قضايا

ثامر عباس: الماضي وعلاقته بالدين

ليس من قبيل الاكتشاف القول إن جميع الأديان (الوثنية والتوحيدية) تحيل ضمن نصوصها وخطاباتها إلى أزمنة ماضية موغلة في القدم، تتمحور حول بدايات الخلق والصيرورات الأولى للكائنات والموجودات، بحيث إن أتباعها ومريديها غالبا"ما يضفون على ما حدث في الماضي من وقائع وما تمخض عنه من معطيات طابع التوقير والتبجيل، من منطلق نشوء هذه الأخيرة في حضن الدين ومن ثم حملها لقيمه واكتسابها لاعتباره. ولهذا فقد عبّرت الفيلسوفة (ميريام ريفولت دالون) عن هذه العلاقة بالقول (إن يكون المرء (متدينا") يعني أن يكون متصلا"بالماضي (...) فللديني دلالة ترتبط بالماضي، أي ببداياته الخاصة)(1).

وعلى الرغم من ادعاءات الإنسان المعاصر إزاء دور (الحداثة)(2) وما بعدها في تطهيره من (خرافات) الماضي وتطعيمه ضد (أساطير) الدين، بحيث بات يعتقد انه أصبح في حلّ من أي التزام حيال علاقاته بالماضي أو خالي الوفاض من أي شعور بالدين، باستثناء انصياعه لمتطلبات الحاضر واستجابته لتطلعات المستقبل. بيد إن الواقع أثبت إن الأمة التي لا ماض لها مجبورة على إيجاده حتى وان اضطرت إلى اختراعه، وان المجتمع الذي لا يدين بدين معين لابد أن يحصد عواقب هذا الإنكار على شكل اغتراب نفسي وضياع إنساني. وكما توصل (مرسيا الياد) إلى قناعة مفادها إن (الإنسان الكلي (total man) لا يسعه البتة أن يكون تماما"منزوع القداسة (Desacralized). ويحق لنا أن نشكّ في أن كان ذلك ممكنا"أصلا". إن العلمنة تحرز نجاحا"كبيرا"على مستوى الحياة الواعية: فالأفكار اللاهوتية القديمة والعقائد الجامدة (Dogmas) والمعتقدات والطقوس (ٌRituals) والمؤسسات... الخ. أخذت تفرغ تدريجيا"من المعنى. ولكن ليس ثمة إنسان سوي يمكن أن يختزل إلى مجرد نشاطه الواعي والعقلاني)(3)، وبالتالي فانه سيبقى يدور ضمن فلك جاذبية التصورات الدينية أو الميتافيزيقية، التي تلون أنماط وعيه للماضي وللتاريخ بألوان أطيافها المختلفة والمتنوعة .

وبقدر ما يحاول الإنسان الغربي - متسلحا"بادعاءات العلمنة والعقلنة - الإفلات من أسار الماضي وملابساته، والتخلص من بقايا الدين ومخلفاته التي لازالت عالقة بين ثنايا وعيه ومترسبة تحت طمى لاوعيه، فان الإنسان الشرقي لا يفتأ متشبثا"بالأول كما لو أنه وسيلة مضمونة لإنقاذه من احباطات ضياع الأمل وفقدان المعنى من جهة، ومحتكما"ومتوسلا"، من جهة أخرى، إلى الثاني عسى أن يمنحه دفء الشعور بالأمان في واقع بات يلفه الغموض، ويحقق له من ثم ما عجز أن يناله حتى ولو بالعالم الآخر. ولذلك فالشرقيون – كما لاحظ الروائي (عبد الرحمن منيف) – (مغمورين بأمرين: الماضي والكلمات الكبيرة، ثم بالتدريج يصبحون عبيدا"لهما. قد يقرأون التاريخ أكثر من غيرهم، لكنهم بسرعة يحولونه إلى كلمات ضاجّة، ويستريحون في ظلال الكلمات، لا يعرفون أن الماضي ذهب ولن يعود، كما لا يدركون إن الذي يعيشونه حاليا"مختلف. هذا ما يجعلهم سكارى تائهين، فلا هم في الماضي، ولا هم في الحاضر، وان ما كان صحيحا"أو قويا"في الماضي لم يعد كذلك الآن، وفي الوقت الذي يعتبرون أنفسهم ورثة أكثر من حضارة وأكثر من إمبراطورية، إلاّ إن الحضارة كالنهر، لا تعرف التوقف ولا تثبت على حال)(4).

هذا وقد كان المؤرخ (جوزيف هورس) اعتبر – وهو يتحدث عن شعوب الشرق الأدنى – (إن معرفة الماضي بقيت على صلة بالدين في هذه البلاد)(5)، وهو الأمر الذي أبقى مواريث الماضي حية وفاعلة لدى شعوب هذا الشطر من العالم، ليس فقط على مستوى التدوين الأكاديمي / والمؤسسي عبر الدراسات والأبحاث من جهة، والاستثمار الرسمي / الإيديولوجي عبر الممارسات والخطابات الحكومية من جهة أخرى فحسب، وإنما على صعيد الإدراكات الذهنية والعلاقات التواصلية من لدن مختلف الفئات و الشرائح والطبقات الاجتماعية أيضا"، للحدّ الذي بات – عبر اقترانه بالوعي الديني – لا يؤطر فقط معطيات حاضرها المعيشة فحسب بل وكذلك يقنن خيارات مستقبلها المتوقعة. بحيث ان أي تفكير يذهب باتجاه الماضي، لابد أن يستحضر في التو واللحظة ما يوازيه من تصورات دينية التي يفترض بها – وفقا"لمسلمات الوعي التقليدي - أن تبرر وجوده وتسوغ مضامينه وتشرعن سردياته، وذلك بصرف النظر عن الكيفية التي تم بموجبها فبركة ذلك الماضي 

ولتوضيح أبعاد هذه الفكرة على صعيد التجربة الخاصة بالمجتمعات العربية والإسلامية، التي لم يختلط في وعيها فقط التصور الديني بالتصور التاريخي فحسب، وإنما تمكن الأول من تأطير مضامين الثاني وتحديد خياراته كذلك، فقد لاحظ أستاذ التعليم العالي في جامعة محمد الخامس المغربية (إن فلسفة التاريخ الإسلامية ما فتئت تكرر القول بأن التدوين التاريخي، بل الثقافة التاريخية الإسلامية، ليست سوى نتاج التصور الديني، كما أن (تاريخ التاريخ) العربي لم يكف عن التذكير بأن التدوين التاريخي هو مجرد تعبير عن حاجة دينية، والحال أن (فلسفة التاريخ) و(تاريخ التاريخ) تجاهلا تكوين الوعي التاريخي، بل تكوين الوعي الديني الإسلامي نفسه الذي ليس في نهاية المطاف سوى نتاج التدوين التاريخي)(6).

***

ثامر عباس

.........................

الهوامش

1. مريام ريفولت دالون؛ سلطان البدايات: بحث في السلطة، مصدر سابق، ص68 وص69.

2. كتب المؤرخ جان شينو يقول (فككت الحداثة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل) . مذكور لدى فرانسوا دوس؛ التاريخ المفتت: من الحوليات الى التاريخ الجديد، ترجمة الدكتور محمد الطاهر المنصوري، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص282.

3. مرسيا الياد؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مصدر سابق، ص45.

4. عبد الرحمن منيف؛ أرض السواد، ج3، (بيروت، المركز الثقافي العربي 1999)، 201.

5. جوزيف هورس؛ قيمة التاريخ، ترجمة نسيم نصر، (بيروت، منشورات عويدات، 1974)، ص22. وتأييدا"لوجهة النظر هذه فقد أشار (مرسيا الياد) إلى إن (الثقافات غير الأوروبية، سواء أكانت شرقية أم بدائية ما زالت تتغذى من تربة دينية خصبة). للتوسع في هذا الموضوع، راجع مؤلفه الموسوم؛ البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة الدكتور سعود المولى، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007)، ص49.

6. الدكتور رضوان سليم؛ نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية – الإسلامية، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006)، ص51.

في المثقف اليوم