قضايا

إشكالية النخبة السياسية في العراق (3-3): النخبة السياسية العراقية.. معضلة مزمنة

ميثم الجنابيالعراق- نقد الواقع وتأسيس البدائل (23)

من بديهيات الأمور في الفكر السياسي أن تكون قدرة النخبة السياسية أو الحزب السياسي على قدر ما فيهما من استعداد فعلي لتمثل المصالح الجوهرية للمجتمع والدولة والأمة. وفي الحالة المعنية على ما فيهما من قدرة على تمثل المصالح الجوهرية للمجتمع والدولة في العراق. لكننا حالما ننظر إلى واقع النخب السياسية في ظروفه الحالية فإننا نقف أمام حالة تبدو فيها البديهة السياسية مطلبا «مثاليا»، أي صعب المنال!! وهي «صعوبة» تكمن أساسا في طبيعة النخبة السياسية الحالية. إذ ليست هذه «الصعوبة» في الواقع سوى الوجه الآخر للنقص الجوهري المميز لتاريخ النخب السياسية فيه. وهو نقص وثيق الارتباط بزمن الانحطاط الشامل في الدولة والمجتمع والثقافة، بوصفه النتاج الملازم لفقدان الشرعية وسيادة الدكتاتورية. إلا أن ذلك لا يقلل من مسئولية هذه النخب، كما انه لا يزيل إشكالية القضية نفسها والقائلة، بأن قوى من هذا النوع ليست قادرة على تقديم وتحقيق بديل واقعي وعقلاني لتاريخ الخراب والانحطاط في العراق. وهي نتيجة يمكن وضعها في فكرة تقول، بأنه إذا كانت مآسي الأمم على قدر انحطاطها، فإن نجاحها على قدر ما فيها من نخب رفيعة المستوى ومجتمع حي هو مصدر وجودها ومعين إبداعها الأصيل. وبدون ذلك تصبح المأساة فعلا لا علاقة له بالعقل والضمير والإبداع. فالمآسي تصبح فضيلة فقط عندما تتحول إلى بلاء عظيم لقلوب أعظم، أي عندما تكون لقلوب الأمم كاللهب للذهب. فهو الأمر الذي يجعل منها طاقة لتنقية القلوب والعقول.

ودروس التجربة التاريخية للعراق الحديث تكشف عن أن مصدر مأساته تكمن في عدم تكامله الذاتي. ويستحيل تحقيق هذا التكامل دون تكامل النخب السياسية في رؤية وطنية واجتماعية واقعية وعقلانية. وعدم التكامل المشار إليه أعلاه هو الضعف الذي جعلت من العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين زمنا للتجزئة المغلفة بالوطنية الكاذبة، والقومية الأكثر كذبا، والتدين الأشد غشا. بحيث تحول العراق إلى كتلة متراكمة من التجزئة القومية الضيقة والعرقية والطائفية الآخذة في الصعود حاليا. ويمثل هذا الصعود عين السقوط! وفي أفضل الأحوال لا ينتج غير انحطاط آخر لا جديد فيه ولا معاصرة! كما انه لا يفعل إلا على استثارة النفسية الدموية ونزوعها التخريبي.

إذ لا يمكن للنزعات القومية الضيقة والعرقية والطائفية أن تحصل على إجماع وطني. كما أنها غير قادرة على الخروج من مآزقها الذاتي بوصفها أيديولوجيا المأزق التاريخي. من هنا ليس صعودها سوى الوجه الآخر لسقوطها التاريخي. وهي حالة عادة ما تميز الأبعاد الموضوعية في مرحلة الانتقال الكبرى من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. مما يجعل من صعود القوى الممثلة لهذه النزعات شيئا أقرب ما يكون إلى كبش فداء. أنها كبش بالمعنى السياسي، وفداء بالمعنى التاريخي. وتعكس هذه المفارقة مفارقة العراق المعاصرة. بمعنى خروجه من نفق التجزئة التوتاليتارية المغلّفة بالوحدة، والدخول إليه من جديد باسم «الديمقراطية». بينما تفترض حقيقة الديمقراطية الفعل والعمل بمعايير المصلحة الاجتماعية وقوة الشرعية والقانون، وليس بمعايير ومقاييس الدعاوى الأيديولوجية.

فالقومية الضيقة والعرقية والطائفية هي قوى مجزئة. مما يجعلها بالضرورة ضعيفة من حيث إمكانياتها الوطنية، ومنهكة في ثباتها الاجتماعي، وناقصة في عقلها العراقي. وديمومتها الوحيدة هي المؤقت والتأقلم. إذ لا تصنع هذه الديمومة ثباتا واستقرارا ديناميكيا. مما يحرفها بالضرورة عن فكرة الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. مع ما يترتب عليه من استعداد دائم لاقتراف الرذيلة «السياسية» والتقلب فيها بمعايير ومقاييس العابر والمؤقت. أما النتيجة الحتمية لهذا السلوك فيقوم أيضا في استعداد هذه النخب السياسية للخيانة الاجتماعية والسياسية. مما يشير بدوره إلى أنها لم تتعظ من تاريخ المأساة العراقية، وأنها مازالت تعيش في زمن الانحطاط، دون أن تعي بأن الانحطاط دوامة مخرجها الوحيد: الزوال من مسرح التاريخ والاندثار من ذاكرة الأمم!

إن الزوال من مسرح التاريخ والاندثار من ذاكرة الأمم هي النتيجة المترتبة على من نصفهم بالأموات! لكننا حالما نتعامل مع إشكالية سياسية حيوية وجوهرية بالنسبة لمصير الدولة والأمة، فإن المعايير القيميية تفقد أولويتها. مما يدفع بالضرورة مهمة وجدان الفكرة المنطقية المتعلقة بالأبعاد الوطنية في النخبة السياسية. وتستثير هذه الأبعاد في ظروف العراق الحالية شرعية السؤال المحرج عما إذا كانت النخبة السياسية الحالية في العراق عراقية فعلا أم أنها مجرد كيانات سياسية أو أحزاب فيه. ومن ثم هل يمكننا الحديث عن نخبة عراقية بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو سؤال اقرب إلى إشكالية معقدة لكنها قابلة للفهم والحل في حال كشف واقع وآفاق الأبعاد الوطنية في النخبة السياسية الحالية، وعما إذا كانت قادرة فعلا على إخراج العراق من أزمته البنيوية الشاملة، أم أنها قد تكون إحدى القوى الإضافية «الجديدة» الفاعلة في تعميق انحطاطه المادي والمعنوي، ومن ثم تعميق الأزمة ورفعها إلى مصاف «المنظومة الديمقراطية» المقترحة للعراق!

فعندما نتأمل ظروف وحالة العراق بعد سقوط الصدامية، فإن كل ما فيه يبدو مأساة بمعايير السياسة والاقتصاد والثقافة والأخلاق. ومن الممكن الاعتراض الجزئي والنسبي على هذا الحكم انطلاقا من أن كل ما يجري هو الوجه الآخر لزمن الخراب السابق. إذ من غير الدقة تحميل الماضي لحاله جريرة كل ما يجري اليوم، انطلاقا من أن لكل مرحلة مصاعبها ومصائبها، ومن ثم لكل مرحلة رجالها. وبالتالي، لكل مرحلة مهماتها كما أن لكل رجال مسئولياتهم. في حين نقف الآن أمام حالة معبرة عن قدر مزري للنخب السياسية وعجز تاريخي يلازمها عن تنشيط السياسة بالشكل الذي يجعلها قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية قادرة على تذليل حالة البؤس الشامل فيه.

بل يمكننا القول، بأن ظروف العراق الحالية بعد سقوط الصدامية تكشف عن إمكانية السير في نفس طريق الابتذال الذي ميز زمنه في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين. ويكشف هذا الزمن عن استمرار حالة الابتذال لفكرة الوطنية والحق والعدالة والنزاهة الاجتماعية وأولية المصالح العامة. بل إننا نرى استفحال متوسع لهذا الانتهاك على خلفية الشعارات والإعلانات والدعاوى التي رافقت تاريخ الأحزاب السياسية التي صعدت إلى سدة الحكم بقوة الغزو الأجنبي والاحتلال. وتمثل هذه النتيجة الوجه الآخر لحالة الانحطاط الشامل، التي جعلت من الاحتلال أسلوبا لبلوغ وتحقيق الديمقراطية!

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة من الانحطاط جعلت وما تزال تجعل من المغامرة أسلوب التفكير والممارسة السياسية. ذلك يعني أن النتيجة سوف لن تكون شيئا غير الاستمرار في زمن الخراب والانحطاط. فمن الناحية المجردة، يمكننا القول، بأن إدراك حقيقة التاريخ الكلي للعراق الحديث والنتائج التي أدت إليها التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، كان ينبغي لها أن تصنع في وعي النخب السياسية القدر الضروري، أو الحد الأدنى من تأمل ما يمكن أن تؤدي إليه مغامرة الخروج على فكرة الدولة الشرعية والوطنية والنظام الديمقراطي والثقافة الحرة. إلا أننا نقف أمام جهل أو تجاهل لتاريخه الحديث.

فقد صدمت التجربة الصدامية كل ما في العراق بشكل جعلته عرضة للتهشم والاندثار السريع كما لو انه كيانا هشا. مع أن العراق أعرق حتى من كل ما فيه! وتعكس هذه المفارقة مستوى الخراب والانحطاط الملازم لتقاليد الراديكالية الضيقة كما مثلتها الصدامية بصورة نموذجية! وهي نموذجية قادرة في الواقع على تعليم كل عاقل، بأن الخروج عن «الصراط المستقيم» في بناء الدولة لا مخرج له إلا الانزلاق في هاوية الانحطاط والخراب. ويرتقي هذا الحكم إلى ما يمكن دعوته بالبديهة السياسية. غير أن أحداث العراق الحالية ما بعد سقوط الصدامية تبرهن على أن البديهة السياسية ليست مفهومة أو معقولة أو سهله بالطريقة التي تبدو في ميدان الرؤية المنطقية والرياضية. والسرّ غاية في الجلاء! وهو أن تاريخ الانحطاط لا يشبه زمن السلطة! فزمن السلطة عرضة للتغير والتبدل والاندثار السريع، بينما «مآثر» الانحطاط أكثر رسوخا وتغلغلا في بنية الوعي والعلاقات الاجتماعية والسياسية. وتشكل هذه الحالة أساس ومصدر المأساة العراقية الحالية. إذ أننا نقف أمام نخب سياسية هي الوريث غير الشرعي أيضا لزمن الانحطاط! وفي هذا تكمن مفارقة وجودها التاريخي على هرم السلطة.

فمن الناحية المجردة، كان ينبغي لهذه النخب السياسية أن تسلك في ممارستها العملية سلوكا محكوما بمعتقداتها الخاصة وشعاراتها العامة، وكذلك بإدراكها للنتائج التي يمكن أن يؤدي إليها الخروج على منطق الحق والعدالة واحترام حقوق الإنسان، وأخيرا برؤيتها الإستراتيجية للبدائل القادرة على انتشال العراق من أزمته البنيوية الشاملة. لكننا لا نرى في الواقع سوى المكون الأول، أي سلوكها بما يستجيب لمعتقداتها الحزبية الخاصة والجزئية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الحزبية في العراق هي فكرة نفسية وغريزية أكثر مما هي فكرة عقلية ومنطقية، أي أنها محكومة بالوجدان وليس بالعقل، وبالمصلحة الضيقة وليس العامة، من هنا تتضح معالمها المدمرة. بمعنى عجز الحزبية الحالية فيه عن الارتقاء إلى مصاف الرؤية العقلانية العامة (الاجتماعية والوطنية). وكانت هذه النتيجة محكومة من الناحية التاريخية بافتقاد فكرة السياسة لمضمونها الاجتماعي والاقتصادي، من هنا استحكام الرؤية الأيديولوجية في مواقف الأحزاب وأحكامها. مما أعطى لها في ظروف الانعدام التام والشامل للديمقراطية السياسية والمجتمع المدني، طابعا ضيقا جعل منها وعاء لنفسية النخبة المغلقة.

وبما أن النخبة في العراق هي كيان هلامي بسبب افتقادها إلى تاريخ ذاتي متراكم في منظومة من القيم والمفاهيم الراسخة والمتنوعة، من هنا سرعة تجاهلها لما يمكن أن يؤدي إليه سلوك الخروج على منطق الحق والعدالة واحترام حقوق الإنسان. ويكشف هذا التجاهل في الوقت نفسه عن استعدادها الذاتي للتخلي عن فكرة البدائل العقلانية. بمعنى تحويل كل «البرامج والمشاريع الإستراتيجية» إلى حفنة من العبارات التي يمكن التخلي عنها أو المتاجرة بها مع كل عابر سبيل! في حين أن النخبة السياسية الحقيقية هي التي تعمل بمنطق البدائل وليس بقواعد التأقلم الكلبي. وبدون ذلك تصبح قوى بلا قوة، أي مظهرا مضخما وأبهة فارغة. ومن ثم لا حول لها ولا قوة في تمثل حتى مصالحها الخاصة، دع عنك مصالح العراق الجوهرية والدفاع عنها. وهو استنتاج يرتقي إلى مستوى البديهة، بما في ذلك في مجال العلم السياسي. تماما كما أن من بديهيات الأمور في الفكر السياسي أن تكون قدرة النخبة السياسية على قدر ما فيها من استعداد فعلي لتمثل المصالح الجوهرية للمجتمع والدولة والأمة.

وعندما ننظر إلى واقع النخب السياسية الحالية، فإننا نقف أمام حالة تبدو فيها البديهة السياسية مطلبا «مثاليا»، أي صعب المنال!! فاغلب النخب السياسية «المؤثرة» حاليا هي قوى الماضي من جهة، وتعاني من انفصام فعلي في رؤيتها للمصالح الوطنية العليا، من جهة أخرى. بمعنى أن سلوكها محكوم أما بغريزة «البقاء» الأجوف في السلطة أو استعمال الجاه من اجل اكتساب ثروة الضحايا أو رأسمال «النجوم الإعلامية» الأكثر زيفا!! وتستمد هذه النتيجة أغلب أصولها «التاريخية» من زمن الانحطاط، لكن ذلك لا يقلل من مسئولية هذه النخب، كما انه لا يزيل إشكالية القضية نفسها والقائلة، بأن نخبا سياسية من هذا النوع ليست قادرة على تقديم وتحقيق بديل واقعي وعقلاني لتاريخ الخراب والانحطاط. وليس مصادفة أن يكون سلوكها في سنوات ما بعد سقوط الصدامية محكوما بنفسية المؤقت.

مما سبق نستطيع التوصل إلى أن العراق لا يمتلك بعد نخبه السياسية الحقيقية. وان ما فيه هو ليس نخبا بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما هي قوى مؤقتة. من هنا ضعفها الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. ولم يكن هذا الضعف معزولا بدوره عن زمن التخريب والتدمير الفعلي الذي لازم صعود واستتباب التقاليد الراديكالية وبالأخص زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. ووجد هذا الخراب انعكاسه النموذجي في كيفية وصول «النخب السياسية» إلى السلطة. فقد كان وصولها للحكم مفاجئة كئيبة للعراق ومفرحة لهم. وهو أمر جعلهم يمثلون ويتمثلون مضمون الفكرة القائلة «كل حزب بما لديهم فرحون». لكنه فرح يمثل عين المأساة التاريخية للعراق المعاصر، كما انه يمثل من الناحية الموضوعية المرحلة التي ينبغي له أن يقطعها من اجل بلورة تقاليد جديدة للنخبة بشكل عام والسياسية منها بالأخص.

إن وصول النخب السياسية الجديدة - القديمة إلى السلطة يعكس أولا وقبل كل شيء تاريخ الخلل الفعلي الهائل الذي صنعه زمن الراديكالية الهمجية. وبالتالي فإن صعودها إلى هرم السلطة يعني من الناحية التاريخية والسياسية موت النخب السياسية العراقية القديمة جميعا، بما في ذلك السائدة منها حاليا. فهي تنتمي من حيث نفسيتها وذهنيتها وعقلها ورؤيتها إلى زمن النخب القديمة. من هنا عجزها عن تحقيق معاصرة للمستقبل. فهي نخب كبيرة المظهر صغيرة الهموم! وفي هذا يكمن شرط اضمحلالها وتلاشيها، كما يشكل في الوقت نفسه مصدر ومقدمة نشوء وتبلور وتكامل النخب الجديدة، أي النخب القادرة على استعادة هويتها المفقودة: الوطنية العراقية!

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم