قضايا

متى يصير التّنوير العربيّ ممكنا؟

نبيل دبابشما يميّز المجتمعات الإسلاميّة عموما والعربيّة بالخصوص، هو تفشّي الرّؤية الشّمولية والدّفاع، بشراسة، عن التصوّرات الأحاديّة، وهو ما جعلها عاجزة على التّموقع في محيط عالمي يعتمد قيم الاختلاف والتعدّد والنّقد والتجربة، في صنع المعرفة. إنّ اكبر تحدّ أمام مشروع الأنوار العربي هو في التّباعد القائم بين عقلين: عقل أوروبّي يؤمن بالعلم والتّغيّر والإنسان وقداسة الحياة Logos، والذي عجزت منطقتنا العربيّة على تمثّله والانتماء إليه، وعقل مشرقيّ، يعتمد الأسطورة والمتخيّل الجمعي،Muthos  لا يقبل بغير التّقليد ومنطق الإفلات من المواجهة، وغالبا ما يستند إلى مرجعيّة تاريخيّة تُقرأ مُفرغة من المعقوليّة وتضفي القداسة على الفعل البشري.

الأنوار ليست مشروعا أنتجته الإنسانيّة في أوروبّا مع حلول القرن الثّـامن عشر للميلاد، بل هي رؤية قديمة جدّا نجدها في كلّ الحضارات الكبرى التي عرفتها البشريّة، نجدها متمثّلة في لحظات متفرّقة كلّما كان العنوان هو تغليب العقل، والموضوع هو احترام الاختلاف والتعدّد وتبنّي لغة الحوار. لقد وجدت في قرطبة /الأندلس زمن ملوك الطّوائف، وفي نوادي الفكر لدى المأمون والرّشيد، كما وجدت عند الصّينيّين على يد كونفوشيوس وفي المنتج الفكري للفرس والإغريق... فعلا، نجح الأوروبّي في جعلها مشروعا لمجتمع ول مصير اشترك في صنعه، تدريجيّا، السّياسيُّ والباحثُ والفنانُ، ولكنّه كان دائما سؤال الإنسان عبر التّاريخ.

روح كلّ مشروع تنويري هي الإيمان بالإنسانيّة قبل الطّائفة والعشيرة والإقليم، والانفتاح على العالم وتقبّله كوسط تشترك فيه أجناس وثقافات، تجارب وعقائد متسامحة وليس قوى متخاصمة أو متنافرة أو متحاربة بسبب اختلاف الرّؤى.

كان سؤالنا في مقال سابق: ''متى تبدأ الأنوار؟'' يتمحور حول شرعيّة السّؤال والإيمان بالإنسان والاختلاف وتكريس الفرديّة. لكنّنا في هذا المقال سنحاول طرح السّؤال بشكل مختلف وتوسيع معالجة الموضوع، إذ ما يهمّنا هو التّفكير في إمكانية تحقّق الأنوار وما يجعلها واقعا بالفعل.

قبل أن نطالب بالحديث عن الضّمانات التّشريعيّة للتعدّديّة الفكريّة والسّياسية والدينية في منطقتنا العربيّة، علينا أن نعيشها كسلوك يوميّ، بالتخلّص من الرّؤى الشّموليّة والأحكام الجاهزة تجاه الآخر، واعتباره عدوّا لنا ولقيمنا وموروثنا. إذا كانت العصور الوسطى قد أنتجت انساقا فكريّة مغلقة لا تقبل الاختراق وموصوفة بالعصمة، فإنّنا مطالبون اليوم بالانتساب إلى العقل البشريّ والمعرفة التي أنتجها عصرنا.

و للمشاركة في إنتاج المعنى وتسجيل حضورنا، فانّ عصرنا يطالبنا بحلحلة الكثير من الأوهام والتخلّص من العديد من التّماثيل التي لا نزال نرى فيها نماذج لا تفنى...عصرنا أسّس للتّجربة والنّقد وفنّد كلّ أطروحات الثّبات واليقين المسبق وسيطرة الرّوحي على الدّنيوي.

إذا كانت العصور الوسطى، قد تبنّت الكثير من قيم العشيرة في مجال السّياسة والاجتماع وعملت على تقديس مفهوم الجماعة في التّشريع والمعرفة، فإنّ أهمّ ما يميّز عصرنا هو ميلاد مفهوم الفردانيّة le soi، إذ لم يعد من العدل طمس صوت الأفراد والأقلّيات باسم الإرادة الجماعيّة، بل من حقّ الفرد التمتّع بكلّ حقوقه في ظلّ قوانين يتمّ سنّها وفق أهداف تخدم الصّالح العامّ، وأن يجد في محيطه ما يسمح له بالتميّز. فإذا كانت الثّقافة التّقليديّة تلغي كلّ اعتراف بوجود أفراد خارج المجموعة التي يحملون اسمها، فإنّ جوهر الثّقافة اليوم هو فسح المجال واسعا أمام الإرادة الفرديّة. شخصيّات عديدة صنعت الحدث في عصرنا، عندما صمت الجمهور.

