قضايا

عيد الفطر بنكهة كورونا

محمود محمد علي"عيدٌ بأيّ حالٍ عُدتَ يا عيدُ .. بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ".. هكذا قالها الشاعر أبو الطيب المتنبي قبل أكثر من 1000 عام .. العيد مناسبة إيمانية جميلة.. العيد موعد ولقاء تتجلى فيه المعان الإنسانية والاجتماعية والنفسية.. نعم .. العيد مظهر من مظاهر العبودية لله عز وجل، صلاة وذكر ودعاء، تصافح وتآلف وتألق وتعانق، ود وصفاء وأخوّة ووفاء، لقاء ات مغمورة بالشوق والعطاء والمحبة والنقاء.. العيد واحة سرور وبهجة، يستقبله المسلم بالفرح والعطاء والابتسامة والهناء، نعم.. إنه يغمر نفوس الصغار بالفرح والمرح، والكبار بالشكر والذكر، والمحتاجين بالسعة واليسر، والأغنياء بالعطاء والمدّ، يُمللأ القلوب بهجا وأنسا، والنفوس صفاء وحبا، فتُنسى فيه الخلافات، ويحصل الجمع بعد الفراق، والصفاء بعد الكدر، والتصافح بعد التقابض، نعم.. العيد تتجدد فيه أواصر الحب ودواعي القرب، فلا تشرق شمس ذاك اليوم إلا والبسمة تعلو الشفاه، والبهجة تغمر القلوب.. العيد تبتسم له الدنيا، أرضها وسماؤها، شمسها وضياؤها، فما أجمل العيد.

بيد أنه  ولأول مرة يأتينا للأسف الشديد عيد الفطر المبارك هذا العام، وقد اجتاج فيروس كورونا المستجد العالم من أقصاه إلي اقصاه، وحبس المواطنين داخل منازلهم، خوفاً من انتشار هذا الفيروس القاتل.. يأتي العيد هذا العام، وقد أغلقت "الشواطئ والحدائق والمتنزهات وساحات الصلاة وتوقفت وسائل المواصلات"، كإجراءات احترازية للوقاية من المرض الفتاك..

لذلك عيد الفطر هذا العام (إستثنائي) حيث يأتي في ظل قيود وقرارات وتشديد للإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الدولة لحماية المواطنين من تفشى فيروس (كورونا) المستجد، الذي فرض تداعياته مسئولية كبيرة على الجميع حكومة وشعبا، ونصائح للصحة العامة للممارسات والتجمعات الاجتماعية والدينية خلال عيد الفطر.

من ذا الذي كان يتصوّر، في مثل هذه الأيام قبل عام مضى، أن عيد الفطر المقبل سوف يطل فيما العالم يبدو كأنه مقلوب رأساً على عقب، يكاد يجهل تماماً أي وجهة يمضي؟ بكل تأكيد، لا أحد، فما يعلم الغيب سوى علام الغيوب.. هل أن مأزق فيروس «كورونا» هو وحده المسؤول عن وصول الكوكب إلى هكذا حال؟ كلا، من الظلم للفيروس الظالم، وبلا نسيان حقيقة أنه أوجع الناس، وأقض المضاجع في مشارق الأرض والمغارب، القول إنه لو لم يفاجئ البشر بحضوره البشع، لكانت البشرية تنعم بوضع مثالي ليست تشوبه أي من شوائب اللاعدل التي تنشب أظافر تغوّل قوى الباطل على الحق في أماكن عدة من المعمورة. مع ذلك، أيمكن الافتراض أن بوسع المسلمين والمسلمات في مختلف بقاع العالم، استقبال عيد الفطر بما يتيسّر من إحساس سعادة تغمر النفس، رغم جبال أحزان تجثم على صدور الكثيرين؟ وذلك كما قال بكر عويضة في مقاله عيد رغم «كورونا» سعيد..

فمنذ أن ألغى "كورونا" المصافحة باليد والتقبيل والعناق بين الأصدقاء والأقارب للحد من انتشار الفيروس بين الناس قبل أشهر، ما زال الأمر غير متاحٍ في العيد لتبادل التبريكات والتهاني  إلا من خلال الهواتف الذكية وتطبيقات الرسائل الفورية، ووسائل التواصل الاجتماعي، ستكون هناك إمكانية للتواصل الإلكتروني والافتراضي، بشكل مجاني وسريع، عبر إرسال التهاني بحلول العيد بطرق متعددة، من خلال النصوص المكتوبة أو الصور أو مقاطع مصورة، حيث كانت هذه المعايدات تفيد المغتربين والمسافرين أكثر قبل زمن كورونا، في حين أنها أصبحت عامة حتى بين الجيران والبيوت التي تقع في حي واحد.

لقد شاءت إرادة الله أن تكون للمرة الأولى عيد فطر فى صمت.. كورونا يلغى احتفالات العيد ويرسم خارطة جديدة للمناسبات الدينية.. بلدان عربية أقرت حظراً شاملاً فى أيام العيد والصلاة بالمنازل.. العائلات تستعيض عن الزيارات بتقنيات التواصل المرئى.. تكاد تكون المرة الأولى التى يمضى فيها العيد فى "صمت"، دون احتفالات أو تجمعات عائلية .. هذا ما فرضه الوضع الحالى لوباء كورونا، الذى دفع عددا من البلدان العربية فى مقدمتهم مصر والكويت والسعودية والاردن لفرض حظر شامل خلال أيام العيد المبارك، وهناك بلدان أخرى مازالت تدرس القرار، ولكن أعداد الإصابات المتزايدة قد تكون مؤشرا للشكل الذى سيكون عليه احتفال العيد هذا العام.

ونظرا للأوضاع المتعلقة بانتشار فيروس كورونا فإن "اللجان الوزارية للفتوى بكافة الدول العربية تفتي بأداء صلاة العيد في البيوت جماعة بين أفراد الأسرة الواحدة أو فرادى ويمكن أداؤها لأصحاب المداومات في أماكن العمل في حدود المتاح لهم وذلك تعظيما لهذه الشعيرة وتحصيلا لثوابها وبركتها فهي سنة مؤكدة داوم عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم.. كما افتت اللجان بـ "مشروعية رفع التسبيح والتكبير من مكبرات الصوت في المساجد، وتدعو الناس الى التكبير والتسبيح والتهليل في البيوت أو حيث كانوا للمحافظة على هذه السنة وتعظيم هذه الشعيرة و لاستحضار معاني العيد وأجوائه لزرع الفرحة و البهجة في هذا اليوم السعيد"... وأشارت اللجان إلى "فضيلة اظهار الفرحة و البهجة والسرور بالعيد ونشر معاني المحبة والرحمة والتكافل في ظل احترام التدابير الوقائية والحرص على التباعد الاجتماعي وتفادي التجمعات المختلفة..

علاوة علي أنه لأول مرة تشدد وزارة الداخلية في مصر والسعودية والأردن ودول عربية كثيرة على التزام الجميع بالتعليمات المعتمدة المتصلة باشتراطات السلامة الصحية لمنع تفشي فيروس كورونا المستجد، وقواعد التباعد الاجتماعي ومنع التجمعات بجميع صورها وأشكالها وأماكن حدوثها.. وفى الجزائر، أفتت اللجنة الوزارية للفتوى، وفق الإذاعة الجزائرية، بأداء صلاة عيد الفطر المبارك في البيوت جماعة بين أفراد الأسرة الواحدة أو فرادى، وذلك نظرا للأوضاع المتعلقة بانتشار فيروس كورونا ..

واسمحي عزيزي القاري أن أنقل إليك النص الذي أجازت من خلاله هيئة كبار العلماء بالأزهر برئاسة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، صلاة عيد الفطر في ظل استمرار تفشي فيروس "كورونا المستجد". وإليكم نص البيان: الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ... وبعد: ففي ضوء استمرار انتشار العدوى بفيروس كورونا (كوفيد 19)، ومع تواتر المعلومات الطبية من أن الخطر الحقيقي إنما في سهولة وسرعة انتشاره، وأن التجمعات سبب مباشر للعدوى بهذا الوباء الخطير. ولما كانت الشريعة قد أتت بتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ودرء المفاسد عنهم. ولما كان من أعظم مقاصد شريعة الاسلام حفظ النفوس وحمايتها ووقايتها من كل الأخطار والأضرار. ولما كان الوباء العام الذي ابتليت به البشرية بمثابة الضرورة التي نتج عنها الترخُّص في بعض الواجبات الشرعية، وذلك تلافيًا لخطورة تفشيه، فإنه وبتطبيق أحكام هذه الضرورة على أداء صلاة العيد، وفي ضوء الغلق المؤقت للمساجد والمنع من التجمعات، وأيضًا في ضوء تعذُّر مراعاة الضوابط والتدابير الاحترازية في المصليات والساحات التي قد تعد في الخلاء، وأنَّ الخطر معها لا يزال قائمًا، فإنَّ هيئة كبار العلماء - انطلاقًا من مسؤوليتها الشرعية - تحيطُ المسؤولين في كافة الأرجاء علمًا بأنه يجوز أداء صلاة عيد الفطر المبارك في البيوت، بالكيفية التي تُصلى بها صلاة العيد، وذلك لقيام العذر المانع من إقامتها في المسجد أو الخلاء، وأنه يجوز أن يُصليها الرجل جماعة بأهل بيته، كما يجوز أن يُؤدِّيها المسلم منفردًا؛ لما رواه البيهقي عن عُبَيدِ اللهِ بن أبي بكر بنِ أنَس بن مالك خادِمِ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "كان أنَسٌ إذا فاتَته صلاةُ العيدِ مَعَ الإمامِ جَمَعَ أهلَه فصلَّى بهِم مِثلَ صلاةِ الإمامِ في العيدِ".

وفي نهاية مقالنا نقول مع الأستاذ محمود عبد الراضى (كما قال في مقاله "ومن يعظم شعائر الله"..اصنعوا البهجة في العيد) :" إن "الإجراءات الاحترازية" لن تمنع فرحتنا بالعيد، ولا تتعارض مع البهجة وإدخال السرور على من حولنا، وتصدير الأمل والتفاؤل بما هو قادم.. حولوا منازلكم مصدر للسعادة والبهجة، اجعلوها تصدح بتكبيرات العيد في الصباح الباكر، وارتدوا الملابس الجديدة، وضعوا الحلويات والمخبوزات على الموائد، ووزعوا "العيدية" على الأطفال، واشتروا لهم "الألعاب"، ووزعوا ابتسامة الأمل على الجميع.. هاتفوا أقاربكم تليفونياً، تحدثوا معهم، وصدروا مشاهد البهجة والفرحة، وتجنبوا الإحباط واليأس، اسمحوا لأطفالكم بالتحدث مع الأجداد "عبر الفيديو"، انقلوا الفرحة من بيوتكم لمن حولكم، واستغلوا التقنيات الحديثة في صناعة البهجة.. حولوا صفحاتكم على السوشيال ميديا مصادر للسعادة، لا تحبطوا من حولكم، ولا تنشروا اليأس والإحباط بين الناس، استعيدوا صوركم القديمة، وكثفوا الدعاء بانتهاء الغمة وعودة الحياة لطبيعتها.. التزموا بالإجراءات الاحترازية والسلامة الشخصية، بالتباعد والمسافات الآمنة، وغسل اليدين باستمرار، وعدم الخروج من المنازل إلا للضرورة الملحة، بالتوازي مع صناعة البهجة والفرحة ورسم البسمة على الوجوه، وتصديرها لمن حولكم.. لا تجعلوا هذه الظروف الحياتية الاستثنائية تمنع فرحتكم بالعيد، تغلبوا عليها واصنعوا بايديكم الفرحة والسعادة، وعظموا شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم