قضايا

انحطاط الفكرة الوطنية العراقية.. دستور الهوية المبتورة

ميثم الجنابيالعراق نقد الواقع وتأسيس البدائل (10)

إن اختيار قضية الدستور باعتبارها موشور الرؤية الوطنية يستمد مقوماته من قيمته الجوهرية بالنسبة لبلورة وتأسيس الهوية الوطنية. كما إننا نعثر فيه على مستوى ارتقاء الرؤية الحقوقية للهوية الوطنية. وحالما يتحول الدستور إلى «قضية» فإن ذلك دليل على وجود خلل في فكرة وماهية الهوية الوطنية نفسها. وعادة ما يرافق هذا التعارض نشوء فكرة الدستور أو محاولة تحقيقها في بنية الدولة الجديدة. لكن العراق ليس دولة جديدة. والقضية هنا لا تقوم فقط في تاريخه العريق وتقاليد المدارس الحقوقية السارية في وعيه الثقافي، بما في ذلك في ابسط مظاهر السلوك الاجتماعي واللغوي للناس، بل وبتقاليد الفكرة الدستورية العصرية أيضا.

فمن المعلوم، إن العراق عرف مجموعة من الدساتير هي كل من دستور عام 1925 (الملكي) ودستور 1958 (المؤقت) ثم دستور 1964 (المؤقت) ودستور عام 1986 (المؤقت)، إضافة إلى تعديلات عديدة وقوانين إضافية. وبمجوعها تعبر عن مسار الدولة، بمعنى صعودها وانحرافها وسقوطها، الذي توج بظهور «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية»، بوصفه «الصيغة القانونية» لانعدام تاريخ القانون وفكرة الحق والحقوق العراقية المؤسسة. إذ لم يكن «قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية» من وجهة نظر الفكرة الوطنية سوى نكوصا مريعا وانحرافا مخزيا عنها ولها. وهو تقييم لا علاقة له بمضمون «القانون» كما هو، وذلك لأنه يبقى في نهاية المطاف جزء من لعبة القانون والسياسة، أي انه لم يكن نتاجا لتطور الوعي الوطني العراقي بإدارة شئونه الذاتية. وهي نتيجة تعكس مسار الخلل الذي تعرضت له فكرة الوطنية والعراقية والعراقي في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين.

ففي دستور 1925 نقرأ في المادة الثانية ما يلي:«العراق دولة ذات سيادة مستقلة حرة. ملكها لا يتجزأ، ولا يتنازل عن شيء منه». ونقرأ في المادة السادسة:"لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية، والدين، واللغة". وفي المادة السادسة عشرة نقرأ "للطوائف المختلفة حق تأسيس المدارس لتعليم أفرادها بلغاتها الخاصة، والاحتفاظ بها على أن يكون ذلك موافقا للمناهج العامة التي تعين قانونا". وفي المادة السابعة عشرة نقرأ "العربية هي اللغة الرسمية سوى ما ينص عليه بقانون خاص". والمادة التاسعة عشرة تقول "سيادة المملكة العراقية الدستورية للأمة". وتشترط المادة الثلاثون المتعلقة بأعضاء "مجلس الأعيان أو مجلس النواب" في فقرتها الأولى أن يكون عراقيا. أما المادة الثامنة والأربعون فتقول:"يعتبر العضو في مجلس النواب ممثلاً لعموم البلاد العراقية وليس لمنطقته التمثيلية". إن الحصيلة العامة لهذه المواد المتعلقة بتحديد ماهية ووظيفة العراقي والعراقية والوطنية تصب في اتجاه ترسيخ وتعميق وتأسيس فكرة الحق والمواطنة الدستورية. بمعنى أنها تبني فكرة المواطنة وحقوقها على أسس قانونية خالصة. فالمفاصل الجوهرية فيها تشكل منظومة الرؤية الحقوقية للمواطنة والعراقية، أي للهوية الوطنية العراقية. فهي منظومة متوحدة في رؤيتها الحقوقية، لأنها تنطلق من العام إلى الأمور الأشد تخصصا في تحديد ماهية الوطن والمواطنة ووظائفها على كافة المستويات المدنية والحكومية. إنها تنطلق من أن العراق وحدة واحدة لا تتجزأ. كما أنها وحدة مبنية على أساس أولوية وجوهرية القانون، تحكم بدورها فكرة المواطنة. وتعطي هذه الفكرة له حق تمثيل الدولة والعمل بموجب مصالحها الموحدة الكبرى. وذلك لأن العراقي حسب مواد الدستور هو الوحيد الذي يحق له أن يكون عضوا في مؤسسات الدولة وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومن ثم فهو ممثل الدولة والبلاد ككل، وليس منطقة أو فئة لحالها. وتستند هذه الفكرة بدورها إلى الأمة (العراقية) هي مصدر السيادة. ولا تتعارض هذه الأفكار مع ضمان حقوق مختلف الأقوام الصغيرة في ممارسة حقوقها الثقافية كما ضمنها الدستور في مجال اللغة والشعائر وغيرها من الجوانب. إلا انه كفل وحدتها الثقافية والإدارية والتعليمية وغيرها بوحدة اللغة الرسمية (العربية). مما سبق نستطيع القول، بأن دستور 1925 كان دستورا تأسيسيا متجانسا في إرساء أسس الوطنية العراقية. ومن ثم تأسيس فكرة الهوية العراقية (الوطنية) من خلال رفعها إلى مصاف "الأمة". وفضيلته التاريخية الكبرى على كل ما تبعه من دساتير، تقوم في انه أرسى فكرة الهوية الوطنية على أسس قانونية بحتة ومحكومة بفكرة الحق والحقوق المدنية والدولتية.

بينما نعثر في دستور 1958 على أول انحراف كبير وجوهري في ما يتعلق بفكرة الهوية الوطنية العراقية. وهو انحراف حددته نفسية القطع الراديكالي مع تجارب الفكرة الحقوقية في التاريخ السياسي العراقي الحديث. وهو قطع نعثر عليه في (ديباجة) الدستور، التي تعلن "باسم الشعب" "سقوط القانون الأساسي العراقي وتعديلاته كافة منذ 14 تموز سنة 1958"، والمقصود بذلك بدء من الرابع عشر من تموز 1958 أو كل التعديلات التي أجريت على الدستور قبل يوم الرابع عشر من تموز 1958. وتعكس هذه الصيغة في خللها المعنوي لا اللغوي عمق الخراب الكامن فيها. فقد كانت تتمثل أتعس أنواع القطع الراديكالي الذي رمى تجربة أربعة عقود من الصيرورة التأسيسية للدولة، التي هي بمثابة تاريخ الحكمة الفعلية للفكرة القانونية والسياسية للعراق الحديث، في مهب المغامرة الرعناء والتهور الطائش للنفس العسكرية. ووجد هذا التهور تعبيره في الموقف من الهوية الوطنية العراقية، التي تحولت من ميدان التأسيس الحقوقي إلى فضاء التلويح السياسي ومهاترات التمرد الأيديولوجي.

ففي المادية الثانية من الدستور يجري اعتبار "العراق جزء من الأمة العربية". كما تتحدث المادة الثالثة عن "الكيان العراقي"، باعتباره الكيان الذي يقوم «على أساس من التعاون بين المواطنين كافة باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية»، أما المادة التاسعة فتتحدث عن المواطنة بالعبارة التالية:"المواطنون سواسية أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة ولا يجوز التمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة". فمن الناحية الشكلية والظاهرية نقف أمام "انجاز" كبير في إبراز الهوية العربية للعراق وماهيته الوطنية الخاصة من خلال إيجاد الصلة المعقولة بين انتماءه القومي العام وخصوصية مكوناته القومية الأخرى. بحيث وجدت انعكاسها أيضا في الشعار الجديد للعراق المأخوذ من مسلة النصر للملك الاكدي نرام سين حوالي 2100 ق. م. إشارة منه إلى شعار العدل والعراق في الدولة الاكدية (2300 ق.م.). أما الرؤوس الثمانية للنجمة العربية فهي إشارة إلى أن العراق جزء من الأمة العربية. في حين كان يرمز السيف العربي والخنجر الكردي إلى الوحدة الوطنية العراقية المدعومة برموز الجيش والزراعة ودجلة والفرات والمكتوبة بالخط الكوفي.

 فقد تمثلت هذه الفكرة بقدر لا يخلو من الاعتدال العقلاني وحدة الأبعاد الوطنية والقومية، إلا أنها كانت تحتوي في أعماقها على كمون الإثارة الراديكالية للجماهير المتحمسة بوجدانها المخمور بارتعاشه العسكر المتأججة بحب الزعامة وصخب الخطب الرنانة. فقد كانت الجماهير تصاب بالجذبة الصوفية وتتمايل أعطافها ويتواجد وجدانها شأن الطاولات العتيقة المهزوزة الأرجل وهي تتمايل مع خطب الزعيم عبد الكريم المدوية بأعلى درجات الاستهلاك الممكن لبطاريات الراديو (الترانزيستور) وهو يتوسط في شموخ غريب أمام أفواه الجماهير المفتوحة على رنين الكلمات، وآذانها المغلقة على ما في هذه الكلمات من معنى. فقد جعلت هذه الحالة من البصر بصيرة، وبما أن العين لا ترى غير ما تسمع، وما تسمعه هو دغدغة للوجدان المسحور بحبور لا يدرك كنهه، من هنا كان قبول الكلمات أو رفضها جزء من لعبة اللامعقول. وهي الحالة التي جعلت أيضا من الممكن قبول أي دستور مهما كانت كلماته لأنها تبقى في نهاية المطاف جزء من رنين المرحلة وليس عقلها. إذ لا عقل سياسي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. أما العقلانية فقد تبخرت في هوس الجماهير المحتشدة والمتضاربة والمندفعة للانتقام والتشفي والثأر، دون أن تدرك بأن "الثورة" التي دفعتها إلى حرق الملكية ورجالها ورموزها وعائلاتها لم تكن سوى البداية التي أخذت تحرق رموز الفكرة الحقوقية.

طبعا كان من الصعب آنذاك بالنسبة للأغلبية المطلقة من الناس التفريق بين الفكرة الحقوقية ورموز السلطة «البائدة». وذلك بفعل تكهرب الجماهير بالحماس المفرط للجيش وتقليدها المباشر للأحزاب التي رمت بين ليلة وضحاها كل تاريخها السياسي في زمن المغامرات الكبرى والمؤامرات الصغيرة. الأمر الذي وجد انعكاسه في السرعة المدهشة لكتابة الدستور وعدد المشتركين فيه ومواده الثلاثين! فقد كان دستور 1958 نموذجا لتقاليد الارتجال المميزة للشعر العامي والأهازيج الريفية. من هنا غلبة النفسية السياسية فيه على الفكرة القانونية. وميزت هذه الحالة كثرة تناقضاته الداخلية وكمون الخراب الهائل فيه بالنسبة للفكرة الوطنية، مع انه كان يبدو في ظاهره ونيات القائمين وراء كتابته وإعلانه تجسيدا حيا لها. أما في الواقع فقد كانت الذهنية الراديكالية المتحكمة في مواده السياسية وضعف لغته القانونية وإدخال الجيش في تأسيس فكرة الحقوق وتطبيقها، المقدمة التي نهشت وسوست فكرة الوطنية الحقيقية والهوية العراقية. فقد رفع هذه الدستور للمرة الأولى في تاريخ العراق فكرة الإسقاط الراديكالية والإلغاء التام لتجارب الفكرة الحقوقية إلى مصاف «القانون الجديد» للدولة. ومن الناحية الفعلية كان ذلك يعني رفع فكرة اللاشرعية إلى مصاف القانون، أو جعلها «مرجعية» معقولة ومقبولة لكل من تحلو له مهمة الحديث«باسم الشعب». وهي «مرجعية» تحلو للنفس المتآمرة، كما أنها تتمتع بتناقضات تتلذذ بها الذهنية المغامرة. أما النتيجة المترتبة عليها فهي تحويل الفكرة الوطنية والحديث باسم الوطن وتمثيل مصالحه إلى جزء من مغامرة اللعبة السياسية وليس نتاجا لفكرة الحق ومنظومة الحقوق الدستورية. من هنا لم يكن إدخال مكونات «العربية» القومية وتجزئة العراق قوميا سوى الصيغة الأولية للاحتراب الداخلي. فقد كانت فكرة وعبارة الشراكة القومية في الوطن عبارة سياسية، وذلك لأن الشراكة الوحيدة الممكنة في الوطن هي الوطنية، أما القومية فهي جزء مكمل لها بمعايير الحقوق الثقافية.

وهو التناقض الذي استغلته القوى القومية العربية في غلوها السياسي. فقد كان غلوها السياسي القائم على تغليب القومي على الوطني اقرب ما يكون إلى متاجرة رخيصة في مزاد شعبي. ولا ضرورة هنا للاستفاضة في حيثيات وتاريخ المرحلة، لأن النتائج خير دليل وبرهان على أن ما قامت به هذه القوى لم يتعد في كليته وجزئياته سوى تخريب الفكرة القومية وإفشال مشروع النهضة العربية والوحدة القومية وتوسيع مدى الانحطاط والتخلف إلى أبعاد مرعبة، بحيث جعلت كل أخطاء وهفوات ورذائل الجمهورية الأولى في ميدان الفكرة الوطنية صوابا وحكمة وفضيلة! وهي الحالة التي كان يتضمنها دستور عام 1964، بوصفه النموذج الأكثر تطرفا في مصادرة إرادة المجتمع ورغباته! ونعثر على هذه العبارة في ديباجة الدستور نفسه، الذي يقول "إجابة إلى رغبة الشعب والقوات المسلحة التي زحفت طلائعها في الثامن عشر من شهر تشرين الثاني سنة 1963 لإنقاذ البلاد من شرور الانحراف والتسلط الحزبي، وتحقيقاً لروحية ثورة ذلك اليوم المجيد التي تهدف إلى إيجاد الاستقرار والطمأنينة وتهيئة الفرص الكافية لمختلف أبناء الشعب دون تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو الدين، للانصراف إلى العمل المثمر، وتصحيح الأوضاع الاجتماعية وبناء المجتمع الفاضل، الذي ينعم بالرفاه والثقافة والعلم والصحة ويعمل على تنشئة الأجيال الصاعدة على الروح العربية الإسلامية وحب الوطن والوحدة الشاملة".

لقد استكملت الراديكالية القومية المتطرفة هنا صيغتها الأولية في ما يتعلق بتخريب الأبعاد الحقوقية للفكرة الوطنية. إذ جمعت بين أمور يصعب حدها بمعايير الفكر السياسي العلمي والقانوني الحقوقي. ففي المادة الأولى نقرأ ما يلي:"الجمهورية العراقية دولة ديمقراطية اشتراكية تستمد أصول ديمقراطيتها واشتراكيتها من التراث العربي وروح الإسلام". وفي ما يتعلق بالشعب العراقي، فان المادة تحده بالعبارة التالية:"الشعب العراقي جزء من الأمة العربية هدفه الوحدة العربية الشاملة وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها في أقرب وقت ممكن مبتدئة بالوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة". أما فكرة المواطنة كما وردت في المادة التاسعة عشرة فتقول:"العراقيون متساوون في الحقوق والواجبات العامة بلا تمييز بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو أي سبب آخر، ويقر هذا الدستور الحقوق القومية للأكراد ضمن الشعب العراقي في وحدة وطنية متآخية". أما المادة الحادية والأربعون فتشترط في رئيس الجمهورية "أن يكون عراقياً مسلماً من أبوين عراقيين متمتعاً بالحقوق المدنية وممن قدموا للوطن والأمة خدمات مشهودة". في حين تضمنت المادة الثانية والأربعين المتعلقة بأداء اليمين الجمهوري العبارة التالية "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لديني ووطني وأمتي وأن أحافظ على النظام الجمهوري واحترام الدستور والقانون وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه". وهو نفس اليمين الذي ينبغي أن يقدمه أعضاء الحكومة أمام رئيس الجمهورية قبل مباشرتهم مهام وظائفهم حسبما نصت عليه المادة الثالثة والسبعين.

وعندما نضع كمون الطاقة الراديكالية في دستور عام 1964 في مسارها المتراكم ما بعد الرابع عشر من تموز 1958، فإننا نقف أمام دورة جديدة اشد عنفا في تخريب الأبعاد الوطنية للهوية العراقية. وهو تخريب كان يكمن في إعلاء فكرة وممارسة "الشرعية السياسية" (الثورية) على فكرة وممارسة الشرعية والقانون. من هنا مصادرته الفرحة لإرادة الشعب والجيش ورفعها إلى مصاف "الروحانية" و"المقدس" كما نعثر عليها في ديباجة الدستور المذكورة أعلاه، وبالأخص في العبارات القائلة بإنقاذ البلاد من شرور الانحراف والتسلط الحزبي، وتحقيقاً لروحية الثورة وتحقيق الاستقرار والطمأنينة لمختلف أبناء الشعب وتصحيح الأوضاع الاجتماعية وبناء المجتمع الفاضل، وتطوير الثقافة والعلم والصحة وتنشئة الأجيال الصاعدة على الروح العربية الإسلامية وحب الوطن والوحدة الشاملة. وقد احتوت هذه العبارات في أعماقها على استهزاء هائل بفكرة الرغبة والإرادة الشعبية والروحية والاستقرار والطمأنينة والمساواة والرفاهية والتربية السليمة بمعايير الروح العربية الإسلامية. فقد كانت "ثورة ذلك اليوم المجيد" انقلابا تافها بكافة المعايير، ولا روحية فيه لغير نفسية المؤامرة والمغامرة. أما نتائجها المباشرة آنذاك فقد كانت القتل الكيفي والتعذيب والاغتصاب وفقدان الأمن وانتهاك ابسط الحقوق المدنية والإنسانية وتخريب العلم والمعرفة وتشويها شاملا "للروح العربية الإسلامية". وهي روح يصعب حدها بمعايير السياسة دع عنك بمقاييس القانون والحقوق. لكنها كانت "مقبولة" بمعايير الرؤية الراديكالية للهامشية السياسية والاجتماعية. من هنا خليط الرياء والغش والافتعال والدجل السياسي والأثرة والإرهاب والاستبداد المنظم، مع ما ترتب عليه من تشويه في الرؤية القانونية وحقوق المواطنة التي تخلط بين القومي والديني في «إيديولوجية علمانية» غير واضحة المعالم!

لقد كان إدخال عبارة أو فكرة "الروحاني" و"المقدس" على نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة وجعلها أسلوبا لبناء شعب واحد بروح عربية إسلامية هو المقدمة الفعلية لتخريب الاثنين، أي الدولة والأمة. مع ما فيهما من تناقضات في صريح العبارة وكمونها الذاتي. كما هو جلي في الخليط غير المتكافئ وانعدام الأولويات في الرؤية بين العراقي العربي والإسلامي والعلماني والديمقراطي والاشتراكي، كما هو جلي في المواد المتناثرة واليمين الدستوري. وتستمد هذا التناقضات ديمومتها وفاعليتها من انعدام الرؤية الواضحة لقيمة القانون وجوهرية الشرعية في الدولة. وهذه بدورها ليست إلا النتاج المترتب على سيادة النفسية الراديكالية ومفاهيمها الأيديولوجية، التي استكملها انقلاب السابع عشر من تموز 1968 ودستوره المؤقت.

ففي دستور عام 1968 نعثر على نفس بواعث وهواجس وغايات الدستور السابق، لأنهما من طينة واحدة، هي طينة الراديكالية الهامشية المتشبعة بنفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة والمحتقرة لفكرة القانون ومبادئ الحقوق والحق الاجتماعي والوطني. ففيه نعثر على نفس نغم الديباجة السابقة بعد تحويلها مصادرة إرادة الجماهير ورغباتها إلى مستوى الإيمان! إذ نقرأ فيها العبارات التالية:"إيمانا بحق هذا الشعب في الحياة الحرة الكريمة وثقته بقدرته على مواجهة الصعاب وإرادته التي لا تقهر وبعد الاتكال على الله وعلى المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة قامت فئة بارة من أبناء الشعب مؤمنة بربها وبأهداف الأمة العربية بتفجير ثورة السابع عشر من تموز 1968 وإنهاء الأوضاع الشاذة واستلام مقاليد الأمور بغية تأمين سيادة القانون وإيجاد تكافؤ الفرص للمواطنين والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية والقضاء على أسباب التمزق الداخلي وتحرير المواطن من الاستغلال والخوف والجهل والنعرات الطائفية والعنصرية والقبلية وكافة مظاهر الاستعباد، وإقامة مجتمع تسوده الأخوة والمحبة والتآلف والشعور بالمسؤولية إزاء الأحداث المصيرية وذلك عن طريق توفير الحياة الديمقراطية للمواطنين". وهي الديباجة «الوطنية» التي وجدت صيغتها الدستورية في المادة الأولى التي تعتبر «الجمهورية العراقية دولة ديمقراطية شعبية تستمد أصول ديمقراطيتها وشعبيتها من التراث العربي وروح الإسلام"، والتي تقرر في الوقت نفسه، بأن "الشعب العراقي جزء من الأمة العربية هدفه الوحدة العربية الشاملة وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها". أما المادة الرابعة، فإنها تعتبر «الإسلام دين الدولة والقاعدة الأساسية لدستورها واللغة العربية لغتها الرسمية». في حين تقرر المادة الحادية والعشرين ماهية المواطنة العراقية من خلال مساواة الجميع "في الحقوق والواجبات أمام القانون لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو العرق أو اللغة أو الدين ويتعاونون في الحفاظ على كيان الوطن بما فيهم العرب والأكراد ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية". في حين تردد المادة السابعة والستون والسابعة والسبعون نفس اليمين الدستوري السابق بالنسبة لرئيس الجمهورية.

إننا نقف أمام نفس الكمون الداخلي في مصير الدستور السابق. فدستور عام 1964 هو قاعدة دستور 1968 من حيث قواه وأشخاصه وأفراده ونوازعه وأيديولوجيته. بل إننا نرى الشبه التام في اغلب مواده المفصلية. والخلاف فقط في تعميق النفس الراديكالية، أي سحق اللغة القانونية وفكرة الحقوق. مع ما يترتب عليها من تدمير للفكرة الوطنية والهوية العراقية التي جرت مصادرتها من قبل حفنة من المغامرين جعلت من فعلها "إيمانا"، ومن نفسها "فئة بارة من أبناء الشعب مؤمنة بربها وبأهداف الأمة العربية"!! وهي عبارة أيديولوجية فضفاضة. والقضية ليست فقط في إننا لا نستطيع معرفة حقيقة "رب" هذه "الفئة البارة"، بل ولخطورة دمج إيمانها (السياسي الخاص) بالإيمان الإلهي. وتكمن هذه الخطورة في قدرتها على تزييف الأفعال والوسائل والغايات، واقتراف أشنع الجرائم باسم "أهداف الأمة العربية". وليس مصادفة أن تكون اغلب مواد الدستور مجرد قواعد عمل للأجهزة الأمنية والقمعية والعسكرية، بحيث تحول الدستور إلى صحيفة مرشدة لكيفية تفريغه من فكرة الحقوق والشرعية. أما الأهداف المعلنة، التي تسعى لصنع وحدة وطنية متينة ومتماسكة عبر «إنهاء الأوضاع الشاذة واستلام مقاليد الأمور بغية تأمين سيادة القانون وإيجاد تكافؤ الفرص للمواطنين والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية والقضاء على أسباب التمزق الداخلي وتحرير المواطن من الاستغلال والخوف والجهل والنعرات الطائفية والعنصرية والقبلية وكافة مظاهر الاستعباد، وإقامة مجتمع تسوده الأخوة والمحبة والتآلف والشعور بالمسؤولية إزاء الأحداث المصيرية وذلك عن طريق توفير الحياة الديمقراطية للمواطنين»، فان حصيلة تطبيقها في مجرى خمس وثلاثين سنة هو استفحال الأوضاع الشاذة في كافة نواحي الحياة، وانعدام القانون وفكرة الحق والحقوق والشرعية، وتلاشي الفرص للمواطنين بما يكفل لهم إمكانية العيش بأدنى درجات الكفاف!! وتمزق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية واستعباد الكائنات المنتشرة في العراق لأنه لا مواطنة فيه ولا مواطن، واستعباده بالخوف والجهل وتعاظم النعرات الطائفية والعنصرية والقبلية وكافة مظاهر الاستعباد، وخلو المجتمع من قيم الأخوة والمحبة والتآلف، وانعدام المسؤولية إزاء الأحداث المصيرية وانعدام مطلق للحياة الديمقراطية. باختصار أن النتيجة هي نقيض تام مائة بالمائة لما جرى الإعلان عنه زائد احتلال أجنبي!!

إن استقراء التجارب الدستورية في العراق وأثرها بالنسبة للفكرة الوطنية والهوية العراقية تبرهن على ما يمكن دعوته بتعمق وتوسع التخريب الفعلي في هذا المجال. إذ يمكننا القول، بأن كل دستور جديد هو خطوة إلى الوراء في ميدان فكرة الحق ومن ثم الحقوق المدنية للمواطن. مع ما يترتب عليه بالضرورة من انتهاك وتخريب لفكرة الوطنية وهوية الانتماء إليها. بحيث تحول الدستور في نهاية المطاف إلى جزء من لعبة القوى السياسية المغامرة وتصفية حساباتها مع الآخرين. وجعلت هذه التصفية من الزمن أسلوبا لتحطيم فكرة التاريخ في الدولة، ومن ثم تدمير آلية التراكم الضروري في الفكرة الوطنية. فالهوية العراقية أو الفكرة الوطنية وطبيعة ومستوى الانتماء إليها ليست إلا الصيغة الوجدانية لفكرة الحق والحقوق. وعلى قدر الحق والحقوق تتراكم فكرة الوطنية وهوية الانتماء. فالاستبداد لا يصنع هوية وطنية، وعادة ما يشكل احد المصادر الكبرى للخيانة الفردية والاجتماعية والوطنية. باختصار انه مصدر الشرور الكبرى. (يتبع....).

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم