قضايا

الاندماج الخرب للحركة القومية الكردية في عراق ما بعد الدكتاتورية

ميثم الجنابيالقضية الكردية: أفق مغلق وبدائل محتملة (2)

سوف اتناول في حلقات لاحقة مختلف اشكاليات ومستويات الخلل في الفكرة القومية الكردية التي أدت إلى انتاج نمط ظاهري وآخر مستتر في تحديد السلوك العملي والفعلي للأحزاب القومية الكردية في عراق ما بعد الصدامية. والشيئ الأولي والأكثر وضوحا وجلاء هو اندماجها وتأييدها المطلق للغزو الأمريكي للعراق واحتلاله. والسبب يقوم في أن الحركة القومية الكردية تتسم من حيث صيرورتها وكيانها الحالي بضعف تاريخي ذاتي. الأمر الذي أدى إلى بلورة رؤية مشوهة يقوم مضمونها في أن الحصول على "حقوق قومية" ممكن فقط في ظل ضعف الدولة وهيمنة الفتن فيها. وتحول هذا الموقف السياسي الضيق، والذي يفتقد إلى أبسط مقومات الرؤية الاستراتيجية المستقبلية، إلى "فكرة" متغلغلة في الوعي السياسي اقرب ما تكون إلى غريزة عملية! بمعنى انها لم تعد تثق بعرب العراق وقواه السياسية والاجتماعية، أي بالرصيد التاريخ والثقافي لصيرورة العراق وكينونته الحالية. وينطبق هذا في الواقع على جميع الحركات القومية التي نشأت ليس في العراق فحسب، بل وفي إيران وتركيا وسوريا. وهذه قضية ومشكلة وإشكالية ومعضلة بقدر واحد. وسوف اتناولها في حلقات لاحقة.

ولكي لا تكون الأحكام نظرية ومجردة فقط، لهذا يمكن تأملها والحكم عليها من خلال عينات "كلاسيكية" كما هو الحال في العراق، أي في البلد الذي حصلوا فيه على حقوق قومية كبيرة ثقافية وإدارية منذ بداية سبعينات القرن العشرين، رغم كونهم ليس شعبا عراقيا أصليا (فالشعب الأصلي لا يدعو ولا يطالب ولا يسعى للانفصال، لأنه أصلي ومن ثم هو وطنه). وقد كانت هذه الانجازات من حيث الجوهر مرتبطة أولا وقبل كل شيئ بالقومية العربية وقواها لاجتماعية الحية والتقدمية (من وطنيين وليبراليين، وقوميين، وشيوعيين). وقد لعب الشيوعيون دورا حاسما في بلورة شعار الدفاع عن "الحكم الذاني للأكراد" بحيث وضعوه في صلب شعارهم الأساسي (الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان). والذي جرى تحقيقه للمرة الأولى عام 1970، وتوسيعه للمرة الثانية عام 2005، أي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بظهور فكرة "الفيدرالية".

فقد كان الشعار السياسي للحركة الشيوعية تعبيرا عن نزعة قومية لقومية صغيرة وأطرافية، ولا علاقة له بفكرة ومبادئ الأممية الشيوعية. وعموما هو شعار تبلور وتوسع بعد أن جرى "تكريد" القيادة السياسية للحزب الشيوعي. إذ تحول في نهاية المطاف إلى حزب قومي كردي وذيل مسلوخ للحركة القومية الكردية بشكل عام والبرزانية بشكل خاص. وهو أمر أقل ما يقال فيه هو اتصافه بالانحطاط السياسي والضعف العقلي والخراب الأخلاقي. ولم أعثر أنا شخصيا، بعد تتبع شعارات الأحزاب الشيوعية في جميع دول العالم وعلى امتداد تاريخها، على حزب وضع الدفاع عن قومية صغيرة وأطرافية في صلب شعاره الرئيسي (غير الجزب الشيوعي العراقي!) ولاحقا تبين بأن جميع "القادة" الأكراد هم اتباع البرزانية، ولا وجود لمسحة ونفحة ولو قليلة للأبعاد الوطنية العراقية والفكرة الشيوعية. وإذا كانت الحالة الأولى مثيرة بالنسبة للتأمل السياسي، فإن الثانية لا إشكالية فيها. إذ لا يمكن لأهل الجبل أن يفهموا ويدركوا معنى الشيوعية (الماركسية)، باستثناء بعض الشعارات البسيطة. بل لم تفهمها الكثير من الأحزاب السياسية الكبرى، بما في ذلك الألمانية. وعموما هي شعارات لم تكن بحاجة إلى ماركسية. لكنها مفهومة ضمن سياق ما يسمى "بالاندماج الخرب". وهذه هي في الأغلب صفة جميع الأقليات، بلا استثناء، في جميع دول العالم. وهي مشكلة فعلية.

إن هذه المقدمة ونتائجها أخذت بالوضوح بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. وشاركتهم بها مختلف القوى السياسية العربية (العراقية) من شيعية وسنية وليبرالية ومستقلة وشيوعية! وهو موقف يعكس هراء الزمن العراقي، وسخافة العقول، وتفاهة الضمائر، وانعدام الرؤية التاريخية المستقبلية.

غير أن "حصة البغل" كانت فيها للأكراد. ولا معنى للقول هنا بحصة الأسد، إذ عن أية أسود يمكن الحديث هنا؟ ولكي لا نخدش شخصية البغل، فلنقل "حصة الضباع"، أي القوى البهيمية التي تعيش على النفايات والفطائس.

فقد كانت مهمة الجميع الحصول على "حصة"، وجدت انعكاسها في نظام "المحاصصة". وهي "فكرة" كردية خالصة. فقد نقلت الأحزاب القومية (الطالبانية والبرازانية) المتحاربة والمتقاتلة والكارهة أحدها للآخر بمستوى الغريزة، اتفاقهم الدائم على "القسمة العادلة" لكل من يمكن الحصول عليه. فهي قوى لا تنتج، بل تعودت على الأخذ والسرقة. إنها تفتقد لروح العطاء. وهكذا كان الأمر على الدوام. وهي ظاهرة مرتبطة بطبيعة البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية. فالحصة هي بين "الزعماء" والعائلات والقبائل، ولا علاقة لها ببسطاء الأكراد. فهؤلاء مجرد "مادة" وخدم وعبيد محكومين بقوة غاشمة غدارة قاسية ووحشية لكل من يتجرأ ولو بالحد الأدنى من النقد الهامس وليس حتى العلني. 

فقد كانت فكرة المحاصصة "طبيعية" بالنسبة للقوى القومية الكردية. وجعل الاحتلال الأمريكي منها منظومة من خلال إدخال فكرة ومفهوم "المكونات"، وجرى رفعها الى مستوى المادة الدستورية والنظام السياسي والدولة. وقد كانت تلك عثة خطرة للغاية. وقد كتبت حينذاك العديد من المقالات والأبحاث النقدية والكتب، التي كانت ترمي بهذا الصدد، إلى بلوغ فكرة جوهرية وعملية في النفس الوقت، ألا وهي ضرورة إبعاد القوى الكردية عن المركز، والعمل على إخراجها مما يسمى بالعملية السياسية ما لم يجر ترتيب البيت العراقي (العربي)، أي المركز ونظامه السياسي الجديد. بنما جرى اعتبار ما كتبته انذاك "شذوذا" و"شوفينية" و"قومجية" و"عنصرية" و"بعثية" و"رجعية" وما شابه من كليشات غبية من جانب قوى "اليسار" والكردية. وهو أمر مفهوم، لأنهما كلاهما كانا من طينة واحدة في العراق آنذاك. فقد كانت هذه الفكرة تبدو غريبة وشاذة ولم يقاسمها إلا عدد قليل على عدد أصابع اليد. لقد كانت تلك الفكرة محكومة بفكرة البديل المستقبلي وليس بالفكرة القومية الضيقة. انهما كانت مهمومة بحقيقة الفكرة الوطنية العراقية. وقد وضعت فيها اكثر من كتاب(الهوية الوطنية العراقية) و(فلسفة الاستعراق- فلسفة الهوية العراقية) وكثير غيرها. وهي الفكرة التي شقت لنفسها لطريق بصعوبة بالغة، والأهم من ذلك توصل إليها "الشارع العراقي" بنفسه في الاحتجاج الشعبي والتمرد السياسي الحالي في مناطق الوسط والجنوب، أي في مناطق الأس والمصدر للروح العراقي الأصيل. بمعنى مطالبتهم بمحاسبة القوى القومية الكردية على كل ما اقترفته من جرائم وسرقة وتخريب للعراق.

إن إشكالية المحاصصة التي ادخلتها القوى القومية الكردية في اتساق تام مع الاستراتجية الأمريكية لتفتيت العراق قد لاقت موافقة الحركات والأحزاب الشيعية الكبرى. ومن ثم ساهمت في إرساء أسس المحاصصة (بوصفها ممثلة "المكون الأكبر"). ودافعت عنها بقوة لا تقل عن نظيرتها الكردية. ومن ثم دخلت بوعي أو دون وعي في "عرس الخيانة". الأمر الذي افسد كل تاريخها. بل يبدو من الصعب الآن الحديث عن وجود تاريخ عميق عريق أصيل فيها. من هنا انهماكها الرهيب في الحصول على كل ما يمكن الحصول عليه في كل مفاصل الدولة والثروات الوطنية. بحيث اصبحت هي محرك الخيانة الاجتماعية والوطنية. غير أن هذه قضية أخرى سوف اتناولها في حلقات نقدية حالما أعود إلى استكمال حلقات (العراق- نقد الواقع وتأسيس البدائل).

لقد جرى كل ذلك حسب المثل القائل "الطيور على أشكالها تقع". والأفضل القول "الغربان على أشكالها تقع". مع فارق واحد وهو أن الغراب ذكي وحاد الذاكرة. بل ان الغراب لا يشبه ابراهيم الجعفري أحد النماذج الأولية الفاقعة لهذه الظاهرة والحالة. فقد كان هو اخرس العقل، ثرثار اللسان، سخيف العبارة، فاقد للوجدان. والبقية اشكال متنوعة لهذه الحالة.

ان لكل هذه الظاهرة مستوياتها ومحدداتها ونماذجها وآثارها. لكنني اكتفي هنا بنقد احد ملامحها الأولية ما بعد الدكتاتورية الصدامية في مجال الصراع من اجل السلطة والزعامة. ومن ثم الصراع من اجل مصادر الثروة عبر السرقة المنظمة الجديدة (القديمة) للثروة الوطنية.

فقد ظهرت آنذاك حالة اغرب ما فيها هو مواجهة "الحلفاء" أحدهم للآخر كما لو انه العدو اللدود! وهي حالة فعلية، بمعنى أن القوى التي تحالفت بعد الانتخابات الديمقراطية الأولى في العراق كانت تسعى لاستكمال فوزها بالاستحواذ التام على السلطة. وينبع هذا الاستحواذ من طبيعة تركيبتها الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية. فقد كانت هذه القوى (الدينية الشيعية والقومية الكردية) تقليدية من حيث بنيتها الاجتماعية، ومراوغة في تطبعها السياسي، ومتقلبة في نزوعها الأيديولوجي. وإلا فإن من الصعب توقع التقاء واتفاق وتحالف قوى مختلفة تمام الاختلاف من الناحية الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية. فالقوى الشيعية هي دينية عراقية (عربية) بينما الكردية هي "دنيوية" (علمانية مزيفة) قومية كردية. وفيما لو تجاهلنا نوعية العربي في القيادات الشيعية الحالية، والعلماني في الحركات القومية الكردية، فإن مجرد التقائهما في تحالف بعد الانتخابات يشير إلى غلبة نفسية الاستحواذ على السلطة والمحاصصة. وكانت هذه النتيجة مرتبطة بطبيعة هذه القوى وخوفها من المستقبل وإدراكها لطابعها العابر ونزوعها نحو الغنيمة، بمعنى غياب الرؤية الوطنية العراقية العامة. وهو المعيار الذي كان لابد له من أن يكشف عن حقيقة ما جرى ويجري. لأن التجارب التاريخية للأمم جميعا تبرهن على أن الوطنية والتقدم والديمقراطية ليست شعارات بل وقواعد عمل. وأنها عطاء  لا أخذ. والخروج عليها هو خروج على الوطنية والتقدم والديمقراطية. مع ما يترتب عليه من تصادم وصراع يكشف حقيقة ما كان يخطط له في "الاتفاقات السرية". وهي اتفاقات جرى المحافظة عليها في لقاءات سرية بعد انتخابات علنية!! ووجدت هذه المفارقة انعكاسها في تحالف القيادات الشيعية والكردية، كما تجد تعبيرها في انفراطه الواضح واشتداد الصراع الذي سوف لن ينتهي إلا بانتهاء نموذج التحالفات الحزبية في العراق. والآن ضرورة القضاء على النظام السياسي الحالي واستبداله بنظام حيوي ومستقبلي ينهي وينفي ما هو موجود وما سبقه.

 لقد سلكت قيادات الأحزاب الشيعية والقومية الكردية حينذاك سلوكا مغامرا عبر تحالفها السري. وكشفت بهذا المعنى عن فقدانها للرؤية الحكومية ومنظومة الدولة من جهة، وتفريطا بقيمة اللعبة الديمقراطية وقواعدها وشروطها، من جهة أخرى. وقد كتبت بعد ظهور التحالف بين هاتين القوتين مقالا بعنوان (العلاقات الشيعية الكردية - زواج متعة أم حساب العد والنقد) أشرت فيه إلى أن وصول هذه القوى إلى السلطة بعد الانتخابات كان يحمل في ذاته تناقضا كبيرا لعل أشده يقوم في نتائجه التي هي اقرب ما تكون إلى كونها خطوة إلى الوراء في مجال المسار السياسي، مع أن الانتخابات كانت خطوة تاريخية هائلة إلى الأمام في مسار الحرية. وأكدت أيضا على أن "انتخابها" كان محكوما بمستوى الخراب الشامل في العراق. مما أدى بالضرورة إلى ارتقاء قوى عاجزة من حيث إمكانياتها وأيديولوجياتها على تحقيق مشروع الانتقال العقلاني إلى الديمقراطية. وكتبت بهذا الصدد، بأننا نقف أمام "تناقض سوف يطبع مجمل العملية السياسية في العراق في الأشهر القادمة. وبالقدر الذي يثير هذا التناقض حساسية بالنسبة للضمير والوجدان العراقي المعذب في انتظار تحقيق آماله الفعلية في البديل الديمقراطي، فإنه في الواقع اقرب إلى وهم الآمال الشعبية المتربية بنفسية التأمل العاطفي "للأمام المنتظر". لكنه تأمل يشكل الخطوة العملية الأولى لتذليل نفسية الوهم والتأمل الخادع. والقضية هنا ليست فقط في أن العراقيين سوف يدركون خلال فترة بسيطة أن "الإمام المنتظر" ليس أكثر من قوى سياسية محترفة في إتقان صناعة الوهم، بل ومتمرسة أيضا في لعبة الرذيلة السياسية المغلفة بلباس التدين والورع الكاذبين. وتجسدت هذه الظاهرة بصورة نموذجية في شكل ومضمون "المساومات" السياسية التي عملت من اجلها القوى "الفائزة" في الانتخابات. بمعنى أنها عوضا عن أن تتوجه إلى الناخب الفعلي، فإنها اختبأت وراء تاريخها المقدس "الشيعي" و"الكردي"، أي الطائفي والعرقي لتحيك منهما نموذجا جديدا لنفسية المؤامرة والمغامرة". وهو تقييم تتضح معالمه الآن بصورة جلية.

وقد استنتجت من تحليل طبيعة هذه القوى ونوعية "تحالفها" فكرة مفادها، بأن تحالف هذه القوى "يشير إلى أن القوة الفاعلة في أساليبها تقوم في غلبة المصالح الضيقة، أي المصالح التي لا علاقة جوهرية لها بفكرة البديل الديمقراطي في العراق". واعتبرت هذا التحالف ليس فعلا سياسيا محكوما بالمصالح الوطنية العليا للعراق، بقدر ما هو "عقد مؤقت اقرب ما يكون إلى زواج متعة محكوم بحساب العد والنقد. وشأن كل متعة مؤقتة عرضة للزوال السريع لأنها محكومة بمشاعر الغريزة ومتطلبات الجسد". وضمن هذا السياق يمكن فهم وتقييم الصراع الذي جرى آنذاك بين "رئيس الجمهورية" و"رئيس الوزراء".

فالصراع بين الطالباني والجعفري كان صراعا بين قوى حزبية وليس قوى الدولة، وذلك لأنه صراع لا يحتوي على أبعاد الرؤية الجمهورية (الدولتية) والحكومية (الوزارية). فمن الناحية المبدئية لا معنى لهذا الصراع وذلك لسبب بسيط وهو أن "رئيس الجمهورية" شخصية فخرية وغير منتخبة، بمعنى أنها شخصية شكلية لا تتمتع بتأييد شرعي. ومن ثم لا معنى لتدخلها في شئون الحكومة وعملها اليومي وسياستها الداخلية والخارجية. أما "تنشيط" ما فيها استنادا إلى "قانون إدارة الدولة" و"الاتفاقات بين الأطراف" فهو دليل على مستوى الخراب السياسي للرئاسة، التي لم تعد في الواقع أكثر من مظهر عراقي لحركة قومية صغيرة. وسبق وأن حللت أبعاد هذه الحالة ونتائجها وآفاقها بعد تعيين الطالباني رئيسا للجمهورية. وكتبت بهذا الصدد مقالا بعنوان ("انتخاب" الطالباني: مساومة تاريخية أم خيانة اجتماعية للقيادات الشيعية) أشرت فيه إلى أن  "انتخاب" الطالباني هي "ممارسة ديمقراطية" في سرقة الديمقراطية. وهو حكم مبني ليس فقط على "أن الطالباني كردي المنزع والمشرب، بل ولكونه شخصية لا يمكنها الحصول في ظل انتخاب طبيعي مباشر على أكثر من 5%، أو عشرة بالمائة في حال افتراض اتفاق الأكراد جميعا عليه (وهو أمر شبه مستحيل!). بعبارة أخرى، إن منح شخصية لا يمكنها أن تحصل على إجماع وشرعية أقلية قومية في العراق لرئاسة العراق، هو فعل لا علاقة له بالسياسة بالمعنى الاجتماعي والوطني والديمقراطي. وبالتالي فهو يتناقض مع المجرى الضروري لتكامل الدولة والمجتمع والنظام السياسي". كما انه تناقض كان ينخر هذا "التحالف" الذي لم يكن في الواقع أكثر من عناق الخناق! حيث أكدت آنذاك بأن ما يجري هو ليس اتفاقا أو تحالفا بل سلوكا لا على قاعدة، مصيره الانفراط بالضرورة. وكتبت بهذا الصدد، بأن "الأشهر القليلة القادمة والانتخابات المرتقبة سوف تكشفه بصورة تامة. إضافة إلى احتمال المفاجئات الدرامية العاصفة التي سوف تكنس القوى التي ترعرعت ضمن تقاليد المؤامرة والمغامرة. وهي تقاليد شبه سائدة عند اغلب الحركات السياسية المعاصرة في العراق وبالأخص الشيعية منها والكردية".

طبعا أن الاستنتاج المذكور أعلاه لا يحتاج إلى دراية كبيرة من اجل رؤية آفاقه. فهو اقرب ما يكون إلى حصيلة طبيعية لكل رؤية واقعية وعقلانية تنظر إلى معاملات السياسية بوصفها علما وليس جزءا من تقاليد الرؤية الحزبية التي ترعرعت في تاريخ العراق الحديث. فالمشترك بين قوى "التحالف" هو انعدام القاسم المشترك في كل ما له علاقة بالدولة والقومية والتاريخ والثقافة والمذهب، أي في كل المكونات التي تعتاش عليها هذه الحركات وسط الجماهير الفقيرة والمفتقرة والمسطحة في وعيها السياسي والاجتماعي. الأمر الذي جعل من الاتفاق الكردي الشيعي مؤشرا على الاغتراب الفعلي عن مصالح العراق الجوهرية والاشتراك في تمرير سرقته المؤقتة. ويدفع العراق والعراقيون ثمن باهظ لهذا الاغتراب، كما تدفع القوى السياسية التي مازالت تعمل وتفعل بمعايير المؤامرة والمغامرة ثمنه الباهظ أيضا، ألا وهو اندثارها الفعلي من مسرح الحياة العراقية.

فلكل فعل خاطئ نهاية! ونهاية "التحالف" بين قيادات الأحزاب الشيعية والأحزاب القومية الكردية هو بداية التاريخ السياسي الصحيح. لأنه سوف يجبر الجميع على "الاتفاق" و"التحالف" مع المجتمع أولا وقبل كل شيء. فالوفاق والتحالف الضروري والحقيقي بالنسبة للعراق المعاصر لا يمكن إرسائه على أسس الخروج المغامر على منطق الديمقراطية الاجتماعية، كما رأيناه ونراه في "زواج المتعة" بين القيادات السياسية الشيعية والقومية الكردية، وفي "انتخاب الطالباني"، بل في عقد اجتماعي سياسي جديد. فقد كشفت أحداث الأشهر القليلة بعد الانتخابات والسنين اللاحقة بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية عن ضرورة هذا العقد. إنها كشفت بما لا يدع مجالا للشك، بأن القوى الطائفية والقومية الضيقة في العراق لا تفعل في الواقع إلا على إنتاج الخراب. أما مصيرها النهائي فهو الخراب، بوصفه العد العكسي الجديد في المسار السياسي للعراق ما قبل الانتخابات القادمة. فهي المرحلة التي ينبغي أن تقدم الموجة الجديدة، ولتكن الناقصة أيضا، لكن الأكثر واقعية وعقلانية وعراقية في مواقفها من الإشكاليات الكبرى لمرحلة الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. وهو الطريق الضروري لتذليل العقدة الكردية في العراق

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم