قضايا

الإسلام والعلمانية وتحديات حقوق الإنسان (2)

علي رسول الربيعيالخطاب الإسلامي الحديث وحقوق الإنسان

أريد أن أقول أبتداءً بعبارة ملطفة مخففة، كان تعامل المسلمين مع الحداثة بطيئاً. وإن العمل المنهجي للفكر الديني الإسلامي مع الأخذ في الاعتبار الازدواجية الموروثة بين الأبدية الدينية والمتغيرة علمانيًا، قد تقدم ببطء. وإن التفسير الأكثر منهجية أمر ملح واساس  من أجل اشتقاق رؤية إسلامية للعالم تتوافق مع التوليف الفكري الجديد بين الإسلام التاريخي التقليدي الراكد نسبيًا والوضع المتغير باستمرار للعالم الحديث. يعتمد الدخول في خطاب حقوق الإنسان، بالنسبة للفقهاء والمفسرين المسلمين، على إعادة النظر في تفسير وفهم القرآن والأحاديث النبوية إلى حد كبير حتى يتم الحكم على مطابقة وتشويه الإسلام التاريخي للقصد الأصلي للوحي الإسلامي. على سبيل المثال، كان يمكن لبعض الاعتراف من قبل الفقهاء والمفسرين بالوظيفة المعرفية للضمير الإنساني في التقييم الأخلاقي، والبعد العالمي للطبيعة البشرية المشتركة أن يؤدي الى استخلاص احكام شرعية وأخلاقية تمنح مبررًا غائيًا لبعض التشريعات المطلوبة لتحسين الحلول الكلاسيكية للعلاقات بين البشر والعلاقات الدولية. والأهم من ذلك، أن فهم المساواة الأساسية لجميع البشر بناءً على قدرتهم البديهية على التمييز الأخلاقي يمكن أن تكون مصدراً مهماً لتلك الأحكام التشرعية "القضائية" التي تطلب من المجتمع الديني أن يعمل من أجل الصالح العام لجميع البشر. مهما كان الفهم العقلاني للنظام الاجتماعي العادل مجرّدًا وغير متناسق مع الطبيعة الإنسانية التي تسعى إلى تحمل المسؤولية عن إنشاء نظام سياسي أخلاقي من شأنه أن يعد المسلمين لتعزيز المطلب القرآني للعدالة كبنية للحد أدنى المطلوبة للعلاقات الصحية بين البشر والمبنية على المساواة بينهم جميعاً بغض النظر عن عقيدتهم أو عرقهم.

يقع على عاتق المفكرين والفقهاء والمفسرين المسلمين الذين يعملون في مجال حقوق الإنسان إشراك اللاهوت أو علم الكلام  الإسلامي بدلاً من الشريعة الإسلامية حتى يقنعوا المدافعين العلمانيين عن حقوق الإنسان بأن يأخذوا الشمولية الإسلامية ولو بالحد الأدنى على محمل الجد. يمكن أن يطور اللاهوت الإسلامي بشكل عام، والأخلاق اللاهوتية بشكل خاص، أطروحة حول القانون الطبيعي في الإسلام وعلاقته بالحقوق الطبيعية غير القابلة للتصرف للبشر على أساس المساواة بين البشر. بعد كل شيء ، يمكن أن تكون  فكرة القانون الطبيعي مؤشراً على ما هو  حسن أو خيرأو سيئ جوهريًا هي حجر الزاوية في الأخلاق اللاهوتية الإسلامية. علاوة على ذلك، فأن موضع الاهتمام، في جزء كبير من نظرية القانون الطبيعي ، مع مسألة الصالح العام (المعروف)، التي تدعي الإنسانية إلى العمل في بناء العلاقات بين الجماعات بما يتجاوز تلك التي تعتبرها المعايير الشرعية من أجل المجتمع المسلم،  نقطة انطلاق منطقية للبحث عن أسس حقوق الإنسان في الإسلام.

إن  التعبير عن الجنس البشري كمجتمع أو أمة عالمية، أيً ربط البشرية كمجتمع عالمي، أنطلاقا من العقيدة المركزية للقرآن على أساس الطبيعة المشتركة والثابتة والأبدية للبشر، مرتبط بإعادة صياغة النظرية الإسلامية للقانون الطبيعي (بما يقبل نظرية القانون الطبيعي)، والتي لديها إمكانية تطبيق القيم المرتبطة بالعلاقات بين الله والمجتمع والفرد عالمياً. إعادة صياغة مصادر المساواة الإنسانية في الإسلام يعني إيجاد طرق لإحداث تغيير في التفكير الإسلامي المعاصر حول أنماط العلاقات الناشئة من خلال دمج الخلافات الموروثة في العلاقات الاجتماعية الجديدة: العلاقات السياسية في سياق خطاب حقوق الإنسان. على هذا النحو ، لا يمكن لنظرية القانون الطبيعي الإسلامي أن تلامس علاقة الإنسان بالله فحسب، بل أيضًا علاقة الإنسان بالحقيقة، والحكم، والآخر. يمكن أن تؤثر على كل من المجالات الخاصة والعامة للوجود الإنساني. ولهذا السبب، عند تطوير وتأسيس معايير حقوق الإنسان العالمية في الإسلام، لا يجب على المفكرين المسلمين أن يتعاملوا مع النظام القضائي التاريخي الذي تم تثبيته وتجميده في زمن تتشريع أحكامه فقط؛ بل عليهم أن يعيدوا النظر في الأسس اللاهوتية الأخلاقية المتصلة بالإجراءات التشريعية (القضائية) وأدارتها، المستنبطة بشكل صارم من العالم الأخلاقي للقرآن أيضًا.إن هذا العالم الأخلاقي مرنًا وقابلًا للتكيف بشكل غير معتاد في توفير أحكام عادلة لمعاملة متساوية لجميع البشر كنتيجة مباشرة لكونهم يولدون بطابع عالمي.

كما هو متوقع ، فإن التحدي الفكري للتحديث، الذي يؤثر على إعادة صياغة التراث، لاستنباط الإمكانات العالمية للأخلاق اللاهوتية في المجتمعات الإسلامية، قد تتضمن استرجاعًا انتقائيًا للتقليد القديم في التعبير عن الجديد المـُلزم فيما يتعلق بـ الأغراض العامة للوحي الإسلامي. فبينما كان يُخشى من أن الاسترجاع الجديد للنص الذي تم الكشف عنه وتفسيره لمواجهة تحديات العصر الجديد على أنه تهديد لنمط قائم من القيم والمعاني، فقد تم الترحيب به على أنه تحدٍ لخلق قيم ومعاني جديدة أحيانًا، خاصة في سياق الحكم الديمقراطي وحماية حقوق الإنسان. من أجل استعادة الثقة في الدور الجوهري للأستنباط في تمييز القيم الأخلاقية وتأثيرها على أساس عقلاني للمساواة بين جميع البشر الذين يتقاسمون القيمة الأخلاقية ، لا يمكن للمسلمين تجاهل العلاقة بين الأخلاق اللاهوتية والقيم العلمانية الحديثة التي تطلب الاعتراف بسلطات قاضائية منفصلة في التعامل مع الأمور الدينية والدنيوية والخاصة والعامة.

إن فهم أزمة التحديث في الفكر الديني الإسلامي، والدور الذي يمكن أن يلعبه دين مثل الإسلام في التفاوض حول  نظامه الأخلاقي العام ، هو أمر بالغ الأهمية لإعادة صياغة إسلامية داخلية قائمة على العقائد الأساسية في الأوضاع الاجتماعية والسياسية للدولة القومية الحديثة. وبالتالي، فإن التعاون الفكري بين التحديث والنخب التقليدية في العالم الإسلامي أمر حاسم لتحييد أي آثار سلبية للقيم الدينية والثقافية التقليدية التي تعيق ظهور إجماع ضروري لحل أزمة التحديث وظهور بيئة سياسية تفضي إلى ضمان حقوق الإنسان.

G. S. Hodgson, The Venture of Islam: Conscience and History in a World Civilization (Chicago: University of Chicago Press, 1974), vol. 3, p. 166.

أرى أن هناك أزمة إبستمولوجية (معرفية)  في "العلوم" الدينية الإسلامية. هذه الأزمة هي نتيجة لتفكك العلاقة بين اللاهوت والأخلاق والأحكام الفقهية التشريعية في التقاليد الإسلامية. ما لم يتم التحقيق في الافتراضات المسبقة العقائدية والأخلاقية والفقهية للتقاليد القانونية المبكرة وشرحها من جديد، سوف تستمر الأزمة في تقديم اعتذار إسلامي فقير فكريًا، والأهم من ذلك أنها تؤدي إلى نتائج  اسلامية عكسية أخلاقيا. كشفت الحساسيات الأخلاقية ومطالب الإسلاميين أن النصوص يمكن أن تعمل معًا لحل الأزمة المعرفية. أدى الافتقار إلى التاريخية في تحليل المواد الأولية باستخدام الأدوات الأخلاقية الدقيقة إلى  تخفيض وتبخيس قيمة الحياة البشرية، التي وقعت في مرمى نيران الصراعات السياسية. عندما تصبح التقاليد التي علمت ذات مرة احترام حتى كرامة الحيوان مصدر الآراء غير القانونية التي تبرر التفجير الانتحاري للمارة الأبرياء  والتقتيل من قبل جماعات باسم الدين، فقد حان الوقت لإعادة النظر في التوجيهات الأخلاقية للقرآن وتعاليم النبي التي تذكر إنه قال: "لقد جئت مكملا لمكارك الاخلاق" ، ايً أنه كُلف بإكمال الفضائل النبيلة  للإنسانية.

إن إحدى الفضائل النبيلة الأساسية التي جاء الرسول لتعليمها هي كرامة الإنسان كإنسان. ينقل "الإمام البخاري"، كان النبي جالسًا برفقة اصحابة عندما مر نعش يحمل يهوديًا، وكان من عاداته الوقوف عندما يمرّ نعش، وقف، فقال له أصحابه أن الشخص المتوفى يهوديًا، فأجاب: "أليس إنسانًا؟" تكشف مثل هذه التقاليد عن إمكانية تصور نظام حقوق الإنسان في التقاليد الإسلامية  يحترم الكرامة الإنسانية بغض النظر عن العقيدة.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم