قضايا

انحطاط الفكرة الوطنية العراقية.. دستور المؤامرة والمغامرة

ميثم الجنابيالعراق نقد الواقع وتأسيس البدائل (13)

إن حصيلة الانحراف والانحطاط التي تتحكم في نفسية وذهنية الأحزاب والنخب السياسية اكثر ما برزت بعد سقوط الدكتاتورية، تجاه «كتابة» الدستور. بمعنى أن الهمّ الجوهري بالنسبة لها هو ليس الدستور بوصفه الوثيقة الوطنية العراقية الجامعة لفكرة الشرعية والحق والمواطنة، بل بكيفية كتابته، أي بكيفية تضمينه مطالبا حزبية أو طائفية أو عرقية ضيقة. ولا تؤدي هذه الممارسة إلى إلا الخراب. وتجربة العراق الحديث خير دليل على ذلك. فالصدامية ومصيرها الخائب هو ليس من نصيب صدام، بل من نصيب كل فعل يتعارض مع حقيقة الهوية الوطنية العراقية. وحالما يصبح الدستور غنيمة سياسية، فإنه يتحول إلى صنم من أصنام الوثنية الجديدة. أما مواده فإنها لا تنتج غير «آلهة» صغيرة مهمتها إثارة الوساوس والهلوسة القامعة للعقل، والكابتة للضمير، والفاعلة في توجيه الطاقة البشرية صوب الانعزال والتخريب. ولم يتخلص العراق من هذه الحالة، أي لم يذلل مقدماتها ونتائجها كما توضح ذاك في مجرى الاستفتاء على الدستور (في منتصف عام 2005)، بحيث جرى تحويله إلى جزء من لعبة الدعاية السياسية والحزبية وتصفية الحساب مع الأعداء الفعليين والوهميين. فقد كانت لعبة تتحكم بخيوطها الخفية مهمة ربط الاستفتاء والدستور بمحاكمة صدام حسين. وهي خيوط ليس بإمكانها صنع نسيجا اجتماعيا وسياسيا وطنيا.

فمن المعلوم أن احد المعايير الجوهرية لرقي الأمم ومستوى تطور وعيها السياسي وروحها المعنوي يقوم في حجم ونوعية التزامها بفكرة الحق. فالحق هو المضمون المنطقي والروحي لفكرة القانون. ومن ثم فإن القانون هو الصيغة الوضعية لتنظيم شئون الحياة وجعل الحق في نصابه بوصفها العملية الضرورية للحياة نفسها. وتصل الأمم إلى هذه الفكرة كل بطريقتها الخاصة، باعتبارها النتيجة النهائية التي يفرضها منطق العقل وقيم الأخلاق وذوق الرؤية الجمالية، أي كل ما يحدد رؤية الأمة لمصالحها العامة والخاصة. وليس مصادفة أن تصل الرؤية الإسلامية للاستنتاج القائل، بان في القصاص حياة، أي في إحقاق العدل، مهما كانت صور تجسيده، أسلوبا لضمان حياة الجميع بوصفها القيمة العليا للوجود. وهي رؤية تعبر دون شك عن ملامح الحدس القائل، بأن القانون هو أسلوب توفير الشروط العامة لتجسيد فكرة الحق واغتنائها الدائم. فالجرائم غير متناهية في الأشكال، وبالتالي، فإن إحقاق الحق أيضا غير متناه في الصورة والمعنى والتحقيق، لكنه متناه في الغاية باعتباره وسيلة تكامل الفرد والجماعة بمعايير العقل والأخلاق والجمال. فقد تشكلت من هذه المكونات وتتشكل تاريخيا فكرة الحق. وبالتالي فإن أي خروج على منطقها الداخلي وأسلوب تحقيقه سوف يؤدي بالضرورة إلى انحطاط الدولة والمجتمع والأخلاق، وذلك لأن فكرة الحق هي الماسك الحقيقي لهذه المكونات الجوهرية للإنسان نفسه.

وهو استنتاج أكثر ما يوضحه تاريخ العراق الحديث، وبالأخص في مجرى عقوده الأربعة الأخيرة (ما قبل سقوط الدكتاتورية)، التي جسدت بصورة لا يحسد عليها مختلف أساليب وأشكال انتهاك القانون وفكرة الحق. أما النتيجة فهي واضحة للعيان بحيث لا تحتاج إلى أدلة عقلية للبرهنة عليها. فهي الحالة التي تتكشف بصورة مباشرة، بحيث ترتقي إلى مصاف ما أطلقت عليه تقاليد الإسلام عبارة "عين اليقين"! إذ لا يقين اشد جلاء في ظروف العراق الحالية من الفكرة القائلة، بأن الخروج على القانون ومنطق الحق لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى الخراب والانحطاط، الذي يشكل الخضوع للاحتلال الأجنبي والانصياع الذليل لرغباته مجرد مظهره العام. فالعبودية لا تنشأ بفعل الاحتلال، بل الاحتلال يظهر بسبب العبودية. إذ لا عبودية مع الحق. لكنها قادرة فقط على إعادة إنتاج الاحتلال بطرق وأشكال ومستويات مختلفة.

لقد كان الخروج على الحق في تاريخ العراق الحديث هو مصدر الإنتاج الدائم للخراب والانحطاط. ولم يكن زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية سوى زمن الاستبداد الشامل. وتاريخ الأمم بشكل عام بما في ذلك العراق يبرهن على أن الاستبداد لا يصنع غير مغامرين وعبيد. وكلاهما يصبان في مجرى واحد، هو مجرى الانحطاط والخروج على فكرة الحق، بوصفها عاصمة الوجود الإنساني. فإذا كان المقصود الحقيقي من فكرة الاستفتاء (على الدستور) والمحاكمة (لصدام حسين) هو رفع مستوى المجتمع والنخبة والأفراد والقوى السياسية إلى مصاف التكامل الفعلي بمعايير الدولة ومصالحها العامة، فإن تحويلهما إلى جزء من لعبة السياسة الماكرة وتكنيك PR (دعاية العلاقات العامة) هو دليل على أن مضمون الاستفتاء والمحاكمة كان مجرد استعادة فجة لنفسية وذهنية التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فقد كانت الأخيرة «بارعة» في مجال تخريب المفاهيم العقلانية والقيم الإنسانية. والنتيجة هي وقوفها الذليل أمام محاكمة لم ترتق في الواقع إلى مصاف فكرة الحق، وذلك لأنها لم تكن أكثر من لعبة المصالح السياسية الضيقة ومحكومة بالعبودية لقوة الاحتلال. والأتعس مما فيها هو ربطها من الناحية الزمنية (والسياسية) بالاستفتاء العام عن مسودة "الدستور الدائم". وهو ربط يشير من الناحية الفعلية على فشل الاستفتاء، ومن ثم فشل المحاكمة الحقيقة للصدامية، بوصفها احد أشنع نماذج الخروج على فكرة الحق والهوية الوطنية العراقية. بل يمكننا القول، بأنها تستعيد في كثير من أساليبها نموذج الصدامية في التغطية الصاخبة من اجل تمرير أفعال لا يمكنها أن ترسي أسس الوحدة الوطنية. على العكس، أنها تسير بالضد منهما مع ما يترتب على ذلك من هزيمة شنيعة لها بحكم الضرورة.

 فقد مارست الصدامية قبل عقود نفس هذه الأساليب عندما حولت "محاكمة الجواسيس" و"الانقلابيين" وملهاة "المصارعين" وحكايات "أبو طبر" وكثير غيرها إلى أساليب مبكرة من PR لتمرير اغتيالها للمعارضة والعقل الاجتماعي. أما في الواقع فإنها لم تقتل إلا فكرة الحق والدولة والمصلحة الوطنية. ولعل المفارقة المخزية في محاكمة صدام الحالية تقوم في أن الطرفين يتمسكان بفكرة الحق مع إنهما تجسيد نموذجي للخروج عليها. فصدام "العلماني" يمسك القرآن ويقول "كل ما بني على باطل فهو باطل"، والقضاة يحتمون في منطقة "خضراء" لا تعني في الواقع سوى "حق السير" بقواعد المرور الخاصة بها!! وتتضح معالم هذه المهزلة المدمرة على خلفية الاستفتاء. فمن الناحية الحقوقية والمنطقية والأخلاقية والسياسية والوطنية ليس الاستفتاء سوى المحاكمة التي يقوم بها الشعب في تحديد موقفه من القضايا الجوهرية والمصيرية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الاستفتاء العراقي الأخير كان حول "الدستور الدائم"، فإن ربطه بمحاكمة صدام هو هدر لفكرة الاستفتاء ومحاكمة الصدامية. فحقيقة الاستفتاء هي محاكمة من نوع رفيع. فعندما يقول الشعب بأغلبية مطلقة للدستور الدائم "نعم"، فإن ذلك دليل على انه دستور الوحدة الوطنية، كما انه دستور إدراكهم الحقوقي والسياسي، بأن ما فيه هو تذليل وتجاوز لزمن الاستبداد وتقاليد الخروج على الحق. وهو ما لم يحصل. لهذا لم يكن توقيت محاكمة صدام قبل إعلان النتائج الرسمية للاستفتاء سوى PR لتغطية عجز بآخر، أو لتمرير خرق للحق بخرق آخر مثله. في حين أن مهمة محاكمة صدام بالنسبة للعراق والعراقيين هي ليست محاكمة شخصية ولا أخذا بالثأر ولا تمريرا لجدول سياسي ضيق ولا أي شيء آخر غير محاكمة تقاليد الاستبداد والخروج على الحق. وهي محاكمة كان ينبغي أن يكون الإجماع على دستور دائم نموذجها الأرفع. بينما لم يؤديا كلاهما إلا إلى حالة مزرية تعبر عن خواء الاستفتاء والمحاكمة. وهو خواء يكشف طبيعة الخلل الجوهري في الفكرة الوطنية كما تمثلها النخبة السياسية المختبئة في "المنطقة الخضراء"، أي في المنطقة التي جعلها صدام حصنا "منيعا" له ضد الشعب وخوفا منه! ولا مفارقة في تاريخ السياسة العراقية أسخف من أن تتحصن القوى "الديمقراطية" و"الشعبية" و"الوطنية" و"الإسلامية" و"العلمانية" فيها. إن مجرد وجودها ومحاصرتها في "المنطقة الخضراء" هو دليل على إفلاسها، كما أنها إشارة على تغلغل الذهنية الصدامية إلى عقلها والهلع إلى نفسيتها. أما أن يتخاصما فيها في محكمة مغلقة على خلفية استفتاء خرب لدستور لا يقل خرابا منه، فهو دليل على الانحسار الفعلي في الفكرة الوطنية.

إن تجربة سنوات من سيطرة «القوى الديمقراطية» الإسلامية و«العلمانية» الكردية لم تنتج غير مسخ مشوه من طائفية عرقية ابتذلت بطريقة شنيعة فكرة الديمقراطية كما ابتذلت الصدامية فكرة الوطنية العراقية. وفيما لو تجاوزنا مختلف حيثيات الصراع السياسي الممكن في مراحل الانتقال العاصفة وفقدان البوصلة الوطنية في خوض غماره، فإن فكرة المصلحة الوطنية العليا تفترض على الأقل من جانب النخب السياسية الارتقاء إلى مصاف الحد الأدنى الضروري في إدراك قيمة الوحدة الوطنية. وهو الإدراك الذي تشكل مقدمته الأولية فكرة صياغة وتجسيد الدستور الثابت وإشراك المجتمع في استفتاء حوله. وذلك لما في الدستور من قيمة حقوقية، وما في الاستفتاء من قيمة سياسية اجتماعية يشكل توحدهما أسلوبا لصنع الإرادة الوطنية العامة. بمعنى إنهما يشكلان المقدمة الضرورية لبناء الفكرة الوطنية على أسس حقوقية اجتماعية وسياسية. إلا أن تحليل مضمون الاستفتاء ونتائجه في الموقف من الدستور يشير إلى إنهما لم يعملا في اتجاه تأسيس الفكرة الوطنية العراقية، بقدر ما إنهما يعملان من اجل تأسيس مختلف نماذج وصيغ التأقلم مع "العراق الجديد". وتكشف هذه الحالة عن عمق التجزئة الوطنية وشدة الاغتراب على أسس جزئية شارك ويشارك فيها الجميع كل على قدر ما فيه من ضعف فعلي تجاه الهوية العراقية والفكرة الوطنية.

فإذا كانت الأفعال التاريخية الكبرى هي التي تحدث للمرة الأولى، فإن قيمة موقعها "الأول" في ذاكرة الأمم يتحدد بمضمونها الفعلي، ومن ثم بنتائجها العامة وآثارها الخاصة بالنسبة لحياة الأفراد والجماعات والدولة والثقافة. أما تكرارها فإنه يشير أما إلى بقاء المشكلة دون حل، أو إلى أنها عملية متراكمة في الوعي والممارسة. فعندما تتكرر الثورات والانقلابات، فإن ذلك دليل أما على عدم تجسيد كل منها لما يرفعه من شعارات وأما على بقاء الأزمات دون حل منتظم. وعموما هو دليل على عدم الاستقرار الديناميكي في بنية الدولة والمجتمع والفكر. وهو حكم ينطبق من حيث الجوهر على كل فعل تاريخي كبير، باستثناء ما له علاقة بتقوية وتراكم الرؤية الثقافية والحقوقية للفرد والمجتمع. فهي الميادين التي تتمثل المضمون الديناميكي للاستقرار. وذلك لأن الرؤية الثقافية والحقوقية قادرتان على جمع وحفظ وتراكم العناصر الضرورية لفكرة النظام والحرية. وتشكل هذه الفكرة من حيث الجوهر مضمون المرجعية المتسامية للدولة العصرية والفكرة الوطنية.

وإذا وضعنا هذه الفكرة العامة في أساس تحليل الاستفتاء على الدستور (منتصف عام 2005)، فإن قيمته التاريخية تقوم في كونه الفعل الكبير الأول في ميدان الحرية والنظام بالنسبة لتأسيس الدولة العصرية والفكرة الوطنية البديلة في العراق. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار كونه الفعل التاريخي الأول الرامي إلى صنع رؤية وممارسة سياسية تستند إلى فكرة الشرعية من خلال تجسيدها في «قانون دائم» (دستور). ومن هذا المنطلق العام والمجرد يمكن اعتبار ما جرى هو خطوة فعلية في ميدان الحرية والنظام، أي في ميدان بناء أسس الدولة الشرعية والفكرة الوطنية. غير أن هذا الحكم العام يبقى مجردا من وجهة نظر المستقبل. وذلك لأن الغلبة فيه لفكرة النظام وليس للحرية، وللتجزئة القومية والعرقية والطائفية والجهوية وليس للوطنية العراقية. أو بصورة أدق أن مقدمات وأسلوب ونتائج الاستفتاء تشير إلى طبيعة وحجم الخلل الهائل في النسبة الضرورية بين الحرية والنظام، والعام والخاص في الوطنية.

فمن حيث مقدماته كان يجري وينطلق من حالة تمزق وصراع واحتراب قومي وعرقي وطائفي وجهوي. ومن ثم لا يحتوي على القدر الضروري من اجل تحقيق فكرة الإجماع الوطني والاجتماعي السياسي. وهو إجماع ضروري بالنسبة لبلورة دستور، أي "قانون دائم" يتسم بقدر من الثبات التاريخي. فهي الصفة الضرورية التي تعطي له قدرة الاستقطاب الواقعي للقوى الاجتماعية والتأثير الفاعل بالنسبة لإرساء أسس الوحدة السياسية المبنية على إدراك وطني عام. أما من حيث أسلوبه، فانه كان تجسيدا لحالة التمزق والصراع والاحتراب القومي والعرقي والطائفي والجهوي. إذ لا يستطيع هذا الأسلوب في نهاية المطاف أن يصنع تقاليد سياسية قادرة على تأسيس وترسيخ فكرة الشرعية وسيادة القانون. أما حصيلة تضافر المقدمات والأساليب فقد ظهرت في شكل ومدلول النتائج المباشرة في النسبة والأرقام المؤيدة والمعارضة للدستور الجديد. ففي المناطق الشمالية (السليمانية وأربيل ودهوك) تصل النسبة المؤيدة إلى حوالي 99%، وفي المناطق الغربية (الرمادي، صلاح الدين) تصل النسبة المعارضة إلى حوالي 90% وفي المناطق الوسطى والجنوبية (بغداد، الحلة، النجف، كربلاء، الديوانية، الناصرية، العمارة، البصرة) تصل النسبة المؤيدة إلى حوالي 96% . أما المناطق "المتأرجحة" (كركوك والموصل وديالي) فإنها تصل إلى المناصفة كمعدل وسط بينها جميعا.

إن هذه الصورة النموذجية للتأييد والمعارضة تنتمي من حيث المقدمات والأسلوب والنتيجة إلى نوع واحد، هو نوع القطيع. بمعنى أن النفسية والذهنية المتحكمة بها هي نفسية وذهنية القطيع وليس مواقف الاختيار الحر المميزة للرؤية المدنية والتمايز الاجتماعي والسياسي. فالتأييد والمعارضة محكوم كل منهما برؤية ضيقة تتراوح ما بين العرقية والطائفية والجهوية أو خليط منها. ومن حيث مقدمات وأساليب التصويت ونتائجه تبرز فاعلية فكرة «النظام»، بوصفها الوجه الآخر لتقاليد الاستبداد والانحطاط.

فالتأييد الكردي للدستور هو تأييد محكوم بالنزعة العرقية والاستبداد السياسي لأحزابهم وانضباطها الفعال في التزوير. وهي نتيجة محكومة بالتقاليد والعرف وليس بالرؤية السياسية الاجتماعية. إذ من الصعب توقع ممارسة ديمقراطية في ظل بنية اجتماعية تقليدية وتقاليد جبلية وتاريخ عقائدي انتقائي لقوى قومية مجزأة وضعيفة (طالبانية وبرازانية)، أي كل ما يجعل من النفسية العرقية القوة الغالبة في "تسيير" و"توجيه" الجماهير، أي الاستحكام بقرارها. وهو قرار لا يعني إمكانية معارضته في ظل الشروط الحالية للعراق، لرغبة "القادة" و"الزعماء" لأنه بحد ذاته لا يتعدى كونه جزء من عرف وتقاليد لا علاقة لها بالمجتمع المدني والمؤسسات السياسية. والشيء نفسه بمكن قوله عن المناطق الغربية، التي كانت معارضتها للدستور مبنية على أسس طائفية وجهوية. إذ لم تكن "لا للدستور" سوى الوجه الآخر لرفض فقدان السلطة. بمعنى أن الهاجس الجوهري فيها لم يكن نتاجا للرؤية الاجتماعية والوطنية، بقدر ما كان نتاجا للطائفية المبطنة والجهوية السياسية للعرب السنة. وتعبر هذه المواقف أيضا عن نفسية "القطيع السلطوي". في حين كان تأييد الدستور في المناطق الوسطى والجنوبية محكوما بالتثقيف الطائفي للعرب الشيعة وتاريخهم المكبوت في غضون عقود مديدة وامتهان كينونتهم العراقية. أما "التأرجح" في كركوك والموصل وبعقوبة فهو تأرجح ظاهري فقط. وذلك لأنه محكوم بثبات شديد في الانقسام مبني هو الآخر على أسس قومية أو عرقية أو طائفية. 

إننا نعثر عند الجميع على قدر هائل من نفسية وذهنية القطيع. إلا انه متباين بين المناطق الثلاث بحكم مستوى وتقاليد الرؤية المدنية. فإذا كانت الوحدة الصلدة بين الأكراد هي الوجه الآخر للوحدة الخشنة المصنوعة من عجينة الادلجة العرقية وتاريخ الاضطهاد الذي تعرضوا له على امتداد عقود طويلة من جانب السلطة المركزية، فإن الوحدة الصلدة للعرب السنة هي الاستمرار المتعنت لاسترجاع القدر الممكن من السلطة وليس المشاركة فيها. بينما كانت وحدة العرب الشيعة في التصويت الأكثر حرية لأنهم الأقل اشتراكا فيه. كما كانت محكومة بفكرة البديل الاجتماعي، كما أن قلة الاشتراك محكومة بالاستقلال الاجتماعي والسياسي في المواقف. حقيقة أن هذه الاستقلالية لم ترتق بعد إلى مصاف الرؤية السياسية الوطنية وذلك بسبب تاريخ العنف والإكراه الذي تعرضوا له وبالأخص في مجرى العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فقد استطاعت الأحزاب الشيعية تحويل الشيعة إلى طائفة في مواقفها من الدستور، لكنها عجزت عن احتواء العرب الشيعة. مما يدلل بدوره على عمق تقاليد المدنية فيهم. وهي حقيقة تاريخية أيضا، لأن كينونة العراق الثقافية مرتبطة تاريخيا بالبصرة والكوفة وبغداد، كما كانت محكومة سابقا بسومر وبابل.

وعموما يمكننا القول، بأن "النجاح" في التصويت لم يكن للدستور بقدر ما كان لنفسية وذهنية الانقسام والتجزئة. وهو أمر يعكسه الإجماع شبه المطلق على "تأييد" أو "معارضة" الدستور في مناطق محددة دون غيرها. ذلك يعني، إن التأييد والرفض لم يكن نتاجا واعيا لفاعلية القيم والمفاهيم الوطنية العامة، بقدر ما كان نتاجا لنفسية وذهنية القطيع المحكومة بقيم ومفاهيم عرقية أو طائفية أو جهوية.

لقد كانت هذه النتيجة الاستمرار "الدستوري" لتقاليد الانحطاط وانقلابا عليه. وهي مفارقة تحكم تحليل المضمون الفعلي لمقدمات وأساليب ونتائج الاستفتاء على الدستور العراقي الجديد. إننا نعثر فيه ليس فقط على «مساومة سياسية» بائسة بل وتجربة مريرة يصعب عليها تحقيق فكرة الديمقراطية الاجتماعية وفكرة المواطنة الفعلية في ظل قوى لم تتحرر بعد من ثقل تقاليد الاستبداد والعنف المركب (القومي والعرقي والطائفي والاجتماعي والسياسي). وهي تقاليد يشكل الانحطاط المادي والمعنوي للعراق كما هو جلي في كثافة الحثالة الاجتماعية ووعيها السياسي المبتذل في الأحزاب «الحاكمة» والمعارضة على السواء، الوجه الآخر لبقاء وفاعلية التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. فقد تركت الأخيرة العراق في هاوية سحيقة. وجعلت من كل ما يجري فيه الآن، بما في ذلك تعميق التجزئة من خلال البحث عن وحدة، كما بينه الاستفتاء حول الدستور، "زكاة" لتطهير العراق من خلال ضرورة قطعه الأشواط التي لابد منها من اجل أن تتبرعم فيه من جديد قوى المجتمع المدني ونخبه الفكرية والاجتماعية والسياسية الجديدة، أي قواه الوطنية الفعلية.

فقد كشفت تجربة الاستفتاء عن واقع يقول، بأن العراق يحتوي من حيث الجوهر على جماهير بائسة ونخب أكثر بؤسا. ولكنها تجربة تحتوي في نفس الوقت على قدر هائل من الفضائل الاجتماعية والسياسية. وتختبئ هذه الفضائل في كمونها التاريخي بالنسبة لمستقبل الفكرة الشرعية والنشاط الديمقراطي السياسي، أي كل ما نعثر عليه في الاشتراك الفعال لفئات اجتماعية عريضة ظلت على طوال عقود مهمشة ومغيبة عن النشاط السياسي المباشر، وانتقال أغلبية الحركات المؤيدة والمعارضة إلى ميدان العمل السياسي المباشر، واشتراك الجميع في الاختلاف، وأخيرا البحث عن توازن ومساومة في التأييد والمعارضة. ويمكن لهذه الفضائل الكامنة أن تتحول إلى فضائل سياسية بالفعل حالما تندمج في رؤية وطنية عامة. بمعنى أنها يمكن أن تذلل الأبعاد اللاعقلانية القائمة فيها (من قومية وعرقية وطائفية وجهوية بوصفها أصداف البقايا التوتاليتارية والدكتاتورية الفاعلة في بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية) في حال ارتقائها إلى مصاف الرؤية الواقعية والعقلانية الوطنية العامة. وإلا فإنها يمكن أن تتحول إلى تقليد يؤسس «لشرعية» الانحطاط الدائم، عبر جر المجتمع إلى حالة من التشرذم والتخلف لا يمكنه معها الارتقاء إلى فكرة الدولة والمواطنة والمجتمع المدني والحرية الفعلية. ويشير هذا بدوره إلى أن العراق بحاجة إلى منظومة وطنية متكاملة من الحرية والنظام، وليس إلى «انتظام» عرقي أو طائفي أو جهوي ضيق. فالتجارب التاريخية للأمم تبرهن على أن انضباط وانتظام القطيع اشد تخريبا للروح الاجتماعي من دكتاتورية مرعبة. لأن الأول يصنع وهم الانتصار والتلذذ بالعبودية غير المرئية، أما الثانية فإن مصيرها الزوال بالضرورة.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم