قضايا

درصاف بندحر: هل يقلقك أنك خارج دائرة الاهتمام؟

"سينيكا" فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني، شرح من خلال مؤلفاته الانفعالات الإنسانية وأكد أن أحد أكبر مخاوف العصر وأعراضه المزمنة هو القلق الذي يفسد على الإنسان حياته.

أقيمت دعوى قضائية على صديق لسينيكا كادت تنهي حياته العملية وتشوه اسمه، فأرسل إلى صديقه سينيكا يطلب العون.

هو في الحقيقة كان يتحرّى الحكمة إذ كثيرا ما نحب سماع رأي من نثق به عندما نكون في وضع نفتقر فيه إلى صفاء الذهن.

ردّ سينيكا عليه قائلا: "قد تتوقّع أنّني سأنصحك بتخيّل نتيجة سعيدة، وأنْ تستسلم لإغراءات الأمل. ولكنّي سأدلّك على راحة بال عبر طريق آخر: لو أردتَ نفض كلّ القلق، تخيّل أنّ ما تخشى وقوعه سيقع فعلا."

عميق جدا هذا النصح الذي قدمه سينيكا لصديقه. أن تسحب البساط من تحت سطوة ما تتوقع أنه سيهزمك ويقضي عليك..أن تستقبل أسوأ ما يمكن أن يحدث لك برباطة جأش وبرضا. أن تقول في نفسك أنا هنا موجود بل وأقف على قدمين راسختين فليكن ما يكون.

كذا الشأن فيما يتعلق بٱراء الٱخرين فيك ومن حولك.

يفسر عالم النفس الأميركي "رولو ماي" في كتابه “بحث الإنسان عن نفسه" أن القلق الدائم بخصوص آراء الغير والاهتمام الشديد بوجهات نظرهم ينبع من الخواء الداخلي، إذ حين يفقد الإنسان إحساسه الداخلي بالمعنى والهدف من حياته يشعر بالخطر. هو يتجه للآخرين ليطمئن وليتلاشى إحساسه بالوحدة والخوف.

نفهم من ذلك أن حاجة الإنسان إلى الثناء والإعجاب تصبح حاجة قهرية ليمسي معها فاقدا لشجاعة أن يكون كما يريد.

وهو يخوض غمار الحياة سيحارب المرء حينئذ لإرضاء قناعات الآخرين بدلاً من إرضاء قناعاته.

بالتالي يصبح الإنسان في سعي دائم إلى أن يكون ما يريده الغير أن يكون، لا أن يكون نفسه..يستعمل كل الوسائل ليظفر بنظرة إعجاب أو كلمة إطراء ممن هب ودب.

فكيف يؤثر هذا الاهتمام المبالغ فيه بنظرة الآخر تجاهنا، على معتقداتنا تجاه أنفسنا وثقتنا بها؟

بالرغم من أن الوجود الإنساني يجعل كل فرد منا ذاتا مختلفة عن ذات الآخر إلا أن الكثيرين تعوزهم القدرة على اكتناه ما يميزهم بمعزل عن ذم الٱخر لهم أو إطرائه وهو ما يسقطهم في مأزق نفسي.

يتمثل هذا المأزق في أن يسلموا أنفسهم لتقديرات الغير. هي تقديرات قد تكون ممن لا يحسن التقدير فيعيشون في قلق دائم.. لا يشعرون بقيمة أنفسهم إلا من خلال سعيهم المحموم إلى اعتراف الٱخرين بهم.

فماهي تبعات هذا البحث عن المكانة؟

إن الرغبة المهوسة والمتكلفة التي تراود الكثيرين لكسب محبة الناس والسعي إليها مهما كلفهم ذلك من التصنع المثير للإشمئزاز أحيانا، تنبع في الحقيقة من انعدام ثقتهم في قيمتهم.

إن فسح المجال لتقييمات الٱخر حتى تلعب دورا حاسما في نظرتنا إلى أنفسنا مرده الرغبة في التعويض عن النقص.

"ألفرد أدلر"، أحد أهم رواد مدرسة التحليل النفسي، ومن إسهاماته الكبيرة ابتكاره مصطلح «عقدة النقص»، ونظريته الشهيرة عن «التعويض».

يرى" ادلر" أن مفهوم التعويض عن النقص يجب أن يكون له أثر إيجابي على الشخصية، فالشعور بالنقص قد يخلق رغبة جامحة في التفوق ويكون بالتالي محفزا للنجاح. لكن من جهة أخرى فإن للتعويض أثرا سلبيا عندما يضحى زائدا عن حده فيؤدي بصاحبه إلى الاستماتة من أجل السلطة والسيطرة والبحث عن التقدير الذاتي بشتى الأساليب حتى تلك غير اللائقة منها.

من خلال هذا نتبين أن في التعويض الزائد عن الحد تأثيرا سلبيا على سلوكيات الفرد.

هذا ما يجعله مرائيا، لا يبغي من وراء كل أفعاله سوى رؤية الناس لها.

هكذا لا تكون القناعة هي أساس فعل الخير والمودة والعطاء. كذلك لا تهدف ممارسة هذه القيم إلى إعلاء الإنسان من شأن الإنسان بل تصب كلها في خانة الحصول على الاعتراف والتبجيل والتهليل.. كلها وسائل لا يبغي صاحبها من ورائها سوى السعي إلى المكانة. مكانة يقلق كثيرا بشأنها فيسقط كل ما عداها ..لتصبح هي نقطة الوصول، تصبح هي الغاية.

***

درصاف بندحر – تونس

في المثقف اليوم