قضايا

التفكير الناقد في حديث عيسى بن هشام

عصمت نصارينزع الكثير من الباحثين إلى أن مصطلح «التفكير الناقد» قد ظهر عقب ثورة ما بعد الحداثيين على كل أشكال الثوابت الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية والقوانين العلمية والمواثيق الوضعية، وذلك للكشف عما فيها من سلطات تقيد الحريات وتحول بين الذهن وسياحاته وانتقاء اختياراته وانتخاب الأفضل لرسم مستقبله والتعبير عن قناعاته، غير عابئ بتلك القيم التليدة التى ألبسها الأقدمون عباءة القداسة ظانين أنها أسس للإلزام.

بيد أن الباحث المدقق يمكنه إدراك العديد من صور التفكير الناقد فى تراثنا العربي قديمًاً وحديثًاً، وأعتقد أن معظم المقامات التى تحدثنا سلفًا عنها تحمل تلك الوجهة فى التفكير من حيث طرحها للقضايا والمشكلات بلغة المعارض الفطن الواعي والناقد الحصيف والخبير بمقاصد انتقاداته ومآلاتها وامتلاك القدرة على وضع حلول لها بنهج بسيط ينتحل الفكاهة والسخرية والتهكم تارة، والمنحى العلمي فى تمزيق الستائر وكشف الحجب وتحطيم الأصنام التى تحول بين المتلقي والوقوف على مواطن الخلل ومواضع الفساد ومكامن العيب تارة أخرى.

ويروق للدراسات المعاصرة وصف هذا الضرب - أي التفكير الناقد - بأنه أهم أشكال التفكير المنطقي الفاعل، وأقرب النماذج للتحليلات الإبداعية، وجعلوا له سمات عشر هى : تحديد المشكلة بكل دقة ووضوح، واستخدام مصادر موثقة من البيانات والمعلومات، والبحث عن بدائل وفحصها باهتمام بالغ، وإيجاد أسباب ذات علاقة منطقية سياقية عاقلة مباشرة وغير مباشرة، والانفتاح على الأفكار والآراء الجديدة، وإصدار الأحكام المناسبة واتخاذ القرارات الملائمة فى ضوء الأهداف الموضوعية بمنأى عن الرغبات الشخصية أو العواطف الفردية، والعصبيات أو التحزب، والمثابرة على حل المشكلات وإثارة التفكير باستمرار، والتشكيك فى التقارير والمعلومات للوصول إلى اليقين، وتأجيل إصدار القرارات ما دامت الأدلة غير كافية.

كما تؤكد الكتابات المعاصرة أن هذا الضرب عملي تطبيقي، وهو بالضرورة أفضل آليات المصلحين على مر العصور، وذلك لأنه أبعد ما يكون عن التهوين والتهويل فى عرض المشكلات والقضايا، وأقرب إلى الواقع والمنطق منه إلى التقليد فى وضع الحلول، وأحرص المناهج على صدق البيانات وفحص الأسباب وتجريح الأسانيد والمتون واختبار الحلول المقترحة والموازنة بينها بحيدة وموضوعية ونزاهة تنأى بصاحبها عن كل أشكال الهوى والغرض، ومقاومة الأفكار التقليدية وسلطة الجمهور والقوى المؤثرة، وذلك بعد التأكد من صدق وصحة ومراجعة المقدمات والنتائج.

وما أكثر المنابر والأبواق العالية التى تدعى التزامها بهذا المنحى - فى ثقافتنا المعاصرة - وذلك النهج الدقيق فى طرح المشكلات ونقد القضايا وتحليل الآراء انتصارًا للصدق والحق طلبًا لتقويم ما فسد، ولعل أقرب الأمثلة لذلك هى تلك القنوات التليفزيونية والبرامج والصحف الورقية والإلكترونية التى احترفت تزييف الوعى وطمس الحقائق وتشويش الأذهان، وترويج الشائعات وتحريض العوام على تفعيل ما أطلقوا عليه الفوضى الخلاقة، كما أن حروب الجيل الرابع والخامس تعول كثيرًا فى أسلحتها على الحيلولة بين المثقفين وانتهاج التفكير الناقد، فما أكثر الممثلين لأوهام المسرح وأوهام السوق، إذ نجد العديد من المشاهير فى ثقافتنا العربية من يتعمدون قلب الحقائق ويروجون للأكاذيب باسم العلم تارة وأصول العقائد تارة أخرى. وخطر هؤلاء لا يصيب العوام فحسب بل الخواص أيضًا من كبار الصحفيين والمعلمين والدعاة، وهناك من يلعبون فى السوق فيفسدون الأذواق ويدمرون ما بقى من القيم الأخلاقية والجمالية، ذلك بترويجهم لأحط الألفاظ فى حواراتهم وأغانيهم ونكاتهم، الأمر الذى اصطنع من أطفالنا وشبابنا جيلًا سافلًا فى لغته وعوائده وسلوكه، وذلك كله من جراء التقليد الأعمى للمشاهير الذين يجسدون أوهام المسرح أو السوقة والدهماء الذين يتحكمون فى أوهام السوق.

ويلخص أحد الباحثين المعاصرين تلك الآفات وعللها فى أمور ثمانية هي : اللجوء إلى قوة التأثير والهجوم الشخصي وتلفيق التهم وادعاء خرق الثوابت، وذلك لتشويه الأوضاع القائمة، وذلك بعد دراسة وافية لثقافة الرأى العام الضحلة، وتعلق أفراده بثقافة التبجح والتطاول على الأغيار المخالفين، والتشكيك والتردد فى قبول القرارات والآراء المناسبة المواكبة للقضايا المطروحة والأزمات المعيشة، والتضليل والتهكم الساخر والضحك المذموم من كل المخالفين بغية الحط من شأنهم وتسفيه آرائهم، واللعب باللغة على نحو سافل متخذين من قاعدتي القلب والإبدال صيغا للشتم والقدح والفحش والتعريض، وادعاء حل المشكلات عن طريق معلومات مغلوطة وأسانيد مزيفة قد صيغت فى صور معقولة من حيث الشكل، والترويج لشائعات تستند إلى مصادر مصطنعة لا أصل لها، والتهوين من القضايا المطروحة التى تشغل الرأى العام، وادعاء أن الفساد كامن فى سلطة المخالفين، وتضمين خطاباتهم النقدية الآيات القرآنية والأحاديث المقدسة والأقوال المأثورة والأمثال الشائعة والحكم الموروثة، وذلك بعد إعادة مضامينها وحشرها ضمن العبارات المطروحة للإعلاء من قيمتها ومقاصدها.

وهناك آفات أخرى تحول بين تطبيق التفكير الناقد فى ثقافتنا وتسييس أمور حياتنا وهى تبدو فى تسع آفات : الاعتماد فى مناقشة القضايا وتقييم الحلول على منطق التناقض (إما - أو) الأمر الذى يخالف المنطق المعاصر (منطق تعدد القيم) فى التقييم من جهة وأسلوب ما بعد الحداثيين فى جدولة الأحكام من جهة أخرى، والأصح هو اتباع فلسفة الممكن التى تقيم المطروح فى ضوء الواقع بنسب متغيرة تبعًاً للزمان والمكان والوضع والحالة.

أضف إلى ذلك آفة المبالغة فى التعميم والتهويل من شأن الأحداث وتضخيم الأزمات، وإقناع المتلقي بأن الرأى الصواب له وجه واحد وأن الحل فى ركابهم دون غيرهم، ورفع شعار (قولًا واحدًا) واستشراف النتائج وادعاء معرفة المآلات والتهديد من العواقب، والزعم بحتمية النتائج المستنبطة من استدلالات منطقية مؤكدة، واختلاق الأخبار المثيرة استنادًا على صور مفككة أعيد تركيبها للتمويه والخداع، والاستناد إلى قوة علوية لتأييد وجهة نظر المرسل، وعقد مقارنات جائرة لا توافق بينها، وتشويه كل إيجابيات ما يطرحه الخصم وتأييس المتلقي من الواقع المطروح، وتعمد الإتيان بمصطلحات مبهمة واستشهادات مستغلقة وبراهين يصعب التأكد منها وأقوال مبتورة ونظريات مجهولة، وتجهيل المتلقي وإيهامه بوجود أسرار خفية لا يعلمها، وحشد الجانحين والجامحين والمخالفين للمطروح وتجييشهم لمساندة خطاباتهم المرسلة باعتبارها الممثل الأوحد للمعارضة والثورة الواجبة ضد قلاع الاستبداد.

 

وسوف نتناول فى المقالات المقبلة مدى قدرة عيسى بن هشام على ممارسة هذا النهج فى انتقاداته وتحليلاته للمواقف والآراء والواقعات التى تعرض إليها فى مقامته.

والسؤال المطروح : هل فى إمكاننا تطبيق التفكير الناقد فى حياتنا بداية من الخطابات المطروحة بالداخل والخارج ونهاية بمشكلاتنا وعوائدنا وتصرفاتنا وما نضعه من أفكار لتخطيط المستقبل؟

* * *

إذا كانت المقامات والقصص التى كتبها النهضويون والمستنيرون فى الثقافة العربية، ولاسيما فى الفترة الممتدة من أخريات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قد انتحل جميعها المنهج النقدي الجامع بين الأسلوب الأدبي للخطاب، والبنية الفلسفية للمشروع، والثوب الهزلى الفكاهي الساخر فى الظاهر، والوجهة النقدية فى تناول الواقع، والمسحة الرمزية فى التعبير عن الآراء، والحكمة العملية الجامعة بين التصورات الفلسفية والدقة العلمية، والعمق فى الجوهر؛ فإننا نؤكد بلا أدنى شك أن تلك الكتابات التى انتحت المنحى الأدبي لا تقل فى أصالتها وطرافتها وجدتها عن باقي مؤلفات أكابر التنويريين المباشرة فى مصر والشام، ناهيك عن القصائد الشعرية ذات الطابع الفلسفى التى ناقش فيها أصحابها عشرات المشكلات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية. وكان الهدف من ذلك كله هو إعادة بناء العقل الجمعي العربي وتهيئة الجمهور للدعوات الجديدة والمشروعات الإصلاحية التى تمكنه من الانتقال من طور التقليد والتبعية إلى الوعى الحقيقي بحرية الفكر والإبداع.

ويُعد محمد المويلحي من أكثر المستنيرين إتقانًا لهذا الدرب من دروب التفكير، أعنى التفكير الناقد الجامع بين الأدب والفلسفة فى مشروع واحد. وسوف أحاول فى السطور التالية إلقاء بعض الضوء على أهم خصاله ومصادر فلسفته وثقافة عصره قبل الخوض فى تحليل مقامته «حديث عيسى بن هشام» التى تُعد بحق المدرسة التى تخرج فيها معظم الكتّاب والأدباء اللاحقين عليه حتى منتصف القرن العشرين.

هو الأديب الصحفي اللغوي المفكر محمد إبراهيم عبد الخالق إبراهيم أحمد مصطفى المويلحي (١٨٥٨-١٩٣٠م)، وُلد بالقاهرة من أبوين مصريين، ويرد لقب عائلته إلى مسقط رأس أجداده فى بلدة المويلح، وهى إحدى بلدان الجزيرة العربية على شاطئ البحر الأحمر. أما نسبه فيرده المؤرخون إلى الحسين بن على بن أبى طالب من ناحية الأب، وإلى أبى بكر الصديق من جهة الأم. وقد هاجر أجداده إلى مصر فى أوائل عهد محمد علي، واحترفوا التجارة، والمضاربة فى البورصة بعد ذلك. نشأ فى أسرة من الأعيان وكان لأبيه وأجداده حظوة ومقام فى أسرة محمد علي، وقد انعكس ذلك على هيئته وأسلوبه فى الكلام ومعاملة الأغيار، ومع اعتزازه بنفسه؛ فكان كثير التواضع لين الجانب عطوفًا على الفقراء والمعدمين ومنصفًا للضعفاء والمظلومين وقد عُرف بين معاصريه بالجامع بين الجدة والبشاشة والحدة فى الطبع والطيبة، شأنه فى ذلك شأن أبيه إبراهيم المويلحي (١٨٤٦-١٩٠٦) الذى بدأ حياته تاجرًا ثم عُين موظفًا فى دواوين الدولة وانتهى به الأمر إلى احتراف الأدب والصحافة.

وقد تتلمذ محمد المويلحي على يد أبيه ومؤدبي أبناء الذوات والعائلة الخديوية ثم تردد على الأزهر وحضر مجالس الأفغاني ومحمد عبده فى المقاهي الثقافية. وشب وطنيًا غيورًا على مصلحة بلاده وجامعًا فى وجهته الفكرية بين ثورية الأفغاني (١٨٣٨-١٨٩٧م) فى مقاومة المستعمر وتسلط الحكام، وأناة محمد عبده فى التنوير والإصلاح. وفى عام ١٨٨١م ألحقه الخديوي توفيق بوزارة الحقانية، وقد أراد بذلك إبعاده عن مصاحبة العرابيين.

وفى أعقاب الثورة العرابية قُبض عليه بتهمة دباجة وطباعة المنشورات المحرضة على الثورة وحُكم عليه بالإعدام، غير أن وساطة والده وعلاقته بالباب العالي قد خففت الحكم واكتفت المحكمة بنفيه إلى الأستانة ومنها لحق بوالده بإيطاليا خلال مرافقة الأول للخديوي إسماعيل (١٨٣٠-١٨٩٥م).

وهناك قد تمكن محمد المويلحي من مطالعة عشرات الكتب الأدبية والفلسفية التى كُتبت بالفرنسية والإنجليزية واليونانية واللاتينية والإيطالية. وخلال سياحته فى أوروبا ألتقى بالأفغانى ومحمد عبده فى باريس، وشاركهما مع أبيه فى تحرير مجلة «العروة الوثقى» بالإضافة إلى تحرير مجلتي «الاتحاد والأنباء» بإيطاليا، وخلال هذه الفترة استدعاهما السلطان عبدالحميد الثانى ليحول بينهما والكتابات الصحفية المناهضة للباب العالي والأتراك، وعين إبراهيم المويلحي عام ١٨٨٥م عضوًا فى مجلس المعارف الأعلى بالأستانة، أما محمد المويلحي فراح يراسل العديد من الصحف فى إسطنبول والقاهرة. وفى العام التالي عاد بمفرده إلى مصر واشترك مع عارف بك المرديني فى تحرير جريدة (القاهرة الحرة) اليومية، بالإضافة إلى مقالاته على صفحات المقطم عن الحرية والاشتراكية.

وقد تأثر فى هذه الفترة بأسلوب أحمد فارس الشدياق - الذى طالما قرأ كتاباته وأشعاره ومهارته - فى النقد المستتر.

وفى عام ١٨٩٥م تم تعيين محمد المويلحي معاون إدارة بمديرية القليوبية ثم مأمورًا لمركز البرلس. ورغم ذلك لم يترك مفكرنا رسالته النقدية بل راح يدبج المقالات الأخلاقية والاجتماعية متخذًا من حياة البسطاء مرآة لتوضيح حقيقة الريف المصرى، ومن سلوك أبناء الباشوات دليلاً على فساد طبقة النبلاء والأمراء ومعية الخديوى ومن أحوال صغار الموظفين برهانًا على بؤس الطبقة الوسطى المصرية. ثم أسس مع والده مجلة «مصباح الشرق» عام ١٨٩٨م وكانت تلك المجلة بمثابة المنبر الذى حمل خطابه النقدى للرأى العام، وهى أيضًا الصالون الذى عقد فيه أولى جلسات مدرسته الأدبية التى جمعت بين النزعة الإصلاحية النقدية والرؤية الواقعية فى الوصف والتحليل والنزعة الاشتراكية فى توجيه الأدب والفن. وقد تتلمذ عليه معظم كتاب القصص والروايات وجل أدباء حركة التنوير المصرية من أمثال لطفى السيد وعبدالعزيز البشرى وسلامة موسى وفرح أنطون ومحمد لطفى جمعة وعباس محمود العقاد ومحمود حقى ومحمود تيمور وحافظ إبراهيم ومحمد حسين هيكل وعبدالحليم المصرى وأحمد الكاشف ومحمد مصطفى الماحي.

وعلى صفحات جريدته راح ينشر مشاهداته ونقداته وتحليلاته النقدية للأوضاع الاجتماعية والأخلاقية وطبقات المجتمع وأحوال الناس وميولهم والاستعمار الإنجليزي، وحالة الفلاح ووضع المرأة المصرية، ووقف على سلبيات دواوين الحكومة ورجالاتها والبوليس وشيوخ الأزهر وعوائد الصوفية والمعتقدات السائدة بين العوام ولاسيما حكايات العفاريت والمردة والتفسيرات الخرافية للطبيعة المجافية للعلم والمعاندة للعقل، والمحاكم الشرعية والنيابة العمومية.

وقد عنون هذه المقالات بعنوان «فترة من الزمان» ثم جمعها وأعاد طبعها فى كتاب أطلق عليه «حديث عيسى بن هشام» عام ١٩٠٧م - وهو عنوان المقامة التى نحن بصددها - وقد استوحاه من اسم بطل مقامة بديع الزمان الهمذاني (٩٦٩-١٠٠٧م)، تلك التى عُنى والده بتحقيقها وإعادة طبعها فى مطبعته التى أنشأها فى مطلع النصف الثانى من الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وقد نسج كل حكاياته على نهج المقامة (الحكي المقفى الجامع بين الهزل والجد والضحك والسخرية بأسلوب بسيط فى الظاهر ودقيق المعانى والإحالات الرمزية والتورية والتعمية فى الباطن). وقد حرص مفكرنا رغم نقده اللاذع وتهكمه الساخر على البعد عن المسائل الشخصية وسلوك الأفراد إلا ما تعلق منه بضرر الصالح العام، أما الفضائح والوشايات والكشف عن عورات الناس وغير ذلك من الرذائل فكان يمقتها ويمج الحديث فيها.

 

د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم