قضايا

كيف نفهم الناصرية في سياقها الصحيح تاريخياً؟

محمود محمد عليالناصرية حركة قومية عربية تنسب إلي الرئيس المصري السابق “جمال عبد الناصر”، والذي عبر عن افكاره في كتابه الشهير “ فلسفة الثورة”، الذي كتبه محمد حسنين هيكل على ضوء أفكار عبد الناصر، كما عبر عنها عبد الناصر كذلك  في المواثيق المصرية، واستمرت الناصرية  بعد وفاته واشتقت اسمها من اسمه وتبنت الأفكار التي كان ينادي بها وهي: الحرية والاشتراكية والوحدة وهي نفس أفكار الأحزاب القومية اليسارية العربية الأخرى

والناصرية تمثل ايديولوجية الثورة العربية والمشروع الوحدوي العربي، وتقوم أفكارها علي عدة محاور منها : السعي الي تحقيق الوحدة العربية ونبذ التبعية، وذلك بتحقيق استقلال تام وتنمية شاملة- ربط الاستقلال الوطني بالاستقلال العربي - توزيع الثروة الوطنية لتحقيق التغيير الاجتماعي- الحرية والاشتراكية والوحدة، للقضاء على مشكلات العالم العربي الأربعة: وهي الاستعمار  والتخلف والطبقية والتجزئة بين أقطار العالم العربي. (وهي نفسها أفكار حزب  البعث القومي اليساري: الوحدة، الحرية، الاشتراكية.

ولكي نفهم الناصرية في سياقها الصحيح لا بد من أن نعود إلي ناصرية جمال عبدالناصر التي ساهمت في نهوض الدولة المصرية من رقادها، فالرجل الذي مات شابا في أوائل الخمسينيات من عمره، والذي تمر خلال هذه الأيام على رحيله المبكر خمسون سنة بالتمام والكمال، زادته الأيام تألقا وحضورا في غيابنا المذهل.

وربما تكون ذكرى رحيل جمال عبد الناصر فرصة لتذكر الأبقى وهو 'ناصرية' جمال عبدالناصر، فالرجل كان قائدا "فذاً" في مضمار التاريخ العربي وفي تغيير مساره وإحداث تغيير نوعي وكمي لحركته.. وفقط .. بل كان أيضا شخصية كاريزمية إلهاميه وزعامة سياسية لم يتوقف دورها علي التلقائية والهبة والجاذبية الشخصية دون إدراك واع بحركة التاريخ والوجود الإنساني وقوانين حركة المجتمعات .. وقد انضاف إلي بطولته التاريخية ودوره الواعي وكاريزميته سياق تاريخي وظروف موضوعية متأزمة أشد التأزم وسأم سياسي وفقدان القدرة علي تحرير الإرادة والفشل في فك رموز القضية الوطنية، في حين تأزمها احتقأنها من حاكميها ومحكوميها .. فكان الذاتي بجانب الموضوعي في انسجاميه نادرة لا تتوفر كثيرا في حركات الحياة وشأن المجتمعات فكانت حالة قائد الثورة وانبلاجها هي النتاج الحقيقي لهذا الإنسجام والتوافق بين الذات والموضوع .

كما نستطيع أن نقول مع الأستاذة نجاح العشري في كتابها عن شخصية عبد الناصر وحياته أنه لم تشهد الساحة السياسية العربية شخصية استحوذت علي قلوب الجماهير العربية وعقولها من المحيط إلي الخليج خلال عقدين من الزمان، وما زالت محل اهتمام الباحثين والمفكرين العرب والغربيين وابحاثهم بشأنه وحياته وظروف نشأته ومنهجه السياسي وتقريظه ونقده مثل شخصية عبد الناصر ... عبد الناصر وشأنه في ذلك شأن الشخصيات التاريخية " الفذة" والتي تستحوذ علي القلوب والأفهام كما هو حال القائد العربي صلاح الدين الأيوبي ومحمد علي مؤسس مصر الحديثة.

لقد كان جمال عبد الناصر صاحب مشروع تحرري، له شق داخلي عنوانه الاصلاح الزراعي والقضاء على الاقطاع واجتثاث الفساد، وتطبيق خطة تنمية صناعية ثقيلة وتحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات، بحيث يأكل المواطن المصري مما يزرع، ويلبس مما يصنع.. أما الشق الخارجي من المشروع الناصري، فكان عنوانه التصدي لحلف بغداد والمشروع الصهيوني في المنطقة، والاستعمار الغربي في العالمين العربي والاسلامي، ومساندة حركات التحرر في العالم باسره، وتكوين التيار او التكتل الثالث الممثل في دول علم الانحياز.

وعندما نحاول التعرف إلى المشروع السياسي لجمال عبدالناصر من طريق الخواطر التي نشرها في عنوان «فلسفة الثورة»، نجد أنه يختلف عما كان متفقاً عليه بين مثقفي جيله من المصريين. فهو لا يعتبر أن محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة الذي أقام الدولة وأنشأ الجيش، بل يراه مجرد واحد من المماليك، وبينما ترى الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري أن ثورة 1919 - بقيادة سعد باشا زغلول - هي أهم تحرك شعبي في تاريخ مصر الحديث، يقول عبدالناصر: «ضاعت ثورة 1919 ولم تستطع أن تحقق النتائج التي كان يجب أن تحققها... وكانت النتيجة فشلاً كبيراً".

ولم يتحدث عبدالناصر في «فلسفته» عما كان يشغل بال المصريين بخصوص جلاء القوات البريطانية وتسويع نطاق الديموقراطية والرخاء الاقتصادي، لكنه تحدث عن فلسطين: «طلائع الوعي العربي بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانوية أخرج مع زملائي في إضراب عام في الثاني من شهر نوفمبر من كل سنة، احتجاجاً على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود... بدأت أدرس وأنا طالب في كلية أركان الحرب حملة فلسطين ومشاكل البحر المتوسط بالتفصيل. ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس».

والسؤال الآن: ماذا نعني بالناصرية بالضبط من خلال سيافها التاريخي ؟

الناصرية فيما يظن الأستاذ عبد الحليم قنديل في كلامه عن ناصرية جمال عبد الناصر وأنا أؤيده بأنها ليست زمناً مضى وانقضى، وليست مجموعة سياسات وإنجازات، وليست مجرد بطولة في التاريخ، أو تجربة عداء حازم للاستعمار، وتنمية خارقة للعادة، أو سعيا إلى الوحدة العربية.. أنها كل ذلك وغيره، إن أردنا وصف ما جرى، لكنها تنطوي على قيم باقية وممتدة تتجاوز الوقائع وتكشف فيها المعنى والمغزى، يقول جمال عبدالناصر: 'لقد كانت أعظم الملامح في تجربتنا الفكرية والروحية أننا لم ننهمك في النظريات بحثا عن حياتنا، وإنما أنهمكنا في حياتنا ذاتها بحثا عن النظريات'.

إن الناصرية هي التجريد الواعي لقيم كشفت صحتها الممارسة التاريخية، وصاغت مضامينها النظامية.. الناصرية رؤية مبلورة 'للمجتمع العربي المستهدف الذي يناضل الناصريون من أجل تحقيقه في المستقبل'.. والناصرية منظومة من الأفكار المتسقة والمتكاملة فيما بينها، والقابلة للنمو بدالة الواقع الحي ومتغيراته.. والناصرية ـ كأيديولوجيا ونظرية ـ تستند إلى إطار أوسع من الفهم المنهاجي، يؤمن بهدى رسالات السماء ورؤيتها للكون والوجود، ويؤمن بحتمية السنن الناظمة لحركة الكون والمجتمع، ويؤمن بالمنطق الجدلي لحركة التاريخ، ويؤمن بالقوة الدافعة للصراع الاجتماعي متعدد الأبعاد، ويؤمن بدور الإنسان المتميز بالإرادة والوعي في قيادة حركة التطور التاريخي والاجتماعي، ويتضمن تحليلا للواقع المعين، يكشف تناقضاته ويفسر مغزى حركته، ويتنبأ بمقاصدها في المستقبل.

وكما قلت من المهم أن تفهم الناصرية في سياقها الصحيح تاريخيا، وأن يفهم دور عبد الناصر الفكري في إطار حركة الثورة العربية المعاصرة، كان عبدالناصر قيادة تاريخية من طراز نادر، قام بدور بطولته التاريخية مع توافر الوعي المسبق به وطورته حصيلة الممارسة، واستند عبدالناصر كفرد ممتاز إلى حركة الجماهير العربية في مرحلة نمو سريع للوعي، عجلت بها موازين تخلقت بعد الحرب العالمية الثانية، ثم أضاف عبد الناصر بتجربته الثورية قوى اجتماعية جديدة تتهيأ لاستكمال الدور ذاته، واستند عبد الناصر في الوقت نفسه إلى إيحاءات واجتهادات طرحتها حركة الوطنية المصرية وحركة القومية العربية قبله، ثم أضاف إليها بالممارسة عمقها ومنحها أصالتها واتساق منطقها الداخلي، ثم أضاف إليها منظومات فكرية جديدة دفعتها خطوات حاسمة نحو وضوح النظرية والايديولوجيا، كان عبدالناصر تلميذا نجيبا لحركة التاريخ والجغرافيا والمجتمع وقائدا لها في آن، وربما يكون ذلك هو ما جعل من الناصرية أو في تعبير ممكن عن ثوابت ومطامح ونداءات التطور في منطقتنا العربية، وقد تضيف إليها المتغيرات زادا جديدا، لكنها لا تلغي أو تنفي أصولها المشتقة من الواقع بالأساس.

وقد كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر من أوائل المشجعين للقاء الشباب على مستوى الجمهورية نظرًا لإدراك القيادة السياسية في ذلك الوقت لأهمية تجميع الشباب المصري في مناسبة عامة أشبه ما تكون باللقاء القومي تؤدي في نهايتها إلى زيادة أواصر الارتباط والاندماج بين هؤلاء الشباب بما فيه صالح الوطن... في جامعة القاهرة –الأم الرؤوم للجامعات المصرية والعربية- كانت البداية؛ فقد تم تنظيم اللقاء الأول لشباب الجامعات المصرية في عام 1954 بمبنى المدينة الجامعية بجامعة القاهرة، وكان هذا المبنى قد تم افتتاحه في العام نفسه.

كما اهتم عبد الناصر بترسيخ وسطية الدين الإسلامى فى مواجهة الأفكار المتطرفة حينها، فتوسع فى إنشاء المعاهد الدينية، وجعل الدين مادة إجبارية، وأنشأ إذاعة القرآن الكريم، ونحو 10 آلاف مسجد، ومدينة البعوث الإسلامية لتدريس الإسلام للوافدين إلى مصر، ومنظمة المؤتمر الإسلامى، ووضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامى، وعلى خُطى عبد الناصر، وجّه السيسى بتجديد الخطاب الدينى عن طريق المؤسسات الدينية، ودعا إلى نبذ التطرّف، بعد تغلغل الأفكار المتطرفة إلى المجتمع، واستفحال ظاهرة الإرهاب، فوضع الأزهر الشريف خطة شاملة نحو نبذ التطرّف، وترسيخ الفكر الوسطى.

انحاز عبد الناصر للطبقات الفقيرة، فأقر الإصلاح الزراعى لتوزيع الأراضى على صغار المزارعين، ورفع الحد الأدنى للأجور مدافعًا عن حقوق العمال، وتطوير منظومة المعاشات، وسعى السيسى، مؤخرًا، إلى إقرار علاوات جديدة للعمال، وفعّل مشروعا تحت شعار «مصر بلا عوز»، يهدف لمحاصرة الفقر فى مصر، بدأت وزارة التضامن الاجتماعى، بالتعاون مع بعض الوزارات، والجهات الأخرى، فى تنفيذ برنامجين للدعم النقديى، بهدف دعم الفئات الأكثر فقرًا فى قرى صعيد مصر، وفى بعض المناطق بالقاهرة وبالجيزة، تحت مُسمّى «تكافل»، و«كرامة»، فضلًا عن إنشاء مدن سكنية جديدة متطوّرة لنقل سُكّان العشوائيات، وتأهيلهم، وتطوير تلك المناطق.. أما قناة السويس التى أعلن عبد الناصر تأميمها فى عام 1956، ودخل بسبب ذلك القرار الذى وصف حينها بـ«الجريء» فى صدام مع القوى الاستعمارية الكبرى، التى شنت حرب العدوان الثلاثى ضد مصر، أدرك السيسى أهميتها البالغة كأحد أهم مصادر الدخل القومى المصرى، فأطلق الشرارة الأولى فى مشروع تنمية محور قناة السويس الضخم، بحفر مجرى ملاحى جديد بالقناة فى 2015.

ولذلك يحاول معلقون سياسيون مصريون، خصوصاً المنتمين إلى التيار الناصري، تشبيه  عبدالفتاح السيسي بالرئيس السابق جمال عبدالناصر. وبينما بهذه الطريقة هم يحاولون تمجيد زعيمهم القديم عبدالناصر، إلا أنهم بكل تأكيد يسيئون إلى السيسي وينسبون إليه مشروعاً شمولياً هو بعيد منه كل البعد. فبينما قام عبدالناصر بانقلاب عسكري ضد النظام الملكي البرلماني بلا تفويض من الشعب، لم ينزل السيسي قوات الجيش إلى الشارع إلا حماية لثورة الشعب من أجل «استعادة الحق إلى صاحبه الأصيل». وعلى رغم أن السيسي ظل ملتزماً القواعد العسكرية مطيعاً أوامر الرئيس مرسي حتى تلك التي لم يوافق عليها، إلا أنه لم يقبل التهديد الذي وجهه «الإخوان» إلى الشعب المصري، خصوصاً بعد خروج ملايين المصريين في 30 يونيو مطالبين بإسقاط مرسي وحكم «الإخوان المسلمين".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

.......................

المراجع

1- عبدالحليم قنديل: ناصرية جمال عبدالناصر (مقال).

2- نجاح العشرى: شخصية عبد الناصر وحياته (كتاب).

3- أحمد عثمان: لا تظلموا السيسي من أجل عبدالناصر(مقال).

4- محمد أبو الدهب: الرئيس السيسي في منزل عائلة عبد الناصر (مقال).

5- عبد الباري عطوان: عبد الباري عطوان: السيسي ليس عبد الناصر (مقال).

 

في المثقف اليوم