قضايا

الغلاة الجدد.. الراديكالية السلفية السنيّة

ميثم الجنابيالعراق  نقد الواقع وتأسيس البدائل (7)

إن الظاهرة الصدرية لا تستنفذ صور ونماذج الراديكالية السياسية العراقية الحالية، بقدر ما أنها تعبر عن احد أشكالها النموذجية. فالراديكالية متنوعة الأشكال والمحتوى شأن كل ظاهرة تاريخية عريقة. فالراديكالية ليست شرا بحد ذاتها، كما أنها تظهر دوما بوصفها تيارا ملازما للحركات التاريخية الكبرى. بل يمكننا القول، بأنها تظهر بوصفها التيار الملازم لوعي الانتقال أو الانتقام. بمعنى أنها تتحسس أو تدرك في أولويات رؤيتها العملية قيمة أو ضرورة التغيير.

فالراديكالية هي الصيغة الأكثر فعالية لسيادة الرؤية النفسية والوجدان العاطفي، أو للحراك الشرس لترهل التقاليد أو جمودها المحاصر بقيود الغيرة وحمية الإيمان. الأمر الذي يجعلها دوما في «طليعة» المواجهة والتحدي، وفي مقدمة العازمين على الفعل، شأنها شأن كل طاقة مغرمة بما تعتقده صحيحا ومقدسا. من هنا ملازمتها لمراحل الانتقال الكبرى والعاصفة في تاريخ الأفراد والجماعات والأمم. وذلك لأن من الصعب تحلي الأفراد والجماعات والأمم بقواعد السلوك العقلاني في مراحل الانتقال العاصفة والتحولات العنيفة المتوقعة منها والمفاجئة. إذ عادة ما تلف هذه الأحداث الجميع في أفلاكها وتثير فيهم كوامن الغريزة وعنفوان الجسد بالشكل الذي يعطل في الأغلب تأملات العقل وصدق الحدس ويرميهما في سلة الانتماء والمواجهة. وهي الحالة التي تجعل من عقلانية الرؤية وواقعيتها أمرا غاية في التعقيد والندرة.

كل ذلك يشير إلى الحقيقة القائلة، بأن الانقلاب العنيف والمفاجئ عادة ما يذهل المرء، ويجبره على الغيبوبة مهلة من الزمن لكي يكون بإمكانه تأمل مقدمات الأحداث ونتائجها الممكنة. وهي حالة معقدة بالنسبة للفئات الاجتماعية والقومية، واشد تعقيدا ودرامية في الظروف التي يعيشها العراق حاليا. مما جعل ويجعل منها حالة فريدة من حيث قواها الاجتماعية والسياسية وسندها الأخلاقي، خلافا لحالات الانتقال التي لم يخل منها تاريخ كثير من الأمم والدول. إذ يقف العراق أمام انتقال جرى بمعزل عن إرادته الخاصة، وفي ظل ضعف شبه شامل لقواه الاجتماعية والسياسية، وهشاشة البنية الاقتصادية للدولة واندثار سندها الأخلاقي والمعنوي. وفي ظل هكذا ظروف، يصعب توقع أن تكون ردود الأفعال متسمة بالقدر الضروري الذي تفترضه الحكمة السياسية والتاريخية للمجتمع وقواه السياسية والفكرية. وعادة ما يفرز هذا الواقع اشد الصور والنماذج تطرفا وراديكالية في التعامل مع النفس والآخرين. كما أنها الحالة التي تجعل من الفكر جزء من الأهواء السياسية. مع ما يترتب عليه من تلاشي الأبعاد الاجتماعية في السياسة نفسها. أما تكامل الفكر والاجتماع والسياسة في وحدة مربوطة ومعقولة بفكرة الدولة والهوية الوطنية، فإنه يتطلب على الأقل حدا أدنى لتذليل حالة الانتقال ونفسية المؤقت في سلوك وشخصية الأفراد والجماعات والأحزاب السياسية. وهو أمر ممكن فقط من خلال ترسيخ بنية الدولة الشرعية ومؤسساتها المحترفة، بوصفه الأسلوب القادر على صنع النظام الضروري للحرية الفردية والاجتماعية ومن ثم تأهيل الجميع لرؤية الحد الفاصل بين المفاهيم والقيم. حينذاك يصبح من الممكن رؤية الأبعاد الضرورية في مفاهيم وقيم المجتمع المدني والديمقراطية والعدالة والحق والنضال والجهاد والمقدس وغيرها.

وإذا كانت كلمة الجهاد والمقدس أكثر الكلمات إثارة في مجال الوعي الاجتماعي والسياسي والأخلاقي في ظروف العراق الحالية، فلأنه يعاني من شحة مضمونها الحقيقي. فقد ابتذلت الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية كل المعاني الإيجابية الممكنة في فكرة الجهاد والمقدس. وجعلت منهما مجرد كلمات مثيرة للتقزز وذلك بسبب وضعها كل الأصناف المتخيلة للإرهاب تحت شعارات «الجهاد المقدس». بعبارة أخرى، أنها اختزلت الجهاد والمقدس في أفعال تتعارض بصورة مطلقة مع المضمون المتراكم فيهما تاريخيا بدء من عصر الخليقة وانتهاء بالعثور على صدام في مخبئ الفئران! وتعبر هذه الصورة من الناحية التاريخية عن الضعف الفعلي في بنية الدولة والمجتمع وعدم قدرتهما على تجاوز مرحلة الأسطورة إلى مصاف المنطق في التعامل مع الإشكاليات الواقعية التي تواجهها الدولة والمجتمع. حينذاك يصبح «المقدس» الشعار الذي ينبغي أن يستقطب القوى الكامنة في الأفراد والجماعات والأمة في قبضة واحدة قادرة على التلويح والمواجهة والعراك. حينذاك يصبح المقدس فعلا سياسيا له معناه وقيمته الفعلية. أما في ظل افتقاد الأفراد والجماعات والأمة إلى دولة قادرة على تقديم نفسها باعتبارها حاضنة وجودهم التاريخي وهويتهم الوطنية، فإن الكلمات المعلنة والشعارات المدوية في سماء الإعلام تصبح مجرد أصوات مثيرة للسماع فقط. مما يجعل منها صخبا مزعجا ويفقد الكلمات بريقها المغري ومعناها المثير للعقل والوجدان. وتؤدي هذه الحالة بالضرورة إلى إثارة أفعال مضادة لما في أصول الكلمات. ولعل كلمة الجهاد والمقدس من بين أكثرها نموذجية بهذا الصدد في ظروف العراق الحالية.

فكلمة المقدس من بين أكثر الكلمات تعقيدا بالنسبة للتفسير العقلاني والتأويل الوجداني وذلك بسبب صعوبة حصر مضمونها بأمور هي نفسها عرضة للزوال. والجهاد نفسه يفترض تحديد الأبعاد الضرورية لما دعته تقاليد الإسلام الفقهية والفلسفية بفكرة الفرض والواجب. في حين إن كل ما هو حولنا من مظاهر الوجود دلائل على أنها عرضة للتغير والتبدل. ومن ثم فإن كل القيم التي تبدو في مظهرها شديدة الثبات تنحل كما لو أنها من مخلفات الماضي وبقاياه الميتة. وهي حالة تجعل من الضروري أيضا إعادة النظر النقدية بفكرة المقدس وتأويلها الوجداني بالشكل الذي يجعلها حية وإنسانية من حيث دوافعها وغاياتها. لاسيما وإن الكثير من الأعمال الإجرامية التي جرى ويجري اقترافها في العراق حاليا عادة ما تؤطر وتقدم على أنها جزء من تاريخ «مقدس» و«جهاد» من اجله. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى مظاهر الإرهاب والتخريب الحالية في العراق على أنها جزء من تقديس العنف المميز لزمن التوتاليتارية والدكتاتورية. بعبارة أخرى، إن ما جرى ويجري من إرهاب هو التعبير النموذجي عما يمكن دعوته بالاستظهار السياسي العابر للأمراض المزمنة الموروثة من بقايا وتقاليد الاستبداد. إذ نعثر فيها ليس فقط على محاولة إثارة الفتنة الطائفية، بل واستمرار لها.

ذلك يعني أن هذا النوع من «الجهاد» ما هو في الواقع سوى الصيغة الأكثر تطرفا للخروج على إمكانية الإجماع العراقي حول مبادئ وقيم يمكنها أن تعيد إنتاج المعنى الحقيقي لفكرة المقدس بوصفه كل ما لا يمكن ابتذاله، ولفكرة الجهاد بوصفه أسلوبا للمساهمة العقلانية في بناء الذات العراقية. وتفترض هذه الاستعادة الانطلاق من تحديد طبيعة الصراع الحالي وآفاقه. انه يفترض الإقرار بأن جوهر الصراع القائم في العراق اليوم يقوم بين ممثلي تقاليد الاستبداد والتوتاليتارية والتقليدية من جهة، وقوى الديمقراطية والدولة الشرعية والمجتمع المدني من جهة أخرى. وإذا كانت القوى البعثية - الصدامية التي كانت تمثل تاريخ الاستبداد والتوتاليتارية والتقليد قد تعرضت إلى هزيمة سياسية ساحقة، فإن رصيدها الأيديولوجي والاجتماعي مازال يتمتع بقوة نسبية في العراق. وهو رصيد له موارده القوية على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي المتمثل بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي ارتبطت به سياسيا وتاريخيا طوال وجوده في سدة الحكم. وليست هذه القوى في الواقع سوى السبيكة الجديدة من التطرف والإرهاب التي يشكل الغلاة الجدد في العراق نواتها الفاعلة. فهي القوى التي تحاول استلهام فكرة المقدس المزيفة والجهاد المقلوب من اجل تحويلهما إلى غطاء سياسي لاستعادة البنية التقليدية وتراث الاستبداد والتوتاليتارية المنحلة.

فهي قوى لا تدرك لحد الآن الحقيقة البسيطة القائلة، بأن الاستبداد مصيره الزوال. إلا أننا نعرف في الوقت نفسه، بأن زواله عادة ما يثير كميات هائلة من المشاكل والمعضلات التي تقع على الأجيال اللاحقة مهمة حلها. وليس ما يجرى في العراق حاليا سوى الاستمرار «الخفي» لتقاليد الاستبداد، التي جرى إعادة إنتاجها من خلال ملابسات تاريخية هائلة، مرتبطة بطبيعة الاحتلال الكولونيالي للعالم العربي وتجزئته، وبعثرة التراكم الفكري والاجتماعي والمؤسساتي فيه من خلال الانقلابات العسكرية، وصعود الهامشية إلى السلطة، وسيادة النزعة الراديكالية. وبمجموعه أدى ذلك إلى صنع توتاليتاريات دنيوية ودينية، ليس الغلاة الجدد سوى الصيغة الأكثر همجية لها. بمعنى أنها الحالة التي تشير إلى تزاوج وتوليف التقاليد التوتاليتارية الدينية والدنيوية. ويمكن فهم آلية نشوء هذه الظاهرة وفعلها إذا أخذنا بنظر الاعتبار كون العراق البعثي الصدامي كان «العتبة المقدسة» لهؤلاء الغلاة الجدد، الذين اخذوا يتحسسون سقوطها التاريخي، باعتبارها خيانة تاريخية «لمقدساتهم». وليس مصادفة أن تكون ردود فعلهم عنيفة للدرجة التي تتطابق من حيث الوسيلة والغاية مع أكثر مظاهر العنف الهمجي، تماما كما تغيب صورتهم الفعلية وراء ملامح الملثمين والمقنعين، أي المختبئين وراء أغشية تمثل في رمزيتها غطاء الغيلة والغدر.

فمن المعلوم والمعروف عن التاريخ الفعلي للراديكاليات «المتنورة» و«اليسارية» هو وضع نفسها وإعلاناتها السياسية في صف واحد يرتقي إلى مصاف الاستعداد المباشر والعلني للتضحية الفردية، باعتباره أسلوب تأييدها وتوكيدها وتحقيقها للفكرة العامة. في حين يمثل الغلاة الجدد في أساليبهم احد أكثر نماذج السقوط السياسي، كما يظهر ذلك في هذا الكم الهائل من التفجيرات القاتلة في مختلف مدن العراق. وتشير هذه الممارسة أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة الفراغ الذي صنعه زمن طويل من نفسية الاستبداد والقتل الجماعي الملازم له. وإذا كانت مختلف أساليب القتل الجماعي للمدنيين العراقيين تستهدف أساسا «الشيعة» وأماكنهم «المقدسة»، فإن ذلك يشير أما إلى فقدان فكرة المقدس عند فاعليها أو تأكيدها العكسي. بمعنى اعتبار هذه الأفعال أعمالا تستمد «قدسيتها» من حيث كونها موجهة أساسا ضد الشيعة. وهي نفسية ليست غريبة على تقاليد التسنن السلفي منذ أن أطلقت للمرة الأولى تسمية الروافض، ومنذ أن أصبح شتم الإمام علي من على المنابر جزءا من تقاليد الصلاة الأموية (السنية)! وهي الحالة التي أكثر ما يمثلها تيار «القاعدة» أو «الجهاد في بلاد الرافدين» وأخيرها لحد الآن داعش!

وهي حالة ونموذج سوف تطرحان في وقت لاحق مهمة تحليل الأبعاد الأخلاقية في الفكر والممارسة السياسية العراقية الحالية، إلا أنها تبقى من حيث كونها ظاهرة سياسية حادة جزء من قضايا الحاضر، وبالتالي جزء من حالة الانحطاط السياسي والروحي الذي عادة ما يثير في مراحل الانعطاف الكبرى نفسية الراديكالية المتنوعة. وليست ظاهرة الغلاة الجدد في الواقع سوى النموذج الذي يمثل حالة ما أسميته بالحراك الشرس لترهل التقاليد أو جمودها المحاصر بقيود الغيرة وحمية الإيمان المزيف.

إننا نعرف جيدا بأن الأحداث الدموية لا تنشأ عن فراغ. بل يمكننا القول، بأنها التعبير النموذجي عن خلل هائل أما في بنية الدولة أو العلاقات الاجتماعية أو الأخلاق أو الفكر أو في جميعهم. وإذا كانت الطبيعة لا تحب الفراغ، فإن الفراغ الذي صنعه التسنن السلفي على امتداد قرون عديدة يشير إلى طبيعة الخلل الهائل في بنية الفكرة الإسلامية السنيّة وتقاليدها ككل. وهي تقاليد برزت بكامل قوتها التخريبية في العقود الأخيرة، بعد أن تمازجت مختلف تياراتها الراديكالية في سبيكة يصعب تحديدها بشكل دقيق، إلا أنها تتميز بصعود متنام لنفسية الإرهاب والعداء الشامل لكل ما لا يستجيب لتصوراتها وأحكامها، أي لعقائدها الخاصة.

فالعناصر الجزئية للعقلانية والليبرالية التي تراكمت في مجرى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في الحركات الإسلامية السنيّة قد أخذت بالاندثار شبه الشامل والتام مع صعود السلفيات السياسية المتشددة. ولعل من أهم مفارقات هذه «السلفية» هو فقدانها للأصول بالمعنى الفلسفي والفقهي والسياسي. الأمر الذي جعل من تصوراتها في الأغلب نسيجا خشنا من العقائد والأحكام الفقهية المرتبطة بعقائد الإيمان الرتيب والسلوك المناسب له.

لقد كانت هذه السلفيات المتشددة ردا مباشرا على هزيمة السلفيات الدنيوية (التوتاليتارية) واستكمالا لها. وفي هذا الواقع نستطيع العثور على استعادة حية للفكرة التي بلورها ابن خلدون قبل ألف عام عن خصوصية الانتقال من البداوة إلى التمدن. إلا أن هذه الخصوصية تكشف لنا في الوقت نفسه عن بعد آخر لم يتطرق إليه، ألا وهو طبيعة الارتباط العضوي بين البداوة والتسنّن السلفي الذي عادة ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفسية الاستبداد وفكرته السياسية في «الدولة». وهي حقيقة يمكن تأملها على أمثلة التاريخ الإسلامي ككل. فقد كانت جميع مراحل انحطاطه الثقافي مرتبطة بصعود التيار السنّي السلفي. وليس اعتباطا ألا ينتج التسنّن السلفي أية منظومات فكرية فلسفية. كما انه ليس اعتباطا أن يناهض الفلسفة العقلانية والتصوف والتشيع ومختلف المدارس الإنسانية الإسلامية الكبرى من خوارج ومعتزلة وغيرهم. بمعنى سلوكه التاريخي المتأصل في العداء لإبداع العقل الرفيع والروح المتسامي والوجدان الخالص. وليس اعتباطا ألا تتعدى التصورات والأحكام العقائدية المميزة للسلفيات المتشددة القديمة والمعاصرة أكثر من اجترار جزئي لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الموضوعة (الكاذبة). إضافة إلى أن اغلبها لا علاقة له بالحياة ومتطلباتها. إذ لا يتعدى أقصى اهتمامها متطلبات الجسد والماورائيات الغارقة بزبد التمنيات والعجائب. وهي صفات يمكن فهمها على أنها النتاج الملازم لنفسية البداوة والاستبداد.

ويشكل تاريخ السلطة في العراق الحديث نموذجا ناصعا لهذه النفسية. والقضية هنا ليست فقط في أن مرتع السنّة في العراق هو منطقة البداوة التاريخية، بل وفي اندماج تاريخ البداوة وبنيتها التقليدية بالسلطة. وليس اعتباطا أن تعارض هذه النفسية وترفض رفضا قاطعا فكرة ومبدأ الانتخاب والاختيار تحت حجج وذرائع شتى. أما في الواقع فإنها الصيغة الماكرة لنفسية البداوة والاستبداد، التي تعتقد بأن الشيخ يولد ليسود.

وفي ظل هذا التاريخ الخاص لنفسية البداوة والاستبداد، أصبح التسنّن في العراق المعاصر أحد المصادر الكبرى للاستبداد وتبرير الإرهاب. وإذا كان هذا الانطباع العام والجلي في الوقت نفسه في كل مناطق العالم الإسلامي والعالم ككل، فإن خصوصيته في العراق تقوم في انه اخذ يشعر للمرة الأولى بفقدان زمام «المبادرة» وانحساره التاريخي إلى حدوده الطبيعية. بمعنى إرجاعه إلى تخوم البادية. إذ لم يصنع التسنّن المتشدد والسلفي في العراق سوى صحراء قاحلة. ومن ثم لا يمكنه مع كل هبة ريح أن يجلب غير الرمال والرماد وبقايا عالم لا حياة فيه. والأحداث الدموية المتكررة في مختلف مدن العراق ليست إلا الصيغة الفعلية لهذه الرياح الرملية. إنها يمكن أن تصنع كثبانا من القتلى والجرحى، لكنها لا تستطيع حبس جريان الأنهار.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا التيار الجديد في الحركة السياسية العراقية والإسلامية وتقاليد المقاومة يكشف عن افتقاده لأبسط مقومات العيش والنجاح. وهو تيار لا يمكنه الاكتمال والظهور سياسيا وفكريا بسبب ضعفه مقارنة حتى بأكثر الأشكال تخلفا كما هو الحال في الوهابية المعاصرة وحركة طالبان. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم بزواله السريع مقارنة بأمثاله لأنه يجمع بين قوى متناقضة لا يوحدها سوى العداء العلني والمستتر لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي ضد التيار الكاسح للتقدم والحرية. والقضية هنا ليست فقط في أن الالتفاف برداء «المقدس» لا يقدس المرء، بل ويلزمه بالضرورة الارتقاء إلى مصاف البدائل الأجمل. بينما لا توجد في كل حيثيات الغلاة الجدد العلنية والمستترة ما يوحي باقترابها من ابسط مقومات ومبادئ الاعتدال المميزة لتقاليد الإسلام الحقيقية وتاريخ الحركات السياسية المعتدلة والإنسانية القديمة والحديثة. إذ ليس في أقوال وأعمال الغلاة الجدد ما يمكنه أن يوحي ولو عن بعد بإدراك أدنى مستويات المقدس وحقيقة الجهاد. إذ لا يتعدى «مقدسهم» أكثر من كونه الصيغة الأيديولوجية للتعصب والانعزال الثقافي شبه التام، والاغتراب عن قيم الحضارة الإنسانية وتاريخها الموحد، والانهماك الفرج بالهمجية والعيش بقيمها المدمرة. وهو غلو يقف من حيث الجوهر على هامش الحركة العامة للظاهرة الإسلامية الكبرى بوصفها مركزية إسلامية عالمية. وليس ذلك بسبب تمثيله لمصالح لا علاقة لها بالعراق وواقعه الحالي وآفاق تطوره فحسب، بل ولاغترابه الشامل والتام عن حقيقة الإسلام. فحقيقة الإسلام ليس في السنّة والتسنن، بل بمبادئه الكبرى. أما في ميدان الحياة السياسية فإنه يقف ضد التيار العام للتحرر والديمقراطية والنظام الشرعي.

***   ***  ***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم