قضايا

الأبعاد العلمية والثقافية والسياسية للاصطلاحات والمفاهيم

ميثم الجنابيإن الاصطلاح ما جرى الاتفاق عليه. وفكرة الاصطلاح في العربية تتضمن معنى الاجماع بشكل عام والاجماع على المعنى بشكل خاص. ذلك يعني انه يتضمن بصورة منفية تجربة التأمل العقلي والنظري والتحقيق النظري والعملي والنحت اللغوي. أي ان المصطلح من الناحية الشكلية هو نتاج ابداع العقل النظري والعملي والحدس الثقافي. واللغة تجمع في نحتها للمصطلح كل هذا التداخل المعقد. ومن ثم تجعل من المصطلح تعبيرا عن تجاربها العقلية والوجدانية.

كل ذلك يجعل من الاصطلاح الصيغة المكثفة للمفهوم. بمعنى اختزاله التجربة الذهنية والعقلية والعملية في كلمة تحتوي بذاتها على المنطق والتجريد. فالمفاهيم من حيث جذرها اللغوي هي نتاج الفهم. من هنا تباين واختلاف بل تناقض المفاهيم حول ظاهرة معينة. وهي ظاهرة لها مقدماتها وأسبابها التاريخية والمعرفية والثقافية والمنهجية. بحيث يمكننا الحديث عن ثقافة المصطلح. ومن ثم ارتباطه بالبحث عن الحقيقة وتحقيقها النظري أو العملي أو كليهما. فالحقيقة هي الوجه الآخر والتعبير الدقيق والمناسب عن المصطلح الثقافي. تماما كما ان المصطلح هو التعبير المكثف والمدقق والمحقق للحقيقة التاريخية الثقافية.

إن الجهل بهذه العلاقة هو الذي انتج الفجوة بين التاريخ والوعي بشكل عام، وبينه وبين الوعي الذاتي الثقافي بشكل خاص. وذلك لأن المصطلحات بحد ذاتها هي نتاج حالة تاريخية خاصة، اما سياسية او فكرية او علمية. لكنها جميعًا محكومة بالحالة التاريخية الثقافية. فمصطلح المعتزلة، على سبيل المثال، كان نتاجا لحركة صغيرة صنعت مصطلحًا كبيرًا عندما ابتعد بعض اتباع الحسن البصري عنه. حينها قالوا لقد اعتزلوا الحسن فهم معتزلة. غير ان الناس تقوم بملايين الحركات الجسدية لكنها لا تصنع مصطلحًا. بينما كان وراء اعتزال الحسن وظهور مصطلح المعتزلة محرك أعمق ألا وهو الاختلاف النوعي الجديد في الرؤية الذي صنع تيارا فكريًا. وهذا بدوره نتاج تراكم كبير في الخلاف الفكري والعقائدي بين الخوارج والمرجئة، وبين القدرية والجبرية. ومن ثم كان يكمن وراءه توتر عنيف للذهنية النقدية التي كان بإمكانها اجتراح كل ما يقف وراء الإيماءة والتصريح والعقل والفعل. والشيء نفسه يمكن قوله عن مصطلح الخوارج وجميع الحركات والفرق الاسلامية الاخرى. ذلك يعني ان وراء هذه المصطلحات تاريخ ثقافي خاص. من هنا قبوله واندماجه وفهمه على مستوى الادراك المباشر. وعلى خف ذلك يمكننا رؤية الخلل والسذاجة وسوء الفهم لعشرات بل مئات المصطلحات الأوربية التي يجري تداولها من دون فهم حقيقتها. والقضية هنا ليست فقط نتاجا لنوعية التأهيل العلمي والمعرفي، بل وبأثر الحالة الثقافية. فالمصطلحات الأوربية هي نتاج تاريخها الثقافي الخاص. ومن ثم هي جزء من كلمة العقل الروح التاريخي والثقافي الأوربي. ولهذا نجد الفكر الأوربي العلمي (الاكاديمي) عادة ما يبقى على المصطلحات العربية والهندية والصينية كما هي عندما لا يستطيع ايجاد رديفا لها دقيق في اللغات الأوربية. ولهذه القضية جوانب عديدة لا اجد ضرورة بالاستفاضة بها الآن.

فالثقافة الأصيلة تنتج اصطلاحاتها بما يتوافق مع مفاهيمها. حينذاك فقط يمكن للمفاهيم والاصطلاحات ان تكون قوة بنّاءة للوعي النظري والعملي. ومن ثم تصبح المفاهيم والاصطلاحات قوة حية ومنشطة كالدماء للأجساد والحياة، والحبر للورقة والكتابة، او الرقم الالكتروني في لوحة الحاسوب والكتابة.

وقد أبدعت الثقافة العربية الإسلامية تقاليدها العميقة والواسعة بهذا الصدد. بل أنها الأولى في التاريخ العالمي من اعار لهذه القضية فائق الاهتمام. ومن الممكن الرجوع إلى تقاليد ما يسمى بفقه اللغة وفلسفتها. بحيث نرى ذلك ينبع من مناهج فرقها الكلامية والفلسفية والأدبية واللغوية. لهذا نرى تقاليد فقه اللغة في مجال الكلمة والعبارة والمصطلح. وتوسع فيها اللغويون والأدباء والمتصوفة. وصنفوا فيها الكتب العلمية الكبيرة والجميلة. كما نراه على سبيل المثال في (فقه اللغة) للثعالبي وشرح اصطلاحات الصوفية عند الطوسي والكلابادي والقشيري والكاشاني وكثير غيرهم. وفيما لو تثقف الأدباء والشعراء العرب المعاصرين على كتاب واحد مثل فقه اللغة للثعالبي لكان بإمكانهم التفرق الدقيق في الكلمة وصياغة العبارة بالشكل الذي يمكن التعبير فيها عن أدق خلجات الروح. ومن ثم توسيع وتدقيق الكلمة والعبارة لكي لا يكون المرء عاجزا عن التفريق بين معنى القاموس والجاموس أو استبدال كلمة الاسترخاء بالاستخراء كما فعل "الملك سلمان بن عبد العزيز" و"بلاغة البلادة" عند "الرئيس الشرعي" لليمن هادي عبد ربه، الذي لا يعرف حتى نطق الحروف! أو "لغة" الجعفري "رئيس الوزراء" و"وزير الخارجية" العراقي، التي لا تشبه في شيئ لغة العرب أو الهنود. بل لا تليق حتى بالحوذية والحمالين!  وهو أمر يشير إلى أن جدب اللغة وجفافها هو تعبير عن يبوس العقل والذاكرة والمعرفة.

فتنوع الكلمات والاصطلاحات هو دليل على تدقيق اللغة لتجاربها الذاتية. ومن ثم هي نتاج تلقائية تطورها الثقافي الخاص. ففي العربية، على سبيل المثال، هناك ست عشرة كلمة عن الحب وهي الهوى والنجوى والجوى والصفوة والصبابة والشغف والكلف والود والوجد والحب والمحبة والشجن والغرام والهيام والعشق والجنون. كما أن لكل منها معناها ودرجاتها الخاصة حسب العلوم والفنون والمواقف، وبالأخص عند المتصوفة. بل نرى العربية تبدع في كلماتها رؤيتها ومذاقها الخاص لتجاربها الذاتية تجاه كل شيئ على الاطلاق، من حيوانات ونبات وجماد وطبيعة ووجود وخلجات الضمير والوجدان وتجارب العقل والحدس وكثير غيرها. وقد كان ذلك تعبيرا عن عمق وتوسع معالم الروح الباطن والظاهر للتفكر والفهم والإدراك ومن ثم التعبير عنها بما يناسبها من تجارب. لهذا لم تترك الثقافة العربية الإسلامية في مسارها التاريخي وتطورها جانبا إلا وحددت شكله ومحتواه وقيمته وأثره بالنسبة للروح والجسد. بحيث نراها تصّنف قٌبَل المرأة (كسها) وأيور الرجال إلى ما يقارب العشرين عند المرأة وستة عشر عند الرجال. وهذا ليس لغوا، بل تدقيقا وتحقيقا للتجارب الاجتماعية التاريخية والثقافية. دعك عن مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والطبيعية. فالمصطلح الدقيق هو تدقيق للتجارب وتحقيقا لها في الكلمة والعبارة. فالكلمة أساس العبارة ومن ثم المنطق والمعنى والأصالة. والأصالة ليس هوية مغلقة، بل هي بلاغة الروح المبدع.

ووضعت الثقافة العربية واستخلصت في مجرى تجاربها اصطلاحاتها الدقيقة. ففي الموقف من "النكاح والنطاح"، او ما يطلق عليه خطأ في العربية المعاصرة كلمة الجنس والجنسانية والجنسوية وامثالها من "النحت" السخيف. فهي كلمة جوفاء بمعناها العربي المعاصر وترجمة تفتقر إلى دراية بالعربية في هذا المجال. فالجنس في العربية لا علاقة له "بالجنس" بالمعنى الأوربي. فاللغات الأوربية لا تعرف غير كلمة واحدة للحب. وسحبت معنى الجنس (رجل أو امرأة) على علاقة الغرام والنكاح. بينما نرى الصيغة الأدبية والثقافية الرفيعة في العربية تنحو نحوا آخرا تماما من حيث صورتها ومغزاها وغايتها وجمالها في هذا المجال. واكتفي هنا باقتباس احد النصوص المكثفة بهذا الصدد من كتاب محمد النفزاوي (الروض العاطر في نزهة الخاطر)، الذي وضعه قبل قرون عديدة قائلا:"الحمد لله الذي جعل اللذة الكبرى للرجل في فروج النساء وجعلها للنساء في أيور الرجال. فلا يرتاح الفرج ولا يهدأ ولا يقرّ له قرار إلا إذا دخله الأير، والأير إلا إذا دخل بالفرج. فإذا اتصل هذا بهذا وقع بينهما النكاح والنطاح وشديد القتال. وقربت الشهوتان بالتقاء العانتين وأخذا الرجل في الدك والمرأة في الهز، بذلك يقع الإنزال.

والحمد لله الذي جعل لذة التقبيل في الفم والوجنتين والرقبة والضم إلى الصدر ومص الشفة الطرية مما يقوي الأير في الحال. الحكيم الذي زين بحكمته صدور النساء بالنهود والرقبة بالقبلة والوجنتين بالحرص والدلال".

ومن الممكن إجراء مقارنات لمئات بل آلاف الكلمات والاصطلاحات الدارجة في العربية المعاصرة التي تكشف عن سوء الفهم والدراية بماهية وحقيقة المصطلح، مع ما يترتب عليه بالضرورة من سوء فهم تقترب في الكثير من جوانبها مما يمكن دعوته ببلاهة المثقفين. وهو امر يشير أولا وقبل كل شيئ إلى سطحية هذا النوع من الثقافة.

اضافة لذلك، إن للمصطلح، بوصفه نتاجا ثقافيا تاريخيا، قيمته ومعناه النظري والعملي. وعليه تتوقف إمكانية وآفاق الرؤية والاحتمالات الكامنة فيها. فعندما نتناول على سبيل المثال، مصطلح الليبرالية، فإن مضمونه وغايته ليست لهوا ولغوا ثقافيا، كما هو الحال في كل مجرى القبول بالليبرالية في العالم العربي الحديث. فادراك حقيقة الليبرالية تفترض ادراك مقدماتها وحدودها الثقافية ومعناها الفعلي وما يكمن فيها من ابعاد فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية.

فقد ظهر مصطلح الليرالية بوصفه فكرة سياسية اولا وقبل كشئ في مجرى الصراع من اجل الحرية. وهي مضمونها. وتوسعت وتمددت هذه الفكرة الاولية انطلاقا مما يسمى بالحق الطبيعي للانسان. ثم توسعت صوب الليبرالية السياسية والاجتماعية على مدار قرون من الزمن عبر تحقيقها في ميادين الدولة (النظام الديمقراطي) ونمط الدولة ونظامها السياسي (فصل السلطات) ثم الدفاع عن حرية الانسان وحقوقه في العبير والتنظيم والدنيوية (العلمانية. وهو مصطلح خاطئ) والمجتمع المدني وحرية الضمير والاعتقاد وكل ما يدخل ضمن سياق فكرة الحرية، وبالاخص في مجال الاقتصاد والملكية. وهي جوانب تعمقت وتكاملت في منظومة الرأسمالية وتطورها.

وضمن هذا السياق فإن للمصطلح تاريخه الخاص. وهو تاريخ شاق مر بعذابات هائلة وتضحيات ضخمة وانهار من الدماء قبل أن يستتب بصورته الحالية. وبالتالي، فإن الأخذ به كما جرى في تاريخ العرب المعاصر، قد جعل من الفكرة الليبرالية مجرد تقليد هش وسخيف. وذلك لأن جوهر الفكرة الليبرالية بوصفها فلسفة الحرية (السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها) تفترض تأسيسها الذاتي بما يتوافق مع مجرى المسار التاريخي. فإذا كان مسار الاول في التاريخ الاوربي كان موجها صوب تأسيس الفكرة الدنيوية (فصل الكنسية عن الدولة) واستكمالها بالتنوير الشامل وتحقيق فكرة التقدم والحداثة في كافة نواحي الحياة، فإن صيرورتها الممكنة والمحتملة في ظروف العالم العربي تفترض بلورة مرجعيات أخرى، لعل أهمها هو نفي مرجعيات الأصول الدينية بمرجعيات المعاصرة والفكرة القومية. اما شكلها الملموس فيقوم في ما ادعوه بمنظومة الحرية والنظام. فهي الفكرة التي ما زال العالم العربي يفتقدها تماما. من هنا طبيعة الخلل الدائم فيه لحد الان. وفيما لو اكتفيت هنا بالتجربة العراقية، رغم ضحالتها، فاننا نكتشف سر الخلل في هذا المجال. بينما لم توجد تجربة "ليبرالية" سوى في مصر ما قبل الناصرية، وتونس زمن بورقيبة. وكلاهما ذو طابع تقليدي فج. من هنا انهيارهما اللاحق والرجوع الى ما قبل فكرة الدولة العصرية والحداثة الفعلية.

فقد كشف تاريخ العراق في القرن العشرين بشكل عام والعقود الأربعة الأخيرة منه بشكل خاص عن واقع ضعف الفكرة الليبرالية وتقاليدها في مختلف الميادين والمستويات. ويمكننا رؤية الملامح المعكوسة لهذا الضعف في سيادة وسيطرة الفكرة الراديكالية وتقاليدها السياسية، التي وجدت تعبيرها النموذجي في التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهو السبب الذي جعل من تاريخ العراق الحديث سلسلة من «الثورات» و«الانقلابات»، أي من عدم الاستقرار، وذلك بسبب انهيار الأوزان الداخلية الضرورية للاستقرار الديناميكي والوحدة الوطنية. بينما برهنت تجارب الأمم على أن القوة الوحيدة القادرة على تحقيقها تقوم في وحدة الحرية والنظام المترقية إلى مصاف المرجعية النظرية والعملية لبناء الدولة. كما برهنت تجارب الأمم الحديثة على أن الاستبداد وانعدام الشرعية لا يصنع غير سراب الأمن وزمن الانحلال والتحلل. وهي نتيجة قد يكون العراق أكثر من تحسس ألمها وذاق مرارتها وسمع زعيقها وشم عفونتها.

فمن المعلوم إن الفكرة الديمقراطية، بوصفها بحثا عن الاعتدال، عادة ما تتجذر في الوعي السياسي للطبقات الوسطى. بل أن الفكرة الليبرالية تاريخيا واجتماعيا ونفسيا هي من صنع الطبقة الوسطى. وليس اعتباطا أن تشترك مختلف التوتاليتاريات السياسية والعقائدية (من أقصى اليمين واليسار) بمحاربة الطبقة الوسطى وتصويرها على أنها مرتع «القلق» و«انعدام الثبات» في المواقف! أما في الواقع فإن حقيقة «القلق» تعادل نفسية وذهنية البحث الدائم عن الجديد أو ما يمكن دعوته بالثبات الديناميكي. أما اتهامها «بانعدام الثبات» فهو مجرد صيغة أيديولوجية مقلوبة للرؤية التوتاليتارية التي عادة ما تجد في الثبات أسلوبا لوجودها، مع ما يترتب على ذلك من استبداد وقمع لكل اختلاف وتباين وحركة توحي بإمكانية خلخلة الوضع القائم. من هنا عدائها السافر والمستتر لكل«خروج» على «ثوابتها» الوطنية والقومية والاجتماعية والفكرية وما شابه ذلك.

أما في الواقع فإن الطبقة الوسطى هي الأكثر «ثباتا» بمعايير الديناميكية التاريخية والاجتماعية. وهو ثبات نابع من موقعها الاجتماعي التاريخي بوصفها الطبقة الأكثر ارتباطا بفكرة الحرية والنظام الاجتماعي الديمقراطي. فالطبقات جميعا عرضة للتغير والتبدل من حيث موقعها الاجتماعي وأيديولوجياتها وأفكارها المتعلقة بماهية الدولة والمجتمع المدني وفكرة الحق والحقوق، بينما تبقى الطبقة الوسطى من حيث الإمكانية والواقع الممثل الفعلي لتيار البحث الدائم عن نسب الاعتدال والعقلانية والحرية الفردية والاجتماعية، أي الممثل الأكثر نموذجية لفكرة الحرية والديمقراطية السياسية والاجتماعية.

فالنظم الاستبدادية، أي التي تفتقد الى المعادلة الحية لوحدة الحرية والنظام عادة ما تؤدي إلى إنتاج مستمر للرخوية والرخويات في كل مكونات الدولة والمجتمع، أي إعادة إنتاج دائمة للرخويات الراديكالية الدينية والدنيوية. فتهميش الطبقة الوسطى الذي بلغ في ظل الدكتاتورية الصدامية مداه الأقصى أدى إلى تفريغ المجتمع من قواه الحية، ومن ثم توسيع مدى الأرضية الفعلية للقوى الرثة والحثالة الاجتماعية، وبالتالي غلبة اللاعقلانية في كل نواحي الحياة، مع ما يترتب عليه من نمو مختلف نوازع الغلو والتطرف والسلفية. كما نراها في كثرة النماذج المتنوعة من الحركات السلفية المتلفعة بأسماء «أهل السنة والتوحيد» و«جيش الإسلام» و«جيش أنصار السنة»، أو أشباهها من «جيش المهدي» وعشرات غيرها. وليس مصادفة أن تشترك هذه الحركات جميعا في التلذذ بكلمة الجند والجيش والعسكرة. فهو الأسلوب «الطبيعي» المعبر عن حال الرخوية الاجتماعية ونفسية الحثالة والرثة البشرية وفقدان العقلانية السياسية.

وقد يكون من السهل النظر إلى هذه المظاهر بمعايير الطائفية والجهوية والحزبية الضيقة والمقاومة الوطنية وما شابه ذلك، إلا أن حقيقة مداها ومدارها أوسع من جميع هذه الأحكام الجزئية. وذلك لأن مضمونها الفعلي يقوم في طبيعة التقاليد الراديكالية وزمن خرابها المادي والمعنوي بالنسبة لبنية الدولة والمجتمع والتقاليد السياسية. بمعنى كمون كل هذا الخراب المستمر في طبيعة الأزمة البنيوية الشاملة التي يشكل غياب التقاليد الليبرالية احد أسبابها الجوهرية. مما يجعل من بلورة رؤية فلسفية سياسية وعملية عن المجتمع المدني والفكرة الليبرالية في العراق مهمة إستراتيجية بالنسبة لتأسيس منظومة الحرية والنظام فيه، أي للاستقرار الديناميكي في كل مكونات وجوده الحالي والمستقبلي. كما انه الأسلوب الضروري لتذليل بقايا الراديكاليات الاجتماعية والسياسية الرثة.

فإذا كانت الفكرة الليبرالية هي أحد المكونات الأيديولوجية للمجتمع المدني، فإن صيغتها العملية ترتبط عموما بخصوصية التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمعات والدول. وهو موقف يستجيب من حيث الجوهر لمضمون الفكرة الليبرالية نفسها في حال عدم تعارضها مع مضمونها الجوهري، بوصفه تمثلا وتمثيلا للحرية بمعناها الواسع. وهي الفكرة التي ينبغي وضعها في صلب ما يمكن دعوته بالأيديولوجية العملية للحركات السياسية العراقية جميعا، بوصفه الحد الأدنى الضروري للمساهمة في بناء أسس ومقومات المجتمع المدني البديل. ومن ثم جعل الفكرة الليبرالية محور ومضمون الرؤية الواقعية والعقلانية للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية.

غير أن الليبرالية في العراق ينبغي أن تكون عراقية، بمعنى ضرورة تمثلها لوقائع وحقائق تاريخه الكلي. والقضية هنا ليست في البحث عن «الأصالة» بقدر ما أن الليبرالية بحد ذاتها فكرة واقعية وعقلانية في نفس الوقت. مما يجعل منها بمعايير الرؤية السياسية والتاريخية سلسلة من الخطوات العملية الكفيلة بتحصين الحرية الفردية والاجتماعية بقوة القانون والشرعية. وتشكل هذه الخطوات سلسلة التكامل الضروري بالنسبة لتأسيس وعي الذات الاجتماعي، بوصفه شرط تنشيط مكونات وعناصر المجتمع المدني من التطوع، والاختيار، والمؤسسات، والاستقلال النسبي، والكينونة الذاتية، والرؤية المنظومية الجزئية والكلية، والإخلاص للمجتمع بوصفة نسيجا موحدا وحيا، وجوهرية الرؤية الاجتماعية والدولتية. وهي عناصر قادرة على الفعل الإيجابي ضمن انساق الثقافة المقبولة والمعقولة للوعي القومي (الوطني). بمعنى ضرورة فعلها ضمن منظومة من المرجعيات الثقافية، من اجل ألا تغترب الفكرة الليبرالية عن مضمونها الجوهري بوصفها فكرة الحرية والنظام. من هنا ضرورة المرجعيات الثقافية المتسامية بالنسبة للوعي السياسي العراقي تجاه فكرة المجتمع المدني وقضاياها الواقعية. مما يفترض بدوره حل ثلاث إشكاليات نظرية وعملية كبرى وهي:

صياغة الرؤية العامة للفكرة الليبرالية في العراق،

تحديد طبيعتها وحدودها العقلانية الفعلية،

منهجة أولوياتها الاجتماعية والوطنية.

***

 ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم