قضايا

تأملات في الفكر السياسي الإسلامي (6): القرآن والبيعة

سليم جواد الفهدانتهينا في التأمل السابق من نقاش الأساس الأول من أسس النظام الإسلامي وهو (الشورى) ونستمر في هذا التأمل بنقاش الأساس الثاني وهو (البيعة) بالمقارنة بالمصدر الاول من اصول هذا النظام وهو (القرآن).

ماهي البيعة؟

البيعة كالشورى وإن كانت الشورى تسبق البيعة سبقا زمانيا فالقوم يتشاورون ثم يختارون ثم يبايعون والبيعة ليست من عنديات القرآن بل هي كالشورى  موروث عربي قديم وعرف قبلي كان معمولا به قبل الإسلام حيث كانت تسود العلاقات القرابية بين أفراد القبيلة ويسود الشعور بوحدة الدم والمصير حيث كانت رئاسة القبيلة استحقاق شخصي للأحكم والأشجع والأكرم القادر على إدارة أمور القبيلة في السلم والحرب بأسلوب حر بعيد عن الوراثة إلا في حالات نادرة حيث لم يحبذ العرب انتقال السيادة بالوراثة لان ذلك يقيد حريتهم وبالفعل ولا يوجد في تاريخ قبائل وسط الجزيرة العربية أكثر من أربع أسر تتابع فيها أربع أحفاد بالتعاقب على الرئاسة وقد يعهد السيد إلى ابنه في سيادة القبيلة ألا إن هذا لا يعنى التعيين المطلق إذ يجب أن تتوفر في الخلف صفات تؤهله لسيادة القبيلة وتنال رضي أبناء قبيلته حتى يبايعوه.

البيعة لغة: بفتح الباء تطلق ويراد بها الصفقة على إيجاب البيع، وعلى المبايعة والطاعة، قال ابن منظور: (والبيعة: المبايعة والطاعة، وقد تبايعوا على الأمر كقولك: أصفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة: عاهده، وبايعته من البيع والبيعة جميعًا والتبايع مثله، وفي الحديث أنه قال: «ألا تبايعوني على الإسلام»؟ هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره)."1"

فالبيعة إذن تعني: إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة للأمير في غير معصية في المنشط والمكره والعسر واليسر وعدم منازعته الأمر وتفويض الأمور إليه. قال ابن خلدون: (اعلم أن البيعة هي : العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يُسَلِّم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدًا للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة وعند الشجرة)."2"

نفهم من هذا أن البيعة هي إقرار بالسيادة من قبل الناس للشخص المعين والمختار عن طريق الشورى وفي نقاشنا السابق للشورى تبينا مدى الارتباك والغموض في تفاصيلها النظرية الذي ادى الى الخطأ في تطبيقاتها العملية.

 ترتبط الشورى بالبيعة ارتباطا عضويا وبنيويا أنهما مرحلتان متكاملتان لعملية واحدة هي اختيار الملك أو الخليفة وكما سكت القرآن عن تفاصيل الشورى سكت عن تفاصيل البيعة فانتقل الغموض والارتباك من الشورى الى البيعة عضويا وبنيويا.

فلا أحد يعرف على وجه الدقة من هو الذي يحق له أن يبايع؟ ومن يحق له الاعتراض على البيعة وبأي معيار؟ وهل البيعة تشمل الجميع أم هي مخصوصة بطبقة معينة من المسلمين.

لدينا إشارة تفيد جواب السؤال لمن الحق بالشورى والبيعة تحصلنا عليها من مراسلة للإمام علي في كتابه الى معاوية؟ وإليك نص الكتاب:

من أمير المؤمنين علي بن ابي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يَرُدَّ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارجٌ بطعن أو بدعة ردُّوهُ إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتِّباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولّى» "3"

هذا هو رأي الإمام علي في الشورى والبيعة (إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار) !!! وإنما هي أداة حصر في اللغة العربية مثل قولك: (إنما المال مالي) وهذا يدل دلالة واضحة وصريحة أن باقي المسلمين لا رأي لهم ولا شورى ولا بيعة وعليهم السمع والطاعة لقريش والأنصار.

فما تقرره قريش هو الاصل وأكثر من ذلك ان الإمام لابد أن يكون من قريش حسب قول النبي: (الائمة من قريش) وهذا هو نفس الاحتجاج الذي أحتج به المهاجرين على الأنصار في موضوع السلطة وقولهم للأنصار نحن الخلفاء وأنتم الوزراء عندما حدث الصراع على الخلافة في سقيفة بني ساعدة.

فمن أعطى قريش هذه السلطة؟ القرآن أم النبي أم موافقة جميع المسلمين؟

هناك نمط آخر دل على البيعة عبرت عنه آيات البيعة ولكنها لم تشر إلى تلك الإشارات التي وردت في كلام الإمام علي الى معاوية. فلم تحدد في أن البيعة هل كانت لانعقاد الولاية أم لأجل أمر آخر؟ وهل البيعة هي للشورى أم هي التي تخلق الولاية؟

كل ذلك غير واضح ولا مفصل ولا مستفاد من الآيات اللهم إلا أن أصل البيعة وارد فيها صريحاً ومن يدقق ويحقق النظر في تلك الآيات يرى بوضوح كامل أنها مخصوصة ببيعة النبي حصرا على قبول الإسلام كدين وقبوله هو كرسول.

البيعة في العهد النبوي

بايع الناس النبي نساء ورجال بيعات مختلفة غير مكررة كبيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية وبيعة الرضوان ثم توالت بيعات الأفراد والجماعات والقبائل المعتنقة للإسلام وجل هذه البيعات كانت مرة واحدة في العمر.

وجل مراسيم هذه البيعات كانت بالمصافحة يدا بيد وبالقول نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ونبايعك على السمع والطاعة.

آيات البيعة في القرآن.

1 ــ {يا أيُّها النَبيُّ إذَا جاءَكَ المُؤمِناتُ يُبايعنَكَ على أنْ لا يُشرِكنَ بِاللهِ شَيئاً وَلا يَسرِقنَ وَلا يَزنينَ وَلا يَقتُلنَ أولادَهنَّ وَلا يأتينَ ببُهتان يفتَرينهُ بينَ أيديهنَّ وَأرجلهنَّ وَلا يَعصينَكَ في معروف فبايعهُنَّ وَاستغفرْ لهنَّ اللهَ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ}. (سورة الممتحنة، الآية:(12). وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة النساء.

2 ــ {إنَّ الذينَ يُبايعُونَكَ إنَّما يُبايعونَ اللهَ، يدُ اللهِ فَوقَ أيديهم، فمن نكث فإنَّما يَنكُثُ عَلى نَفسِهِ وَمَنْ أوفى بِما عاهَدَ عَليهُ اللهَ، فَسيؤتيهِ أجراً عَظيماً} (سورة الفتح، الآية: 10). {لَقدْ رَضيَ اللهُ عَنِ المُؤمنينَ إذْ يُبايعُونَكَ تَحتَ الشجرةِ فَعلِمَ مَا في قُلوبِهم فَأنزلَ اللهُ السّكينَةَ عَليهِم وَأثابَهَم فَتحاً قريباً}. (سورة الفتح، الآية:18) وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة الرضوان أو الشجرة وكانت تحت شجرة سمر بالحديبية.

الواضح وضوح الشمس من سياق هذه الآيات أنها تتحدث عن بيعة الناس للنبي ودينه وهي مقدمة لدخول الناس في الإسلام وإن الله لم يعطي السلطة والخلافة لقريش ولا أشار مجرد إشارة ولو مجملة الى ذلك فصدق قول مسلمة الحنفي إن قريش قوم يعتدون.

أما قريش فأذكر لك مناظرة ابن عباس مع ابن الزبير في حكم المتعة حتى يتبين لك أيها القارئ الحصيف مدى وضاعتهم وحقدهم بعضا على بعض وهم أولاد عمومة.

 خطب ابن الزبير بمكة المكرمة على المنبر وابن عبّاس جالس مع الناس تحت المنبر فقال: إن ها هنا رجلاً- يقصد ابن عباس- قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء حلال من الله ورسوله، ويفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس، وترك المسلمين بها يرتضخون النوى، وكيف ألومه في ذلك، وقد قاتل أُمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى الله عليه وآله ومن وقاه بيده؟

فقال ابن عبّاس لقائده سعد بن جبير بن هشام مولى بني أسد بن خزيمة: استقبل بي وجه ابن الزبير، وارفع من صدري، وكان ابن عبّاس قد كفّ بصره فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير، وأقام قامته فحسر عن ذراعيه، ثم قال:

يا ابن الزبير: أما العمى فإن الله تعالى يقول: (فإنّها لا تعمي الاَبصارُ ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور)، وأما فتواي في القملة والنملة فإن فيها حكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابك، وأمّا حملي المال فإنّه كان مالاً جبيناه فأعطينا كلَّ ذي حقّ حقّه، وبقيت بقية هي دون حقّنا في كتاب الله فأخذناها بحقّنا.

وأمّا المتعة فسل أُمّك أسماء عنها إذا نزلت عن بردي عوسجة، وأمّا قتالنا أُمّ المؤمنين فبنا سميت أُمّ المؤمنين لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها، ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فما أنصفا الله ولا محمداً من أنفسهما، أن أبرزا زوجة نبيه صلى الله عليه وآله وصانا حلائلهما.

وأمّا قتالنا إيّاكم فإنّا لقيناكم زحفاً، فإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم منّا، وإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيّانا، وأيم الله لولا مكان صفية فيكم، ومكان خديجة فينا، لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظماً إلا كسرته.

فلمّا عاد ابن الزبير إلى أُمه سألها عن بردي عوسجة؟

فقالت: ألم أنهك عن ابن عبّاس وعن بني هاشم فإنّهم كُعُمُ الجواب إذا بُدِهوا.

فقال: بلى، وعصيتك.

فقالت: يا بني، احذر هذا الاَعمى الذي ما أطاقته الاِنس والجن، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها فإياك وإيّاه آخر الدهر."4"

تنبه لقولها فضائح قريش ومخازيها!!!

للحديث بقية.

 

 سليم جواد الفهد 

.................................

المصادر:

1- "لسان العرب مادة (بيع) (8/26)".

2- مقدمة ابن خلدون ص 209.

3- نهج البلاغة، ضبط الدكتور صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، من كتاب لأمير المؤمنين إلى معاوية، ص 366 ــ 367.

4- محاضرات الاَدباء للأصفهاني، ج ۳ ص ۳۱٤.

 

في المثقف اليوم