قضايا

جدلية مفهوم السيادة:. مقاربات بين رؤيتي الغربي والاسلامي

بدر الدين شيخ رشيدمفهوم السيادة عند الغرب: إن كلمة السيادة مترجمة من الكلمة الإنجليزية sovereignty، وهو مصطلح سياسي وقانوني غربي النشأة والتكوين، تم نقله وترجمته إلى التداول العربي ضمن المفاهيم والمصطلحات التي تم نقلها وترجمتها مع بداية تشكل الفكر العربي في عصور النهضة، وهذا يعنى أنه مصطلح أجنبي وحديث ولم يكن متداولا في التراث العربي الإسلامي[1].

وقد مرت الدول الغربية بظروف تاريخية، حيث كانت السيادة فيها للملك أو للحاكم، ثم انتقلت السيادة إلى رجال الكنيسة فكانت سنداً ودعماً لمطامع البابا في السيطرة على السلطة، ثم انتقلت إلى الفرنسيين ليصوغوا منها نظرية السيادة في القرن الخامس عشر تقريباً، أثناء الصراع بين الملكية الفرنسية في العصور الوسطى، في مواجهة الإمبراطور والبابا، لتحقيق تفوقها الداخلي على أمراء الإقطاع[2].

ثم ارتبطت فكرة السيادة بالمفكر الفرنسي «جين بودين»الذي أخرج سنة (1577م) كتابه: «الكتب الستة للجمهورية»، حيث قسمها إلى:«السيادة الشعبية» التي يكون الشعب فيها مصدر السلطات، و«السيادة الاستقراطية» التي يكون فيها النبلاء أو الأقلية مصدرا للسلطات، و«السيادة الملكية» التي يكون فيها الملك مصدر السلطات، إلا أنه اعتبر أن منبع القانون والسيادة للملوك، فتطبيق القانون يكون على الرعايا فقط، ولهذا يعرّف بودان القانون على أنه: عمل ناشئ عن إرادة الحاكم[3].

السيادة ونظرية العقد الاجتماعيّ:

يعتبر هوبز(1588-1679)، أول من طرح نظرية العقد الاجتماعيّ في العصر الحديث حيث ذهب إلى أن السيادة شرعيّة السلطة، وحق الملك في الأمر والنهي ليس مستمدا من وراثته للعرش، وإنما شرعية السلطة مستمدة من إرادة مجموع الشعب الذي أقامها لكى تحمى مصالحه[4]، إلا أنه قيّدها بتنازل الشعب عن السيادة، لتحقيق سلطة عليا تفرض النظام الاجتماعي ويقصد بالتنازل: التنازل عن الحقوق الطبيعية كحق الحرية والملكية لصالح الملك[5].

ثم جاء جون لوك المفكر الثاني 29) أغسطس 1632 - 28 أكتوبر 1704(لنظرية العقد الاجتماعي، فرفض فكرة التنازل المطلق التي قالها هوبز، وطرح فكرة التنازل المقيد، بحيث أن للأمة الحق في استرجاع سيادتها متى ما أردات، خصوصا إذا ما استعملت سيادة الدولة في غير الأغراض التي تخدم مجموع المواطنين وتحفظ حقوقهم وكل السيادات مؤقتة في نظرية جون لوك، ما عدا سيادة الشعب فهي دائمة لا يمكن إلغائها، إلا في غير الظروف الطبيعية، كالقضاء عليه بالكلية أو إخراجه من وطنه كليا، أو حدوث غزو أجنبي يكتسح الوطن ويصبح فيه الشعب عبيدا للغزاة[6].

وبعده، أتى جان جاك روسو، وحسم الأمر نهائيا في صياغة العقد الاجتماعيّ وجعل السيادة بصور قطعية في إطار الإرادة العامة للشعب، ولايصح التنازل عنها سؤاء أكان التنازل عنها، مطلقا أو مقيدا، فالشعب هو الحاكم دائما وليس هناك حاكم سواه، وهو سلطة عليا تكون مصدرا لجميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولما كان الشعب بمجموعه لا يمكنه أن يمارس هذه السلطات بنفسه طرح روسو فكرة التفويض بدلا عن فكر التنازل الذي طرحه هوبز؛ إذ التنازل عملية انتقال كاملة للملكية والسيادة إلى الحاكم، وأما التفويض فهو مجرد نيابة أو توكيل من قبل الشعب مع بقاء الملكية والسيادة للشعب، ويعتبر فكرة جان جاك روسو، تطورا جوهريا في نظرية العقد الاجتماعي من حيث الانتقال من التنازل إلى التفويض[7].

السيادة في الإسلام:

السيادة في الإسلام ليست بعيدة عن مفهوم ما توصلت إليه النظرية الغربية من مبدأ التعاقد بين الراعي والرعية، باعتبار أن السيادة للأمة، بحكم استخلافها في الأض، فهي كما عرّفها العقاد: هي سند الحكم ويشمل فيها السيادة والتشريع وولاية الأمور العامة، ومعنى السند هو المرجع الذي يكسب القانون أو الرئيس حق الطاعة، فليست السيادة هي سلطان الحكم نفسه، ولكنها هي السند الذي يجعل ذلك السلطان حقا مسلما ولايجعله غصبا ينكره من يدان بطاعته[8].

وتشير الدراسات التي قام بها مقتدر خان حول مفهوم السيادة (sovereignty)،أن الكثير من مبادئ السيادة التي يتبناها الغرب لا تتعارض مع الإسلام، بل على العكس تنبع مباشرة من الإسلام. فبيّن أن أوائل الباحثين النظريين في أوروبا احتكوا احتكاكًا مباشرًا مع مفهوم السيادة في الإسلام. فجين بودين Bodin Jean وجان جاك روسو Jean Jaques rousseau من أشهر الباحثين الذين نظروا إلى نظرية السيادة الحديثة؛ وقد استعانوا في ذلك بمفاهيم السيادة الشعبية التي يتبناها الإسلام، حيث قام روسو بعمل دراسة مكثفة عن فترة حكم الرسول عليه الصلاة والسلام، في المدينة؛ لينهل ويستقي منها الأفكار المتعلقة بمفهوم السيادة، ولهذا، يقرر مقتدر خان: أن الإسلام قد ألقى بظلاله على النظرية الديمقراطية[9].

وتستند سيادة الأمة من جهة النظرية كون النبي صلى الله عليه وسلم، أنكر على الوالي أن ينتحل لنفسه ذمة الله وذمة رسوله، حيث كان يقول لمن ولاه الأمر« إذا حاصرت على أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا»[10].

وكان الفاروق رضي الله عنه يأبي أن يقال عن رأيه أنه مشيئة الله، وقد نهر بعض أصحابه، عند ما زعم في ذلك، قائلا:« بئس ما قلت.. هذا ما رأى عمر بن الخطاب إن كان صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر.. لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة»[11].

وبناء على هذا الأساس، لاتعارض بين القول:الأمة مصدر السلطة، والقول: بأن الله مصدر التشريع؛ لأن مصدر التشريع هو القرآن والسنة، وأن الأمة هي التي تفهم الكتاب والسنة وتعمل بهما وتنظر في أحوالها لترى مواضع التطبيق ومواضع الوقف والتعديل، وتقر الإمام على ما يأمر من الأحكام أو تأباه[12].

ويدل على ذلك، إيقاف الفاروق حد السرقة في عام المجاعة، كما أن أبا بكر لم يقم الحد على خالد بن الوليد، وذلك لقتله مالك بن نويره، وبناء زوجته قبل وفاء عدتها، لحدوث الواقعة في أحوال تعرضه للخطأ في التقدير، كذلك، أوقف بعض الفقهاء ترك تنفيذ بعض الحدود، بناء على تعذر الاعتماد على شهود عدول في العقوبات التي لا يستدرك إذا نفذ، وذلك لوجود قوم يحترفون الشهادة أحيانا بالكذب[13]، فعملوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود بالشبهات)[14].

علاوة على ذلك، فالإجماع هو الأصل المعتمد بسيادة الأمة في السلطة والتشريع؛ لأن الإجماع نوعان«خاص وعام، فالخاص هو إجماع أصحاب الرأي في العلم والشريعة، وذوي الحل والعقد من القادة والرؤساء، والعام هو إجماع الخاصة والعامة والعلماء والجهلاء، وإجماع الخاصة مطلوب في السيادة التشريعة، وإجماع الخاصة والعامة مطلوب في السيادة السياسية، فإن لم يكن إجماع فالإتفاق القريب منه أولى بالإتباع»[15].

 

د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم

......................

[1] - عبد الله المالكي، سيادة الامة قيل تطبيق الشريعة نحو فضاء أمثل لتجسيد مبادئ الإسلام، الشبكة العربية للأبحاث بيروت لبنان، ط1/2012م، ص86.

[2] - زيدان بن عابد المشوخي، السيادة مفهومها ونشأتها ومظاهرها،(بدون تاريخ النشر)، أنظر الرابط:

http://www.saaid.net/bahoth/100.htm

[3] - عبد الله المالكي، سيادة الامة قبل تطبيق الشريعة نحو فضاء أمثل لتجسيد مبادئ الإسلام، الشبكة العربية للأبحاث بيروت لبنان، ط1/2012م، ص90.

[4] - المصدر السابق، ص95.

[5] - المصدر السابق، ص95.

[6] - المصدر السابق، ص96.

[7] - المصجر السابق، ص99.

[8] - عباس محمود العقاد، الديمقراطية في الإسلام، دار المعارف، القاهره، مصر، ط3/(بدون تاريخ الطبع)،ص57.

[9] - مقتدر خان، المسلمون والد يمقراطية الأمريكية: مع أم ضد؟ ترجمة وتحرير شيرين فهمي، ضمن موسوعة: الرد على المذاهب الفكرية، اعداد، الباحث علي بن نايف الشحود، ج20/ص43.

[10] - محمد بن عمر الواقدي، كتاب المغازي، تحقيق، مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، لبنان،(بدون تاريخ الطبع)، ج2/ص757.

[11] - ، السنن الكبرى، البيهقي مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الهند، ط1/1344ھ، ج10/ص116.

[12] - عباس محمود العقاد، الديمقراطية في الإسلام، دار المعارف، القاهره، مصر، ط3/(بدون تاريخ الطبع)،ص65.

[13] - المصدر السابق، ص65.

[14] - السنن الكبرى، البيهقي مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد الهند، ط1/1344ھ، ج8/ص31.

[15] - عباس محمود العقاد، الديمقراطية في الإسلام، دار المعارف، القاهره، مصر، ط3/(بدون تاريخ الطبع)،ص66.

 

 

في المثقف اليوم