قضايا

محمد محفوظ: المثقف ومسؤولية الثقافة

إن من الأعمال ذات الطابع الإستراتيجي التي ينبغي أن يهتم بها المثقف ويعتبرها من أولويات أعماله ونشاطه هو العمل على تأسيس حقائق ثقافية في المحيط الاجتماعي لأن تأسيس هذه الحقائق هو الذي يجعل للمثقف دوراً حقيقياً ويمتلك تأثيرا فعليا في الوسط الاجتماعي.

في هذا العصر الذي تتكاثر فيه التطورات كما تتكاثر التحديات وتتوسع آفاق الفعل ورد الفعل.. في هذا العالم الذي يموج بالتطورات على مختلف الصعد والمستويات.. بحيث أصبح الثقافي متأخراً درجات عديدة بل مسافة طويلة عن السياسي والتقني. لدرجة أن الإنسان التقني بدأ يكتسح الساحة ويأخذ مجالات عديدة كانت في فترة زمنية سابقة من قلاع المثقف وساحاته العتيدة.

وإننا في هذا المقال نؤكد على جملة من الأمور والقضايا التي ينبغي للمثقف العربي اليوم أن يعتني بها ويجعلها من اهتماماته الإستراتيجية.

الحقائق الثقافية في المحيط الاجتماعي:

إن من الأعمال ذات الطابع الإستراتيجي التي ينبغي أن يهتم بها المثقف ويعتبرها من أولويات أعماله ونشاطه هو العمل على تأسيس حقائق ثقافية في المحيط الاجتماعي لأن تأسيس هذه الحقائق هو الذي يجعل للمثقف دوراً حقيقياً ويمتلك تأثيرا فعليا في الوسط الاجتماعي.

والمقصود بالحقائق الثقافية هو السعي الجاد لتحويل مجموعة من الأفكار والقناعات الثقافية إلى مؤسسات ونويات اجتماعية تمارس دورها باعتبارها خلايا اجتماعية تهتم بالشأن الثقافي وتسعى نحو تطويره وتجذيره في الحركة الاجتماعية.

والجدير ذكره في هذا المجال هو: أنه بدون تأسيس هذه الحقائق الثقافية سيبقى المحيط الثقافي طارداً الكفاءات الثقافية أو غير مستوعب بشكل سليم لها.. مما يدفع المثقف إلى العزلة والانفصال الفعلي عن المحيط الاجتماعي. ولعل هذا هو الذي يفسر ظاهرة هجرة الأدمغة المفكرة من العالم الثالث عموماً.. لأن هذا المثقف في العالم الثالث وغالبا لظروف موضوعية لا يستند في محيطه الاجتماعي على حقائق ثقافية ثابتة وتعتبر جزءاً من المنظومة الاجتماعية العامة.

فالمثقف لا يمكنه أن يعيش في محيط اجتماعي لا يعلي من شأن الثقافة وحاملها ومنتجها.. لهذا فإن العمل الحقيقي الذي لا بد أن يقوم به المثقف ليس الهروب من المحيط الاجتماعي والانعزال عنه وإنما السعي الجاد لتأسيس الحقائق الثقافية التي تمارس دوراً تنويرياً في المحيط الاجتماعي.

فرجل الاقتصاد والمال لم يمتلك تأثيره في المحيط الاجتماعي من وجود الثروة وحدها لديه.. وإنما امتلك التأثير حينما حوّل إمكاناته المادية إلى مجموعة من الحقائق الاقتصادية والتجارية في المحيط الاجتماعي.. وبالتالي مارس رجل الاقتصاد والثروة دوره وتأثيره في المجتمع عن طريق هذه الحقائق.. فينبغي ألا يكتفي المثقف بنتاجه النظري وإنما من الضروري أن يسند هذه الأنشطة بحقائق ثقافية تعطي لهذه الأنشطة بُعد الديمومة والاستمرار. ففاعلية القول المجرد في التأثير ضعيفة واكتفاء المثقف بذلك يجعله في الكثير من الأحيان خارج الحراك الاجتماعي.

أما العمل الجاد من أجل تكريس حقائق ثقافية في المحيط الاجتماعي فهو الذي يجعل المثقف كفرد ونخبة من الأعمدة الأساسية لعملية الحراك الاجتماعي المتجهة إلى التطوير والتقدم.

المثقف ومشروع الأمة:

ان رسالة المثقف الحضارية تتجسد في العمل على بلورة المشروع الثقافي للأمة الذي يجعلها تتواصل مع تاريخها المجيد دون الغيبوبة فيه. ويبلور لها النظام الثقافي الفاعل في حاضرها والمتناغم مع متطلبات عصرها والمجيب على تساؤلاته وتحدياته.

من هنا من الضروري أن يخرج المثقف عن أناه ومصالحها الضيقة ويفكر بمستوى الأمة وتطلعاتها.. فالمثقف لا يقاس بحجم المعلومات المتوفرة في ذهنه أو الأوسمة المعلقة على صدره وإنما يقاس بمدى مساهمته الجادة في مشروع الأمة الحضاري وبمستوى التزامه بتطلعاتها وهمومها.. وينبغي التذكير بأن التاريخ لم يخلد أولئك النفر من المثقفين الذين تخلوا عن الأمة وتطلعاتها وإنما خلدوا أولئك النفر الذين وظفوا إمكاناتهم المعرفية والثقافية في سبيل إعلاء شأن الأمة معرفياً وحضارياً.. وهذا بطبيعة الحال يفرض على المثقفين قاطبة أن يعيدوا التفكير في النظام الثقافي السائد وتوجيه الطاقات والإمكانات من أجل إعادة النظر في السائد لإصلاحه وتطويره بما ينسجم ومشروع الأمة الحضاري.

وعلى ضوء هذه المهمة التاريخية للمثقف ينبغي أن يصقل مواهبه ويبلور طاقاته حتى يكون عنصراً فعالاً في تحقيق هذه المهمة التاريخية. وعلى هذا فإن قيمة المثقف تتحدد بما ينتجه نظرياً أو يقوم به عملياً وإذا كان في اطار خدمة الأمة ثقافياً وحضارياً.

أما إذا خرج المثقف في إنتاجه النظري أو نشاطه العملي عن الأمة ومتطلباتها.. فإنه يفقد دوره الطبيعي في وسط الأمة ولا يحظى بالتقدير اللائق به من قبل جمهور الأمة.. وهذا بالطبع لا يعني أن يتحول المثقف إلى مسوغ ثقافي إلى سائد الأمة من العادات والتقاليد والأفكار.. وإنما يعني ضرورة أن يشعر المثقف بمسئوليته العلمية والحضارية تجاه مجتمعه وأمته.

وأن هذا الشعور بالمسئولية هو الذي يجعل المثقف يبحث عن أطر وأوعية يقوم المثقف من خلالها بتجسيد مفهوم المسئولية تجاه المجتمع والأمة.

كلمة أخيرة: وعلى هذا فإن كلمتنا الأخيرة إلى المثقفين هي: العمل على تمتين العلائق والروابط مع الأمة حتى يتحول المثقفون إلى جسر عملي ينقل المجتمع إلى رحاب التقدم وآفاق العلم والمعرفة.

فالمثقف في الفضاء المعرفي الغربي كان له الدور الكبير والفعال في نشر أفكار التنوير ومفاهيمه ونقل المجتمعات الأوروبية من واقع القرون الوسطى المليء بالجهل والخرافة ونبذ العلم والمعرفة إلى واقع المجتمعات الصناعية التي تقدس العقل وتعلي من شأن العلم وترحب بالإبداع الإنساني.

فالمثقف حينما يتحمل مسئوليته التاريخية يضحى قدرة خلاقة يرفد مجتمعه بالكثير من الأفكار الحضارية ويعمل وينشط ثقافياً واجتماعيا من أجل الوصول إلى النموذج الحضاري الأمثل للمجتمع.

فتحديات المستقبل لا يمكن أن تواجه بفعالية إلا بمزيد من الحضور النوعي للمثقف في مسيرة الأمة ومشاركته الإيجابية في قضاياه واهتماماته الكبرى.

والمثقف أي مثقف بصرف النظر عن أيدلوجيته وقناعته الفكرية لا يستطيع أن يقوم بدوره الثقافي والمعرفي في محيطه الاجتماعي بدون العطاء الثقافي المتميز ذلك العطاء الذي يقوده إلى الالتصاق بهموم مجتمعه ويتحول برؤيته لذاته وما يحمل من قيم وتطلعات إلى مشعل هداية ونور ومصدر إشعاع فكري ومعرفي في المجتمع.

وإن التحديات الجسيمة التي تواجه أمتنا اليوم على أكثر من صعيد ومستوى لا يمكن مواجهتها بالتمنيات المجردة وإنما بالالتزام النوعي بقضايا المجتمع والأمة.

وآن الأوان بالنسبة إلى العديد من المثقفين أن يخرجوا من بروجهم العاجية وينخرطوا انخراطا إيجابيا وفعالا في قضايا مجتمعهم وأمتهم ويساهموا على نحو فعال في صياغة وبناء حاضر الأمة ومستقبلها.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم