قضايا

المنطق واللغة عند اليونان (1)

محمود محمد عليتعد قضية العلاقة بين المنطق واللغة من أدق موضوعات فلسفة اللغة وأصعبها تناولا، ويهتم بها المناطقة، والفلاسفة، والنحاة منذ أقدم العصور، بل من قبل أن يصيغ أرسطو المنطق، ويضع قواعده، فلقد نشأ المنطق مرتبطا بالجدل، الفكري والنحوي الذي ساد القرن الخامس وشطرًا من القرن الرابع قبل الميلاد عند كل من المدرسة الأيلية وجماعة السوفسطائيين، إذ اهتموا بالجدل، وبقوة الكلمة، عن قوة الفكر، وبفن الإقناع الذي هو بعينه فن التفكير، وكان بحثهم في اللغة بحثا منطقيا .

والعلاقة بين المنطق واللغة علاقة قديمة وحميمة، إذ يلتقيان في مصطلحيهما، وفي غايتهما. فالنحو آلة يعرف بها صواب تراكيب ألفاظ اللغة ومعانيها من خطئها، والمنطق آلة يعرف به صحة المعني وتصديقه من خطئه . وكل منهما يعتمد طرق الاستقراء والاستنباط . غير أنهما  لا يتطابقان تماما، فالمنطق يستند إلى الأدلة العقلية، مفترضا وحدتها وشمولها، والنحو يستند إلي معطيات اللغة الوصفية معترفا بأن قواعدها قابلة للاستثناء والتخصيص .

ومن جهة أخرى فإن العلاقة بين المنطق واللغة تعد من الموضوعات العريقة التي تناولها العلماءُ منذ زمن بعيد، إذ لا نجد من العلماءِ القدامى أحدًا ضرب سَهمًا في مجال اللغة، أو البلاغة، أو النقد، إلا والعلاقة بين المنطق واللغة، كانت إحدى أغراضه ومراميه. ولذلك فإنه إذا ما درسنا هذه العلاقة من منظار تاريخي نصل إلي أن لفلاسفة اليونان نظراتٍ تتعلق بهذه العلاقة .

ومن يتتبع تاريخ الدراسات اللغوية في الفكر اليوناني سيدرك أن هذا الفكر قد افترض اللغة اليونانية مقياساً للغات العالم، وبنى علي ذلك اعتقادا تُخطئه الدراسات اللغوية الحديثة، وهو أن دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها وطرقها صادقة علي كل لغات العالم، إذ أن هذه اللغات تجري علي مقياس اليونانية. وهذه الدراسات اللغوية القديمة تختلط إلى حد كبير جدًا بالنظريات المنطقية والميتافيزيقية، ولقد وصف كُتاب اللغة من الإغريق الجملة حكما منطقيا، وعدوا بها طرق الإسناد النحوي بالطريقة نفسها،ولقد عدوا الموضوع والمحمول في المنطق.

ويصادفنا في مجال التفكير اللغوي- المنطقي أعمال السوفسطائيين الخاصة بالنحو والتي حملت في ثناياها بذورا منطقية أكيدة، فقد أرجعوا التصور (المعني) إلى اللفظ مما يسر لهم أن يجعلوا من الجدل وسيلة للانتصار على الخصم؛ ومعنى هذا أن السوفسطائيين قد بحثوا في النحو فأدى بهم إلي المنطق؛ و" لقد قام بروتاجوراس Protagora ببعض الدراسات الأولية في النحو كأساس للمنطق"؛ حيث يعد أول من تحدث عن أجناس الأسماء gene onomaton؛ أي المذكرة arena والمونثة thelea وما نسميها المحايدة وسماها هو skeue (الأشياء غير الحية). واستخدم أرسطو نفس هذه المصطلحات، وإن كان يستخدم أحيانا metaxy (ما بين) بدلًا من skeu ".

وإذا انتقلنا إلي العلاقة بين المنطق واللغة عند أفلاطون (429 – 347 ق . م) ، نجد أنه علي الرغم من أنه لم يسق آراءه اللغوية بشكل مترابط، ولم يجمعها في مكان واحد، فقد عده الباحثون " رائد الدراسات النحوية وأول فاحص للمشكلات النحوية "؛ فهو يُعد واحدا من أهم وأشهر فلاسفة اليونان الذين جاءوا بعد السوفسطائيين والذين شغلوا أنفسهم بالبحث في أقسام الكلام .

أما رأيه في أقسام الكلام، فنجده أنه كان أول من صاغ لنا تعريفًا للجملة، إذ يقول: "إن الجملة هي تعبير عن أفكارنا عن طريق أسماء Onomata، وأفعال Rhemata، وهذه الأسماء والأفعال تحكي أو تعكس أفكارنا في مجرى النفس الذي يخرج من الفم عند الكلام، ثم يعرف الاسم علي أنه اسم لفاعل الفعل، أما الفعل فاسم " للفعل نفسه". ومن الاسم والفعل تتكون الجملة . وواضح من هذا أن أقسام الكلام عند أفلاطون اثنان هما الاسم والفعل، وهما قسما الكلام في الجملة الخبرية، ولم يكن لأفلاطون وأرسطو من بعده اهتمام بغير هذا النوع من الجمل، لأن هذا النوع من الجمل، هو الذي يستحوذ اهتمام الحكماء والمناطقة دون غيره من جمل الدعاء والسؤال والأمر.

وهنا يرى بعض الباحثين أن أفلاطون يعد بذلك أول من فرق بين الاسم والفعل، كما أنه أعطانا تقسيمًا ثلاثيا للأصوات يمكن أن يكون: أصوات العلة – الأصوات الساكنة المهجورة – الأصوات الساكنة المهموسة . وأقر أرسطو تقسيم أفلاطون للكلمة، إلي اسم، وفعل، وزاد عليها قسما ثالثًا سماه رابطة، وذلك أنه شعر أن الأفعال والأسماء تؤدي معاني مستقلة، في حين أن سائر الكلمات ليس لها إلا الوظيفة النحوية فقط .

وبصفة عامة كان منطلق أفلاطون الاقتناع بأن الكلمة هي الشكل المادي للفكرة، وأنها تمكن بدايات معرفتنا عن العالم . وقد تولدت المحاولات الأولى لتعريف المحاولات النحوية الأساسية من هذا الموقف الفلسفي وتطبيقا للمعايير المتصلة بعمليات المنطق عرف أفلاطون "الاسم بأنه شيء يخبر عنه، وعرف الفعل بأنه ما يخبر به عن الاسم ".

وقد كان أرسطو هو الذي دخل تاريخ الدراسات اللسانية علي أنه المؤسس الحق للنحو الأوروبي التقليدي، وخلال القرون التالية لم يتغير فكره حول أقسام الكلم إلا في تفاصيل لم تمس جوهره الأصيل . وللمقاربة التقليدية للنحو جذورها الضاربة في الطرق التي اعتمدها ارسطو لرصد ظاهرة اللغة، ولا سيما في مجال بنية الجملة . وقدم أرسطو – في الحقيقة – ضمن تأملاته عن اللغة معايير خاصة يلبي البحوث الفلسفية حين صنف الأشكال النحوية وفقاً لما تشير إليه من مادة، وكيف، وكم وعلاقة، ووجود، وتغير .. الخ . وقد أثبت هذا الميراث الفكري الفلسفي أنه ميراث بلغ الغاية من بعد النظر والثبات علي الزمن فيما تلا ذلك من تطور في مجال اللسانيات .

ويقال إن " أرسطو"(384 -322ق.م) قد توصل إلي كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبر بدقة عن أحوال الفكر، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر، فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة، فيقسمها إلي أسماء، وأفعال وحروف، ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة . ونفس الشئ يقال عن الفكر الذي ينقسم إلي الأفكار المفردة وهي تصورات، والأفكار المرتبطة وهي القضايا أو التصديقات، وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلي تصورات وتصديقات،هو تقسيم مأخوذ أصلا من النحو

كما كان أرسطو هو أول من حاول تصنيف أقسام الكلم، فجمع كلًا من الأسماء Onoma والأفعال Rhema معا؛ حيث رأى إن هذه الكلمات هي وحدها التي تحمل معاني مستمرة في ذاتها، في مقابل كل الكلمات الأخرى التي لا تفيد إلا في ربط العمليات المنطقية الأخري للتفكير Syndesmoi،وقد اتضح فيما بعد ثبات الأساس الخاص بتقسيمه، على الرغم من أن الترتيب الفعلي لأقسام الكلم المتعينة داخل هاتين المجموعتين قد تغير إلى حد ما .

وتختلف الأفعال – تبعا لطريقة أرسطو في التفكير – عن غيرها من أنواع الكلم بسبب خصائصها المتعلقة بتشكيل الزمن . ومن هنا كان الإسناد هو الوظيفة الأساسية للفعل . وعلي الرغم من ذلك عـدَ أرسطو المسند ذا وظيفة أكثر اتساعا من الفعل: فالمسند يتضمن كل ما يعطي معلومة عن المسند إليه . وبالنظر إلي أن البشر يمكن تعيينهم تبعًا لما يطلق عليهم من نعوت، لذا فإن هذه النعوت – التي يعبر عنها نحويًا بالصفات – هي ليست أفعالا علي الحقيقة، ولكنها من قبيل المسند . وهذا يعني شيئين: أحدهما- أن هناك جملا بلا أفعال، والثاني- أن المسند لا يلزم أن يكون فعلا علي الحقيقة .

وقد عرف أرسطو الجملة بأنها تركيب مؤلف من عناصر صوتية تحمل معني محددا قائما بذاته، ولكن كلا من مكوناته يحمل – في الوقت نفسه – معني خاصا به أيضا . غير أن نظرية أرسطو في الجملة كانت مرتبطة في عمومها بنظريته في الحكم المنطقي، التي أدت به إلى أن يضفي علي قضية الإسناد أهمية خاصة .

ومن جهة أخرى يقال إن أرسطو قد توصل إلى كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبر بدقة عن أحوال الفكر، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر، فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة؛ فيقسمها إلى أسماء، وأفعال، وحروف، ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة . ونفس الشئ يقال عن الفكر الذي ينقسم إلى الأفكار المفردة وهي تصورات، والأفكار المرتبطة وهي القضايا أو التصديقات، وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلى تصورات وتصديقات هو تقسيم مأخوذ أصلا من النحو .... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

 

في المثقف اليوم