إنّ أهمّ ما يميّز مجتمعاتنا العربيّة هو تغليب التّفسير الدّيني، واعتباره المفتاح الوحيد لكلّ الأبواب وممارسة التّخويف من البحوث العلميّة التي تدغدغ اليقيني عندنا. من غير الممكن أن يكون الدّين وسيلتنا لفهم العالم والمحيط، فهي ليست مهمّته الأصليّة. المعرفة صناعة بشريّة مستمرّة متغيّرة وثورة في العقل وليست حقائق ثابتة منزّلة من السّماء تأتي دفعة واحدة. أساس المعرفة اليوم هو الاختلاف والنّقد وليس الإجماع والإسناد.

إذا كانت الشّعوب، في الماضي، تعتمد منهج الإيمان والذّاكرة في بناء المعارف وتداولها، فإنّ العصر الذي ننتمي إليه يقوم على النّقد والسّؤال والبرهان.

قد يعتقد كثير من الباحثين أنّ الدّولة الوطنيّة، وليدة مرحلة ما بعد الاستقلال، كيانات جديدة قائمة على وجود مؤسّسات وهياكل اجتماعيّة مدنيّة / عسكريّة، لا يهمّ إن كان ظهورها قد حدث بفعل مسار ديمقراطي أو غير ديمقراطي...لكنّنا نرى أنّ المتحّكم الفعليّ في كلّ دواليب الدّولة في المجتمعات العربيّة، على الخصوص، هو الفكر الدّيني التّقليدي وكذلك الرّؤى الميثية Mythiques الجاثمة في صميم العقول، والمتجسّدة في التّشريعات والقرارات والمراسيم باسم التّشريع المدني. وراء كلّ إرادة سياسيّة وكلّ مشروع تنموي، تقبع قناعة دينيّة تقليديّة راسخة، عجز أصحابها على رؤيتها ومساءلتها. كلّ المؤسّسات الوطنيّة ليست سوى ديكور لعقل تقليدي، آن الوقت لرؤيته بوضوح كفاعل وكمؤثر في سلوك الجميع، دون استثناء.

بالإضافة إلى سيطرة المقدّس على القناعات والرّؤى والاختيارات، يوجد العقل القبلي والطّائفي والجهوي الذي يختزل العالم في محيطه الصّغير ويأبى الاعتراف بالآخر شريكا له ومساويا له في الحقوق والواجبات. الأنوار هي في الانتساب إلى العقل الكوني والمجتمع البشري وتجسيد قيم الفردانيّة في مقابل ثقافة الطائفة والعشيرة. علينا أن نتعلّـم تقبّل الآخر ومحاورته، في مقابل ثنائيّة دار الكفر ودار الإيمان التي لا يزال البعض يؤمن بتحيينها. أساس الأنوار هو في تقارب الشّعوب وعولمة القيم، وفي إحلال ميثاق حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانيّة محلّ الفقه.

رفاهيّة المواطن وحماية حقوقه  هي من مهامّ الدّولة ومن واجباتها الأولى، وليست المؤسّسة الدّينية، ممثلة بسلطة الفقيه، هي من يقرّر ما ينبغي أن تكون عليه الحياة والسّلوك في الفضاء العامّ، لكنّ هذا لا يعني سيطرة الدّولة على الحريّات الفرديّة وتوجيه القناعات نحو ما يخدم بعض الاختيارات الظّرفيّة، من خلال ما تقدّمه عبر وسائل الإعلام أو المؤسّسات التّربويّة. فالأنوار لا تعني التملّص من سلطة الدّيني وتحرير العقل فقط، بل تعني كذلك تقويض واستبعاد كلّ محاولة تقوم بها السّلطة السّياسيّة لتوجيه الرّأي العامّ. إنّ أوّل أعداء الانفتاح والتحرّر هو العقل الشّمولي الذي قد تمارسه السّلطة الدّينيّة أو السّلطة السّياسيّة على حدّ سواء.

علينا التّمييز بين منطق الفقه الذي ينتمي إلى محيط اجتماعي وسياسي، انتهى مفعوله وبين منطق القانون المدنيّ المنبثق من روح الأنوار الذي هو أداة أنتجها عصرنا في مواجهة كافّة الإشكالات على الصّعيد الاجتماعي والسّياسي والنّفسي... وحقّق العديد من النّجاحات متخطّيا الحدود الجغرافيّة.

الحقيقة ليست ملكا للمؤسّسة الدّينيّة بل هي تصحيح لأخطاء وإنتاج مستمرّ، وليست هي الإيمان والاستسلام للحلول الجاهزة. الحقيقة لا تقرّرها التّشريعات ولا المؤسّسات الحكوميّة ولا رجال السّياسة، إنّها تعلو كلّ السّلطات، بل هي موقف وبحث وليست برنامجا مسبقا.

نحن لا نطالب باستنساخ تجارب غيرنا، بل على العكس، نؤمن بالخصوصيّات التي لدينا والتي تؤهّلنا لإنتاج واقع جديد ومختلف...فرغم  كلّ المساعي السّياسية التي حاول أصحابها خلال العشريّات الماضية، إخراج المنطقة العربيّة من نفق التخلّف والجمود، ظلّ مشروع تحديث البنية الفكريّة والاجتماعيّة، ناقلا أو مقلّدا ناكصا أو متهرّبا إلى الخلف...نمسح من على الجرح ولكن لا نداويه... نسأل ولكنّنا نخشى الإجابة التي تفيق من الغفلة... نتسرّع في تبنّي أسلوب الإقصاء أو الوصاية ونغفل الأصوات التي تنير لنا الطّريق.

نعاني في منطقتنا العربيّة تعصّبا مضاعفا. تعصّب دينيّ مذهبي/ طائفي، تعصّب لغوي لساني، تعصّب اثني/ جهوي... صمت المؤسّسات الرّسميّة حيال هذا الواقع دليل فشل في مواجهته أو بسبب تعاطف بعض القائمين على تسيير القطاعات الحسّاسة والتي من شأنها المساهمة في إيجاد حلول فعلية لهاته العقد المترسّبة.

الكثير من القوى الرّجعيّة لا تستطيع التّفريخ إلا في هذا المناخ الملوّث، وليس في نيّتها تغيير تصوّراتها أو مراجعتها. بل عكس ذلك هو ما نخشاه، على المدى البعيد. بحيث لو استمرّ وضعنا العربي على هاته الحال، وهو ما لا نتمنّاه، قد نعرف مرحلة أكثر صعوبة ولن يكون فيها أيّ مستفيد. إنّه في نيّة الكثير من حركات الإسلام السّياسي وبعض المؤسّسات الدّينية الرّسمية - التي فيها بعض المتعاطفين مع الخطاب السّياسي الرّسمي- مثل مؤسّسة الأزهر والمجلس الشّيعي الأعلى، إعادة صنع الظروف ذاتها التي عرفتها أوروبّا في القرن الرّابع عشر للميلاد - مستغلّين ضعف مؤسّسات الدّولة الوطنيّة - والمتمثلة في عقيدة البابا بونيفاس الثامن BonifaceVIII التي تنصّ على سيطرة الرّوحي على الدّنيوي وإمساك السّلطة الدّينية بكلّ القرارات La doctrine des deux glaives. كان البابا - وفق هاته العقيدة -  يعلو كلّ السّلطات ويقرّر في المسائل المصيريّة للبلدان.

قد يصبح الفقيه ورجل الدّين هو الممسك بسيفين، سيف الدّين وسيف الدّولة، يقرّر ما يشاء باسم الإله ويضفي على أحكامه كلّ القداسة التي تجعل من أيّة محاولة لنقده كفرا وهرطقة. لن يصبح في مقدور رجال الدّولة بعد ذلك، إلّا الطّاعة لأنّ الجماهير تمّ تخديرها منذ عشرات السّنين وتطويعها لتقبل خطاب الفقيه بكلّ سهولة ودون نقد، عندما استقالت السّلطات المدنيّة عن مهامها الأساسيّة. التأسيس للأنوار هو في تقويض سيطرة الرّوحي على المدني وتجديد التّشريع بما يسمح بتحرير الفضاء العامّ. ليس دائما، رجال الدّين هم من يختار التدخّل في القضايا ذات الشّأن المدني، بل غالبا ما يتمّ توظيفهم لأجل أجندات لا يعرفون تفاصيلها وهو ما يجعلنا نرى في سلوك بعض السّياسيّين رجعيّة وتهرّبا من المسؤوليّة.

الأنوار مشروع لإنسان مختلف، متعال على النّموذج الحالي، قويّ بتصوّراته الثّوريّة وبروحه الخلّاقة، وبحسّه المرهف للجمال، وبحبّه الفياض للإنسانيّة. الأنوار مشروع لمجتمع كلّه حياة، متجدّد باستمرار، وليس لركام من مومياء تطالب بالخلود...

 

نبيـــل دبابــــش

كاتب من الجزائر

 

في المثقف اليوم