قضايا

الأمم الراقية وجدلية الائتلاف والاختلاف

عصمت نصارلم يغب حلم أمل النهضة والإصلاح عن الحضور في أطياف والهامات قادة الرأي المصريين المحدثين، وشعورهم بالتفرد والاستقلال رغم وطأة الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، سواء في ظل حكم المماليك أو العثمانيين. فلم يكن خطاب «نابليون (١٧٦٩م-١٨٢١م)» للمصريين هو علة إيقاظ وعيهم القومي أو انتمائهم الوطني كما يدعى البعض -ذلك الذى جاء فيه- أن المصريين أمة مستقلة عن دونها من الغزاة، الذين استعبدوا الشعب ونهبوا ثرواته، وأنه جاء بحملته ليرد الحق لأهله، ويحرر أصحاب البلاد الحقيقيين. فعلى الرغم من ذكره مصطلح الأمة المصرية إلا أنه قد ذكر أيضًا أنها تابعة للسلطان العثماني كما حاول إيهام قادة الرأي من شيوخ الطوائف والحرفيين وشيوخ الأزهر بأن حملته ليست صليبية بل إن حكومته تناصر الإسلام وتحترم المسلمين.

والحق فإن عوام المصريين قبل علمائهم لم ينسوا أن مشخصاتهم أقوى من أي ثقافة وافدة، وقد نجحت عبقريتهم في تطويع كل وافد بما فيه من عوائد وعقائد وصبغته بالصبغة المصرية.

الأمر الذى يبرر تفاعل المصريين مع الفكر السياسي الأوروبي ومناقشة ما فيه من أنساق فلسفية، أضف إلى ذلك أن وحشية الغزاة وتجبرهم مع المصريين كان بمثابة الناقوس المنبه لأذهانهم بأن الجلاد لن يصبح يومًا صديقًا أو أليفًا ولم يبيت أبدًا خليلًا أو راعيًا أمينًا.

فقد شغل مصطلح الأمة أذهان قادة الرأي المصريين -منذ منتصف القرن السابع عشر- ولعل كتاب «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي (١٠٢٩م-١٠٧٠م) -الذى نُقل محتواه شفهيًا إلى الإسكندرية عن طريق التجار والرحالة- من أوائل المؤلفات التى نوقشت في مجلس «حسن العطار» فقد تناول المثقفون المصريون حديث «صاعد» عن ثقافات الأمم وتطورها وأثر علمائها في نهضتها وتحديثها وكذلك انتقال المدنية من أمة إلى أخرى بفضل تناكح الثقافات وانتقال العلوم من مجتمع إلى آخر، الأمر الذى ساعد على تطور الأفكار وإيقاظ العقول على مر العصور.

وقد راق لهم وصف «صاعد» لمصر بأن لها تاريخا عريقا وكيانا مستقلا عن العرب والترك وأنها أمة لها خصائصها التى لم تتبدل رغم تعدد أجناس وملل ساكنيها، وأن العلم والحكمة والأخلاق قد ميزت أهلها عن غيرهم.

أما مصطلح «القومية» فقد تسلل إلى الثقافة المصرية عبر القنصليات الأجنبية الموجودة في مصر منذ مطلع القرن السابع عشر وكان لا يتعدى التعبير عن المجتمعات التى وحدتها اللغة والمكان والتاريخ والدين والأعراق، ولم يظهر هذا المصطلح بالمعنى السياسي إلا في القرن التاسع عشر.

وذلك عندما تبلورت دلالته في التعبير عن الأمة باعتبارها ذات سيادة وشخصية مستقلة، وإرادة حرة تمكنها من وضع النظم الخاصة بها وعقد الاتفاقيات الخارجية والتحالفات بين غيرها من الأمم.

وقد أدرك المصريون -مبكرًا- أن الأمة المصرية لم تمر بالأطوار التى مرت بها أوروبا - من صراعات وحروب عرقية ومليّة- لكى تصبح لها مشخصات مميزة أو وجود مستقل، الأمر الذى دفع قادة الفكر المصري إلى توضيح ذلك المصطلح للشبيبة، «الأمة» للكشف عن عراقة وأصالة وتحضر الأمة المصرية التى لم يقعدها على النهوض سوى عزلتها عن ركب التقدم وسجن إرادتها تحت واطئة استبداد الحكام الغرباء، أو تجبر المحتل الغاصب.

ويسجل التاريخ أن حفنة من شيوخ الأزهر قد اضطلعت بمهمة الدفاع عن حقوق الشعب المصري غير عابئة بأوامر الباب العالي أو عسكر المماليك، وأن وحدة الخلافة الإسلامية لم تُنسهِم أنهم مصريون ونذكر منهم «الشيخ سليمان المنصوري» والشيخ عبدالله الشرقاوي (١٧٣٧م-١٨١٢م)» قائد ثورة المصريين على المماليك عام ١٧٩٥م و«السيد محمد كُريّم (ت١٧٩٨م)» قائد مقاومة الحملة الفرنسية و«السيد عمر مكرم (١٧٥٠م-١٨٢٢م)» ممثل الشعب الذى نصب «محمد على (١٧٦٩م- ١٨٤٩م)».

ويبدو أن إقبال قادة الرأي في مصر على دراسة مقدمة «ابن خلدون» ونشر ما فيها من أفكار بين المثقفين في القرن التاسع عشر كان وراء رغبتهم في إيقاظ العقل الجمعي المصري، حتى أضحى شعار «مصر للمصريين» الذى ردده كل من «جمال الدين الأفغاني» و«محمد عبده» في مجلة «العروة الوثقى» هو قاعدة الانطلاق لاسترداد مصر ثانية من اغتصاب واستبداد الحكام وتحريرها من أغلال المحتل.

وقد تنامى هذا الشعور وقويّت تلك الإرادة بعد أن أصبح لمصر جيشًا من المصريين.

وقد فطن «حسين المرصفى» لكل ما أسلفناه، الأمر الذى كان وراء جعله مصطلح «الأمة» في صدارة «الكلم الثمان».

ووقف كذلك على المفهوم الأوروبي الحديث لمصطلحي قومية وأمة، إذ كان يعنى الأول في معظم الدوائر السياسية الغربية -آنذاك- «أن القومية هى حالة عقلية وإحساس مشترك بالولاء إلى كيان جماعي أعلى من الولاء المحلى أو الإقليمي أو أي ولاءات أخرى».

كما تأثر بتعريف الفيلسوف الإنجليزي «جون ستيوارت ميل (١٨٠٦م-١٨٧٣م)» الذى جعل الشعور المشترك والعوائد والتقاليد والأعراف والسمات الأخلاقية للشعوب في صدارة مقومات وحدة القومية وذلك قبل الجنس والأصول العرقية واللغة والدين والحدود الجغرافية.

وتعريف الفيلسوف الفرنسي «أرنست رينان (١٨٢٣م-١٨٩٢م) للأمة:- بأنها نتاج لذلك التقارب بين كل أطياف المجتمع تحت إمرة حكومة واحدة، وأن ما يميزها عن غيرها هو وحدة الإرادة للعيش سويًا والمكان وقدمهما على وحدة التاريخ والأعراق واللغة والدين، موحدًا بذلك مفهوم الأمة مع مفهوم الدولة.

وللحديث بقية.

 

د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم