قضايا

بهجت عباس: الغلوّ والنرجسيّة والمحاباة في عصر الإنترنت

كانا شاعرين رفيقين، ابن رشيق وابن شرف، هربا من القيروان نتيجة حربٍ فوصلا الأندلس في عهد ملوك الطوائف وذلك قبل ألف عام تقريباً، فلم يدخلها ابن رشيق بالرغم من إلحاح ابن شرف عليه بدخولها، فتردد ابن رشيق وأنشد:

مما يُـزهِّـدني في أرض أندلس

أسمــاء مُعتمدٍ فيهـــا ومُعــتضدِ

*

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهـرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ

حيث كان ملوك الطوائف في الأندلس حينذاك يتّخذون ألقابَ وأسماءَ الخلفاء العباسيين زهواً واعتداداً بالنفس. فأجابه ابن شرف على الفور:

إنْ تَرمـِكَ الغربةُ في معشر

قد جُبلَ الطبعُ على بعضِهـمْ

*

فدارِهِمْ ما دمتَ في دارهمْ

وأرضِهِمْ ما دمتِ في أرضِهمْ

وهذا هو الزيف والتقية والمحاباة!

والتاريخ يعيد نفسه، كما يقال، بعد ألف عام ولكن بصورة ثانية. ذلك أنّ فضل الإنترنت على الفرد العربيّ في التواصل والمعرفة والثقافة كبير جدّاً، ولكنّه في الوقت ذاته ذو تأثير سيّء مضادّ على البعض. فالإنسان يرغب في الشهرة وحبّ الذات، وهي طبيعة بشريّة لا خلاص له منها، وإن كان الأفراد يتفاوتون في درجتها. والمواقع الثقافية لعبت دوراً كبيراً في التغيير، إذ أتاحت الفرص في إبداء الرأي بحريّة كاملة دون المرور برقيب أو محاسبة الذات، وإن كان بعضها رقيباً على ما يُكتب، فيمنع ما لا ينسجم مع خطّه الأساسي ويُطلق العنان لمن يسير في ركابه. وانقسم من يكتب إلى درجات ذاتِ تفاوت كبير جدّاً ، فهنا الذي يعرف ما يكتب لتمكّنه من المعرفة في ذلك الموضوع، وهناك الذي لا يعرف حتّى كتابة جملة واحدة صحيحة! ولكنّ بعض المواقع ينشر له.

ثمّ إنّ من العارفين في موضوع معيّن يتدخّل في موضوع لا يعرف ألفه من يائه فيمزج بينهما ليرِيَ القارئ المسكين إلمامَه بكلّ شيء كذلك (البروفيسور) الذي كتب عن مرض نفسيّ نفى أن يكون له جين وعلمي أنّه لا يعرف ما هو الجين وما هي الدي. أن. أي. ولا أيّ حرفٍ منها ، ولما كتبتُ مقالاً بيّنتُ فيه أنّ لهذا المرض جيناً اكتُشف سنة كذا واسمه كذا وتركيبه كذا، لم يعتذر أو يشكرني بل أغمض عينيه ومضى! وهذا لا يحدث في العالم الغربي الذي نمنّي أنفسنا أن نكون مثله بحسناته ولا شغل لنا بسيّئاته. ما يميّز الإنسان العربي المتعلّم (المثقّف!) وبخاصّة العراقيّ عن الإنسان الغربي هو التباهي والافتخار بنفسه أو بالآخرين وهو ليس بكفء. وهذا يذكّرني ببساطة العلماء الغربيّين كالبروفيسور هاوثورن مثلاً، نائب عميد كلية الطب ورئيس قسم الكيمياء الحيوية في جامعة نوتنغهام البريطانية في السبعينات من القرن العشرين، حيث نشر أكثر من 300 بحث في المجلات العلمية وهو يقول : إنّه لم يعمل شيئاً يُذكرْ! وكذا قال لي الدكتور جون ماير في القسم المذكور (الذي رُقّيَ بعد ذلك إلى بروفيسور وصار رئيس القسم) عند البدء في عملي على الدكتوراه (ولم يكنْ المشرفَ) إنّ الكيمياء الحيوية بحر عظيم ونحن نسبح في بقعة صغيرة منه بالرغم من نشره حينذاك عشرات الأبحاث والدراسات التي تتطلّب (تفكيراً) عميقاً وإنْ قال أحدهم له إنّه (مفكّر) فسيسخر منه! وكذا الحال أيضاً مع الشعراء الأوروبيين الذين لمْ يُنعَـتـوا بصفات العظمة والتبجيل والتفخيم وإضافة ألقابٍ غريبة عجيبة جنب أسمائهم ، مثل: الشاعر الشاعر ، النخلة السامقة أو الشجرة الباسقة ، أسطون الشعر، صنّاجة العرب والجبل الذي لا يصل إلى سفحه أحد والأيقونة التي لا مثيلَ لها ! وغير ذلك من أسماء مضحكة جوفاء! وأعجبها أنْ يُنعَت شخص بكلمة (مفكّر) أو (مؤرخ) وهو ليس سوى مقـتـطفٍ جملاً من كتب المؤلفين وآرائهم وتجميعها في مقال قد يسفّ فيه أحياناً. أذكر أنْ طبيباً ذا (تخصّص) كتب مقالاً عن مرض السكّر في أحد المواقع، وأكثر المواقع تنشر دون تمحيص أو تدقيق، وتبيّن أنّ المقال مسروق بأكمله من مركز أبحاث خليجي ومنشور في موقع ذلك المركز! وقد نبّهتُ صاحب الموقع إلى ذلك وأرسلت له نصَّ المقال المسروق!

فلماذا نُطلق على أنفسنا أو مَنْ نحبّ صفات العظمة!؟ أهو الفشل في الحياة! والتعويض عن هذا الفشل بصفات لنقنع أنفسنا بأننا جديرون بها فيحترمنا الآخرون! أم هي النرجسيّة البغيضة الناتجة عن (عجز) ذلك الفرد عن الوصول إلى هدفه الأصلي فيفتخر بما ليس فيه. والأعجب من هذا أنّ ذلك النرجسيّ يكره أيّ ناجح في الحياة ويحاول جاهداً أنّ يُلحِقَ به الأذى أو يُلغيه من الوجود إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهذا هو سرّ انحطاط هذه المجتمعات وتخلفها عن اللحاق بالمجتمعات الغربية التي لا تأبه لهذه الألقاب الزائفة بل غايتها النجاح في الحياة ونيل المراد وتشجّع الآخرين إنْ رأتْ فيهم مواهب خاصّة ولا تثبّط عزائمهم كما نفعل نحن غيرة وحسداً. ثمّ هل من حقّ أحدهم أن يُطلق هذه الصفات والألقاب على الآخرين، وما هي (كفاءته) الثقافية ليحقّ له إطلاق مثل هذه الصفات؟ هذه الألقاب أو الصّفات التي تتطلّب هيئة أو لجاناً متخصّصة لهذا الشأن لينال المعنيُّ بها شرف حصولها بحقّ وجدارة . أم أنّه النفاق والمحاباة طبقاً لجدّنا الشاعر ابن شرف القيرواني الذي قالها قبل ألف عام كما ذكرنا أنفاً:

فدارِهمْ ما دمتَ في دارهمْ

وأرضِهِمْ ما دمتَ في أرضِهِمْ

وبعد ذلك نقلب لهم ظهر المِجَنّ ونولغُ في ظهورهم المُدى إن تطلّب الأمر!

***

د. بهجت عباس

25 مايس 2017

في المثقف اليوم