قضايا

الفن ومشكلات المجتمع

منى زيتونبسبب ما يمر به العالم من تداعيات فيرس كورونا، ومع اقتراب شهر رمضان المعظم، تعالت في مصر مطالبات بوقف تصوير المسلسلات التليفزيونية المقرر عرضها رمضان القادم، ثم قرأنا خبرًا عن وقف تصوير المسلسلات النظيرة التي يمولها التليفزيون التونسي، وتخصيص الأموال المخصصة لها لوزارة الصحة التونسية.

ولم يكن لهذه الدعاوى صدى عند أولي الأمر، رغم أن هذه المسلسلات في مصر تتعرض لنقد شديد منذ سنوات من قطاعات المثقفين والبقية الباقية من الشعب المصري ممن يعنيهم الحفاظ على قيم المجتمع، بعد أن كادت تصبح تلك الأعمال الفنية فاقدة لكل قيمة، ولا تسهم بأي درجة في حل مشكلات المجتمع، بل أصبحت سببًا رئيسيًا في الانحدار الاجتماعي الذي ننزلق إليه بقفزات متسعة.

اعتدنا أن نسمع أو نقرأ منذ كنا صغارًا عن أفلام سينمائية قديمة تسببت في تغيير قوانين أو سن أخرى، أو تعديل أوضاع بعض فئات المجتمع، فدور المُعلم الذي قام به نجيب الريحاني في فيلمه الشهير "غزل البنات" تسبب في إصدار الملك فاروق توجيهات بتحسين أحوال المعلمين المادية، وفيلم "جعلوني مجرمًا" تسبب في إلغاء السابقة الإجرامية الأولى من سجل المذنبين لمساعدتهم في إعادة الاندماج في المجتمع بأن يجدوا عملًا شريفًا، وفيلم "كلمة شرف" تسبب في سن قانون يسمح بإعطاء المسجونين إذنًا لزيارة ذويهم خارج السجن في حالات إنسانية، وفيلم "أريد حلًا" تسبب في إلغاء تنفيذ حكم الطاعة على الزوجة بالقانون، والذي كان يستغله أشباه الرجال في إذلال النساء وإعادتهن إلى عصمتهم رغمًا.

والأمثلة كثيرة عما أسهم فن السينما في القرن العشرين في حله من قضايا أو التنبيه عليه من مشكلات في المجتمع المصري. والشهادة أن السمين يفوق الغث بكثير، ما يجعلنا نتساءل عن قيمة ما يقدمه الفن وأهله الآن!

ولعل أكثر ما استرعى انتباهي في الآونة الأخيرة هو زيادة الهجوم على أحد رموز الانحدار الفني المعاصر، كونه تخصص في دور البلطجي في أعماله التي يؤدي فيها أدوار البطولة المطلقة، لأنه صار بطلًا يقلده المراهقون، فأصبح سببًا في نشر الشر في المجتمع، وقادني ذلك إلى المقارنة بين ما يقدمه من أدوار للشر، وما كان يتم تقديمه من أدوار الشر في الأفلام القديمة.

فرغم أن الأفلام القديمة لم تخلُ من دور شرير الشاشة، لم تُعتبر يومًا سببًا في نشر الشرور في المجتمع، وهو ما استحال إليه الحال حين اختفى دور شرير الشاشة التقليدي من أفلام الفن العربي المعاصر، بعد أن كانت رسالة الفن هي التوعية بهذه الشرور وكيفية مواجهتها وتخطيها. فكيف كان دور الشرير توعية ضد الشر في عصر، وكيف صار ناشرًا للشر في عصر آخر؟!

والإجابة أن الفن الجيد لا يقف مع الشر؛ فلم يكن يومًا الشرير هو البطل في أدبنا وفنوننا، ومنذ أن أصبح الشرير بطلًا انتشرت الشرور بأصنافها في المجتمع.

وأدوار الفنان فريد شوقي تعد مثالًا جيدًا في هذا الشأن؛ ففي بداياته في الأفلام القديمة جدًا كان يقوم بدور الشرير التقليدي كدور ثانوي، ولأنه أراد أن يقوم بدور البطل بعد ذلك كان لزامًا أن تحدث نقلة في أدواره، فصار فُتوة الناس الغلابة؛ كي لا يكون موصومًا بالترويج للشر.

وليس الأمر متعلقًا بالتحذير من الشر وحده، بل تمتد رسالة الفن الحقيقي حتى إلى الخطأ، فوظيفة الفن هي تهيئة وتحذير أفراد المجتمع باحتمال مواجهة صنوف المشكلات الممكنة في المجتمع في حياتهم الشخصية والمهنية، ومنعهم من الزلل والوقوع في الخطأ.

ونرى البطل حين يقع في الخطأ في الأفلام القديمة يُصرِّح بكونه أخطأ ويندم على خطئه، ولعل أشهر مثال يحضرني على ذلك قصة فيلم "أبي فوق الشجرة"؛ التي كانت في حقيقتها قصة زلل آدم وخروجه من الجنة بينما ظن أنه يدخلها، ثم ندمه وتوبته بعد ذلك؛ فحتى الأفلام التجارية قديمًا -التي تُعنى بإرضاء أذواق الجمهور، وقد تلقى نقدًا لاذعًا مستحقًا لأجل هذا- كانت كثير منها تحمل فكرًا وتسهم في تشكيل الوعي لدى أفراد المجتمع وإن تم ذلك بطريقة غير مباشرة بمخاطبة اللا وعي!

ولإدراك غالب أهل الفن قديمًا لدورهم، فقد كان لوجود شخصية الشرير أو الشريرة -التي يتم تحقيرها عمدًا-، أو شخصية المخطئ -النادم على أفعاله- في أغلب القصص السينمائية دور توعوي بالمشاكل الاجتماعية التي تطرحها تلك القصص، ولمسنا أثر ذلك في قلة المشاكل الاجتماعية التي طرحتها تلك الأفلام في المجتمع، والعكس في عصرنا؛ حيث كاد يختفي دور الفن؛ فقلت التوعية وزاد انتشار المشاكل.

وكباحثة في المجال النفسي والاجتماعي، ومتخصصة في المقام الأول في إعطاء استشارات اجتماعية، كثيرًا ما أبحث عن المشكلات التي تتكرر أمامي في الحالات المعروضة عليّ فيما يقدمه أهل الفن فلا أجد في المحتوى الجديد منها شيئًا، في حين أنني كثيرًا ما أشاهد كثيرًا من هذه الحالات ماثلة في الأفلام القديمة، فهل تصور أهل الفن حديثًا أن هذه المشكلات الاجتماعية قد اختفت أو ندرت في المجتمع حتى لم تعد تظهر فيما يقدمونه؟!

ذات مرة كانت المشكلة التي أناقشها مع بعض الناس هي إشاعة تعرضت لها فتاة من شخص تافه لا وزن له بأنه على علاقة غرامية بها! وكان من الواضح أنه كاذب ولا دليل لديه إلا ما يدعيه، فحتى رقم تليفونها لم يكن لديه! ثم أنه حدث موقف جعل المحيطون به يتشككون في كذبه، ولكن عقولهم لم تتقبل أن كل ما كان يحكيه هو محض كذب. ولم أجد أفضل من التشبيه بمثال الدور الذي لعبه الفنان يوسف شعبان في فيلم "معبودة الجماهير"، حين كان يكذب ويكذب ويدعي وجود علاقة بينه وبين البطلة، ولكن ما لبث كذبه أن انكشف عندما رأى الصحفيان -اللذان كانا في انتظار إعلان خبر الخطوبة- البطلة تخرج مع البطل من باب خلفي بعيدًا عن الأعين، ليكتشفا حجم الكذبة التي حيكت لهما وصدقاها. وكيف أن هذا الشرير بعد ذلك لم يهنأ له بال حتى أفسد ودمر علاقة البطلين في الفيلم؛ انتقامًا بعد أن فُضح كذبه.

أذكر يومها أنني احتجت إلى جمع مزيد من الأدلة حتى تأكدت لهم براءة الفتاة، وكانت صعوبة تصديق المثال الذي طرحه الفيلم مصدرها أن قصة كهذه صارت قديمة ولا يُعقل حدوثها في عصرنا هذا! فلأن القصة لا يُناقش مثيلها في الفن المعاصر زال الوعي لدى الناس بإمكانية حدوث المشكلة!

بينما في الفن القديم يمكن أن نجد قصصًا ناقشت إدعاء وجود علاقات وهمية إما مع شخص بعينه ذي قيمة كبيرة للتباهي أو للمصلحة، كما في "معبودة الجماهير"، أو إدعاء علاقات متعددة لا أساس لها في الواقع مع نساء، وهو دور الشهريار المزيف، أو إدعاء العلاقات الزائفة لأجل تخريب حياة الناس كراهية أو انتقامًا، أو لإبعاد شخص مميز عمن يدّعون علاقتهم العاطفية به، وهذه كلها إدعاءات تحدث لأغراض شخصية، ولا يمنع أن ناقش الفن مشكلة إدعاء علاقات مع مسئولين ونافذين لأجل مصالح مهنية، كما كان الحال في الشخصية الشهيرة "علي بيه مظهر".

والشيء المشترك بين كل هؤلاء الأدعياء أنهم مرضى نفسيون، غير قادرين على مواجهة واقعهم الاجتماعي كما هو، والعمل على تغييره بشكل إيجابي. والحراك الاجتماعي والارتقاء في طبقات المجتمع وإعلاء الذكر بين الناس يمكن حدوثه، ولكن فرق كبير بين العصامي والمتسلق، وبين الراقي والحقير!

وهناك أيضًا في المجتمع من ينشر الأكاذيب عن الناس ويشهر بهم ابتزازًا، وندر أن نجد أمثالهم في الفن أو الأدب المعاصر. في بريد الجمعة بجريدة الأهرام، في عصره الذهبي -وقت أن كان يشرف عليه المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مطاوع- أذكر قصة طويلة نشرها عن شاب فاسد أحب فتاة رائعة فائقة الجمال وعلى خلق، ولأنها رفضته صار يشهر بها وبسمعتها ليطرد عنها الخاطبين، ثم يعاود طلب خطبتها، حتى اضطرها أهلها لقبول الزواج منه لأنه الحل الوحيد –كما رأوه- لتنقية سمعتها وإعادتها كما كانت وكشف كذبه، ثم يطلقونها منه بعد إتمام الخطة!

وكثيرًا ما قابلتني مشكلات اجتماعية يقوم فيها أحد الأطراف بالتهديد بالتشهير بالطرف الآخر ترهيبًا؛ لضمان عدم مطالبتهم بميراثهم أو أي من حقوقهم، وغالبًا ما يلجأ لهذا النوع من التشهير الرجال لمنع النساء حقوقهن المالية في الميراث أو النفقة، أو لنقل حضانة الأبناء إليهم. وأذكر أن تلك القضية نوقشت بشكل عرضي في أحد الأدوار في مسلسل "ضمير أبلة حكمت" أواخر العقد التاسع من القرن الماضي، وكان من يتم التشهير بها معلمة ثانوي فاضلة، فأين الفن من أمثال هذه القضايا الآن؟!

كانت أغلب الأدوار الشريرة أدوارًا ثانوية رغم أن حبكة قصة العمل الفني قائمة عليها، ولم يكن يُسمح لمن يقوم بها غالبًا بأداء دور البطولة؛ وعيًا من العاملين في الحقل الفني برغبة المراهقين في تقليد البطل ونسخ سلوكه، تلك الرغبة والتهيؤ التي تحدث عنها تفصيلًا عالم النفس الأمريكي الشهير ألبرت باندورا في نظريته عن التعلم الاجتماعي بالنمذجة.

بل كان من يقوم بدور الشرير وينجح فيه يبقى محصورًا في الغالب في تلك النوعية من الأدوار، كي لا ينفر المشاهد من أي دور طيب يقوم ببطولته أحد شريري الشاشة، وللممثل توفيق الدقن -الذي كان مشهورًا بأداء أدوار الشر- قصة شهيرة؛ حين استبعده المخرج العالمي مصطفى العقاد من دور لأحد الصحابة كان مرشحًا له في فيلم "الرسالة"، فقال له الدقن حين قابله بعد عرض الفيلم ومعرفته بسبب الاستبعاد: فلِم لم تعطني دور أحد كفار قريش، أم خفت على تدني صورة الكفار في نظر المشاهدين؟!

وبداية نقرر أن مشكلات اجتماعية كالإدعاء ونشر الأكاذيب وتخريب حياة الناس لم تكن لتحدث وينجح المفتري في تحقيق هدفه لولا وجود قطاع عريض من بيننا لا يعملون بالأمر القرآني الشهير ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]. آخذين في المقابل بالمثل الشهير "ساهية ووراها داهية، واللي تحسبه موسى يطلع فرعون"، والمثل الأشهر "لا دخان بغير نار"، وإن كانت الحياة تخبرنا كثيرًا بقدرة كثير من البشر على نشر دخان وهمي ضبابي حول من يحقدون عليهم، والمشكلة الأكبر فيمن يستمع إليهم ويقبل قولهم، وكأن سوء الظن متوفر دائمًا لدى هؤلاء ولا مجال لإحسان الظن بأحد مهما كان منه من خير سابق. وصدق المثل الشعبي المصري "اتلم الكذاب على الأهبل"!

ولكنني أيضًا أجزم أن التشنيع على الأبرياء لم يكن لينجح لو كان لدى الناس الوعي الكافي عنه؛ ذلك الوعي الذي أصبح شبه مفقود بسبب غياب رسالة الفن الحقيقي. والمشاكل الاجتماعية الناشئة عن الإدعاء والتشهير تكاد تكون اختفت أدوارها في الفن المعاصر، مثلما اختفى دور الشرير التقليدي الكريه، في الوقت الذي انتشرت فيه القصص التافهة التي تركز على دور البطل البلطجي، وهي شخصية سافرة الشر، ليس أفراد المجتمع في حاجة إلى التنبيه منها والتعريف بها، والأهم أن المعالجة التي تتم لها لا تجعل منها شخصية بغيضة، بل تدعو الشباب والمراهقين إلى تقليدها، وتزينها لهم.

ختامًا، فإن مشاكلنا الاجتماعية الحقيقية متعددة، وغياب الفن عن مناقشتها هو المشكلة الأكبر، فإن كان الفن حاليًا يركز على دور الشرير ليصنع منه البطل، فكيف غاب عنهم إمكانية مناقشة مثل تلك القضايا الاجتماعية التي طرحت أمثلة عنها بعد تحوير وتعديل ليصير البطل ليس هو الطيب الذي يُكاد له كما كان الحال في الأفلام القديمة، بل ليصير البطل هو ذلك الشرير الذي يكيد لغيره، مع جعلها شخصية شريرة كريهة خاطئة، ليس فيها ما يغري بالتقليد، فعلى الأقل ستكون هناك قضايا ذات قيمة يقوم الفن المعاصر بمناقشتها بدلًا من الهراء الذي يُقدم ولا نجد فيه نفعًا!

 

د. منى زيتون

 

 

في المثقف اليوم