ونخصها بالشكر والثناء ونحمد الله علي جميل هباته وعظيم خلقه، فكم آية أنزلها الله لنا ليكرمنا بها وكم آية نزلت لهدايتنا سبيل الصراط، وكم آية نزلت لترينا الخيط الابيض من الاسود، وكم آية نزلت لبر الوالدين والاحسان لهما ولذي القربى، وكم آية نزلت وهي تحثنا حثا على احترام الاخر والعطف والمحبة ونشر السلام قال تعالى (وجعلنا آية الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شئ فصلناه تفصيلا).. الاسراء12

***

مريم لطفي

في المثقف اليوم