قضايا

طه جزّاع: الصحافة والسلطة.. لعبة "الحَية والدَّرَج"

من طريف ما يُروى عن الرئيس اللبناني الأسبق شارل الحلو، أنه استقبل ذات يوم في قصر الرئاسة عدداً من الكُتاب والصحفيين اللبنانيين، ففاجئهم بالقول:» أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان»!. وكان رحمه الله يغمز من قناتهم بسبب ولاءاتهم لبلدان أخرى غير بلدهم، فيما يُفترض أن يكون الولاء الأول للكاتب والصحفي، بل للمواطن البسيط قبل كل شيء، هو وطنه ومصالح شعبه أولاً وأخيراً.

ويبدو أن هذه الغَمزة الشارلية، كانت وما زالت تشير إلى أحد الأمراض والهموم الكبرى التي تشكو منها الصحافة في العديد من البلدان العربية، بهذه النسبة أو تلك، بصورة ظاهرة مفضوحة، أو مستترة على شيء من الحياء، يرافقها ولاء آخر، هو الولاء للسلطة على حساب المواطن الذي يعول على الصحافة في إيصال صوته ومعاناته ومشكلاته إلى المسؤولين الحكوميين. وكثيراً ما تتخطى العلاقة بين الصحفي والحكومة صيغة العمل الصحفي، ليتحول الأخير إلى صوت للسلطة، وسوطاً على المواطن، وربما أداة لنقل الأخبار إلى السلطة، ومن ذلك ما جسده الكاتب والصحفي المصري موسى صبري في روايته « دموع صاحبة الجلالة « التي تحولت إلى فيلم سينمائي في العام 1992 أدى فيه الممثل سمير صبري دور الصحفي « محفوظ عجب «، الذي يتعرف في سهرة على راقصة مصر الرسمية سوسن رفقي «مثلتها دينا» ثم يزورها في بيتها حين كان بريئاً يطلب شرب الشاي لا الويسكي، فتستقبله بملابس فاضحة ويجلسان متقابلين ويدور بينهما الحوار الآتي :

- سعيد اني قاعد مع راقصة مصر الرسمية. فتخبره أن هذا اللقب سيفيده كثيراً .

- أنا رغم أنني محرر سياسي، وما اكتبش إلا في السياسة، إنما حغير القاعدة عشان خاطر عيونك انت وبس، أنا عايز أأرخ لتاريخ حياتك الفني.

- عندك فكرة اني الراقصة الخصوصية بتاع السرايا؟. أنا أقدر أجيبلك أخبار مهمة وخطيرة.

ويمضي الحوار الساخن مع طول الجلسة ومع تحول محفوظ عجب من الشاي إلى الكحول والتدخين، وتمضي العلاقة بين الصحفي والراقصة في العمق، لتصف أحوال الصحافة في حقبة الاربعينيات وبداية الخمسينيات قبل ثورة يوليو 1952، وكيف يمكن للصحفي أن يحصل على معلومات مهمة من راقصة السراي الحكومي، لكن من طرائف الأمور أيضاً، أن أحد المواقع المصرية الإلكترونية طرح سؤالاً قبل سنوات: من هو «محفوظ عجب» هذا الزمان في رواية موسى صبري « دموع صاحبة الجلالة»؟، فأجاب أحدهم: « شوف مين اللي بيدخن سيجار وصعد، وكان على علاقة مباشرة وشخصية بالسلطة على مر العصور»، فيما أشار آخرون صراحة إلى اسماء صحفيين كبار في مصر.

ولو درسنا بعمق تاريخ الصحافة العربية، ومنها الصحافة العراقية التي تحتفل هذه الأيام بعيدها الرابع والخمسين بعد المائة، لوجدناها لا تخلو في كل حقبها من علاقة ما، إيجابية أو سلبية مع السلطة تشبه لعبة « الحَية والدَّرَج « إلى حد كبير، تكون أحياناً في خدمة الصحفيين، لكنها تنقلب في أحيان أخرى ضد أهم ما يمكنهم الحصول عليه، وهو الحرية، ففي ذلك التاريخ الطويل تجد أن السمة الغالبة على معظم حقبه تتمثل في غياب الحرية، إلا في بعض السنين المعدودة، وفي بعض البلدان لا كلها، فالحريات الصحفية، وحريات الرأي والتعبير، مدونة كنصوص قانونية في عموم دساتير الدول العربية، لكنها في الغالب أيضاً، مجرد مواد دستورية، مُعطّلة أو مُهمَلة أو منقوصة أو غائبة عن أرض الواقع. وإذا ما تحدثنا عن واقع الحريات الصحفية العربية، فإن إشكالية الانفصال بين النص الدستوري وواقع الحال تبدو ظاهرة إلى الحد الذي تسجل فيه دولاً عربية تراجعاً سنوياً ملحوظاً في المؤشر العالمي لحرية الصحافة الذي تصدره منظمة «مراسلون بلا حدود»، ومما يؤسف له أن الكثير من هذه الدول جاءت في ذيل آخر تصنيف للمنظمة للعام 2023. لكن لهذه الإشكالية جوانب متعددة ومتداخلة، ولا يمكن الاكتفاء بمؤشر عالمي يقيس الحريات الصحفية في هذا البلد أو ذاك، اعتماداً على ممارسات وحوادث مرصودة، لكي نصدر حكماً على مستوى الحريات الصحفية فيها، فحوادث مثل الاحتجاز، أو الاعتقال والتغييب، أو الاغتيال، أو التهديد بملاحقات أمنية أو قضائية، تمثل بكل تأكيد خرقاً فاضحاً لحقوق الانسان برمتها ولا تقتصر على الحريات الصحفية، وهي ممارسات تحدث في أكثر من دولة تحمل راية الديمقراطية وتتشدق بالدستور الذي يحمي الحريات على الورق فقط، لكن الأمر الأهم من ذلك هو الحماية المجتمعية، لاسيما في الدول التي تضعف فيها سلطة القانون وتكثر فيها الخروقات القانونية والأمنية من دون أن تتمكن السلطات الحكومية من ملاحقتها واتخاذ اجراءات رادعة تحد منها، وهنا يحضر دور المجتمع الذي يوفر بيئة آمنة للصحفي وهو يؤدي دوره ويمارس حريته المسؤولة بلا خوف ولا مجاملة ولا تهاون.

ما بين غمزة الرئيس اللبناني الراحل شارل الحلو، وشخصية الصحفي «محفوظ عجب»، والراقصة الخصوصية بتاع السرايا  «سوسن رفقي «، تجد في عالم الصحافة والسلطة أشياء وأشياء من الأسرار والحكايات والخفايا والغرائب والابتزاز وتبادل المصالح .. والكثير من العجب!.

يوم مبارك للصحافة العراقية، وللصحفيين العراقيين النجباء الذين يحملون وطنهم في قلوبهم وضمائرهم وحدقات عيونهم، ويذودون عنه بمداد أقلامهم.

***

د. طه جزّاع

في المثقف اليوم